مسجد باريس معلم ديني و حضاري يشع على فرنسا منذ ما يقارب القرن
مسجد باريس الواقع في المنطقة الخامسة من العاصمة الفرنسية معلم ديني عريق تم افتتاحه في عشرينات القرن الماضي في لفتة اعتراف و امنتنان من الدولة الفرنسية لرعاياها من ابناء الشمال الافريقي (الجزائر والمغرب و تونس) الذين ابلوا البلاء الحسن في الدفاع عن فرنسا عندما تعرضت الى الهجوم الالماني في الحرب العالمية الاولى.
مسجد و معهد باريس بني على الطراز المعماري المغاربي : قاعة الصلاة و المحراب و المنبر و الصومعة و الساحات المحيطة به و القاعات المكونة له ( مكاتب ادارية و مكتبة و محلات تجارية و حمام و مطعم).
كل ذلك جعل من مسجد و معهد باريس أحد مكونات المشهد السياحي و الثقافي و المعماري للعاصمة الفرنسية لذلك لا يقتصر رواده الذين لا تكاد تنقطع افواجهم على المسلمين بل يرتاده السواح القادمون على عاصمة النور من شتى انحاء العالم. قال لي ذات يوم السيد عبد الحميد الشيخ رحمه الله سفير تونس في فرنسا في التسعينات من القرن الماضي (كلما اديت صلاة العيد في مسجد باريس الا و اعتراني شعور كأنني في البقاع المقدسة لتنوع الجمهور العريض الحاضر اذ ترى المغاربي و العربي و الافريقي و الاسياوي و الاروبي و حتى الامريكي في ازياء و هيأت تجسم ثراء الامة الاسلامية (و جعلناكم شعوبا و قبائل ...)
زار و لا يزال مسجد باريس كبار علماء الامة الاسلامية و صلحاؤها نذكر منهم الشيخ سيدي احمد العلاوي المستغانمي شيخ الطريقة العلاوية الذي قال : ان فرنسا التي غزت البلاد الاسلامية سيأتي زمان يعتنق ابناؤها الاسلام فكانت تلك بشارة من وراء الغيب صدقتها الايام تشهد على ذلك حركة الدخول في الاسلام من طرف مئات الفرنسيين (ان لم نقل الالاف) من كل الفئات و الطبقات: فلاسفة و مفكرين و مهندسين و أطباء و فنانين و رياضيين و غيرهم.
تردد على مسجد باريس شيخ الازهر الدكتور عبد الحليم محمود و الفيلسوف الفرنسي المسلم رنى قنون و الشيخ مصطفى فالسان و الدكتور حيدر بامات و الاستاذ مالك بن نبي و الدكتور محمد حميد الله الذي ظل لسنوات عديدة يلقي في رحاب مسجد باريس الدروس و المحاضرات و الدكتور سعيد رمضان البوطي و الشيخ محمد الغزالي و الدكتور أحمد الطيب شيخ الازهر الحالي و غير هؤلاء لا يحصى عددهم.
اما شيوخ و علماء بلدان شمال افريقيا فلا يمكن حصر اسمائهم لكثرتهم فكلما سافروا الى فرنسا الا و عرجوا على باريس و جامعها الكبير اين يلتقون برواد هذا المسجد في دروس و محاضرات و حوارات ثرية و بناءة.
حضر وضع حجر الاساس و الافتتاح لجامع باريس الشيخ المهدي بن غبريط و العلامة الشيخ أحمد سكيريج (و كل منهما من المغرب) و قد دون هذا الاخير رحلته الى باريس و زيارته لمسجد باريس نثرا وشعرا في كتاب صدر أخيرا.
و تداول على ادارة معهد و مسجد باريس كل من الاستاذ حمزة بوبكر و صاحب عديد المؤلفات العلمية باللغة الفرنسية و منها ترجمة لمعاني القرأن الكريم التي تعد من أحسن الترجمات و تولى بعده هذه المهمة على التوالي الشيخ العباس بن الحسين و الدكتور التجاني الهدام و العميد الحالي هو الدكتور دليل ابو بكر (و هو طبيب مختص) الذي تولى الى جانب ذلك رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية CFCM
وفي الاربعينات من القرن الماضي تولى امامة مسجد باريس شيخ من الشيوخ الزيتونة الا و هو الشيخ معاوية التميمي و هو من كبار علماء تونس و فقهائها ترك أطيب الاثر لما عرف به من تفتح و أصالة و علم غزير تشهد على ذلك صلاته الواسعة بمختلف مكونات المجتمع الباريسي : مسلمين و فرنسيين.
و في تسعينات القرن الماضي عرض الشيخ العباس بن الحسين و هو متخرج من الزيتونة على الشيخ محمد الحبيب النفطي حفظه الله فكرة الالتحاق بالهيئة العلمية لجامع باريس للقيام بمهمة افتاء الجالية المسلمة و ارشادها على النهج الزيتوني السني المالكي الجنيدي نظرا لان أغلب من تتكون منهم الجالية هم من بلدان الشمال الافريقي (تونس و الجزائر و المغرب) و بلدان غربي افريقيا و هؤلاء كلهم يشتركون في الخصوصيات الانفة الذكر.
و منذ تسعينات القرن الماضي و كلما سافرت الى فرنسا الا و عرجت على مسجد باريس و مكنت من القاء دروس و محاضرات نقلت البعض منها اذاعة الشرق التي تبث من باريس شعائر صلاة الجمعة و الدرس الذي يسبقها كما حضرت في رحابه عديد التظاهرات التي تقام في العشر الاواخر من شهر رمضان و ذكرى المولد النبوي الشريف و أمسيات الذكر و السماع التي تدعو اليها الطرق الصوفية و بالخصوص الطريقة العلاوية باشراف شيخها الدكتور خالد بن تونس و يحضرها جمهور غفير من كل الفئات لاسيما فئتا النساء و الشباب الذين يجتذبهما الجانب الروحي في رسالة الاسلام.
و في مسجد باريس لانه الاقدم و الاعرق يشعر داخله و مرتاده بسكينة و روحانية قوية لا يجدها في سواه من المساجد الاخرى في باريس و غيرها من المدن الفرنسية و لعل ذلك يعود الى ما لا يزال يتلى في رحاب هذا المسجد من قران كريم على مدار العام على اثر صلاة العصر كل يوم حيث يقرا جماعيا الحزب اليومي الذي يحرص على حضوره المتعلقون بالقران الناهلون من معينه العذب ، كما ترجع هذه السكينة و الطمأنينة الى حلقات الذكر التي يحرص على الاجتماع عليها و اقامتها مريدو عديد الطرق الصوفية من المغرب و المشرق و من جزر القمر و البلدان الافريقية.
لقد ظل جامع باريس طيلة ما يقارب القرن من عمر الزمان محافظا على ريادته و مرجعيته العلمية و الروحية فهو يحتضن معهد الغزالي لتكوين الائمة و ظل مسجد باريس يستقبل رؤساء الجمهورية و رؤساء الحكومات و وزراء الداخلية في فرنسا على تداولهم الذين يعطونه الاولية : ففي رحابه يجتمعون بالمشرفين على الشأن الديني في فرنسا و على اثر تلك اللقاءات الرسمية و حتى الانتخابية تصدر البيانات المعبرة عن مواقف السلطات الفرنسية في كل ما يتعلق بشأن الاسلام و المسلمين في فرنسا و أخر هذه اللقاءات جرى في أواخر شهر رمضان الماضي على هامش مأدبة افطار حضرها الرئيس الفرنسي امنيال ماكرون.
بقي ان اختم بإشارتين الاولى تتمثل في أن الدولة التونسية لدى افتتاح مسجد باريس أهدت له أول منبر أما الاشارة الثانية فهي ان المهندس التونسي جلال بن حميدة أعد أطروحة حول مسجد باريس (1985/1986) تقدم بها الى معهد الهندسة المعمارية جامعة باريس بلفيل باشراف مدير البحوث مارك بريتمان و قد تفضل مشكورا باهدائي نسخة منها.