جاء الإسلام ليجمع للمسلم بين سعادتي الدنيا والآخرة
انه لمن خطل الرأي أن يتوهم متوهم أن الدنيا عدوة الآخرة على وجه العموم وان المنعمين في الآخرة هم وحدهم أولئك الذين عاشوا في هذه الدنيا أشقياء محرومين أما الذين تقلبوا بين أحضان النعيم واقتطفوا من ثمار خيراتها اليانعة فقد أخذوا نصيبهم من الجنة في دنياهم هذه ولا طمع لهم في نعيم آخر سواها. هذه افتراضات قد يقولها بعض الناس وقد يتحمس لها البعض الأخر غير أنها في واقع الآمر بعيدة كل البعد وعارية من كل دليل يساندها أو برهان يقوم عليها.
وللأسف الشديد نرى هذه الفكرة تروج بين الناس وكأنها تنبع من أصل ديني وتمت إلى حقيقة عقائدية بل والأنكى من هذا أن تساق إلى تدعيمها أدلة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ازهد في ما في يد الناس يحبك الناس) وكقول الله سبحانه وتعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا)الاسراء الايات18-19-20-21، نعم لا إشكال ولا لبس ولا غموض في هذه الآيات وفي غيرها من الآيات التي تضرب على وترها ولا في هذا الحديث وغيره من الأحاديث الشريفة الأخرى فليس يعني الحديث النبوي بالزهد في ما في يد الناس سوى الابتعاد عن الطمع والاحتيال وما شابه ذلك من أوصاف ينشأ عنها الحسد والكيد وقطع الوشائج التي تكون بين العباد كما لا يعني أيضا بالزهد في ما في يد الله غير الثقة المطلقة في عدله وقضائه وقدره وبذلك تدخل الطمأنينة على قلب المؤمن بعد القيام بما طلب منه من سعي وأخذ بالأسباب.
فأين هذا مما يحاول أن يلصقه بالحديث بعض أصحاب الأهواء فيظهرون الدين في مظهر الانطواء والعجز والضعف وحاشا لله أن يكون الإسلام الذي جاء للأمة ليجمع بين الحياتين وليجعل الدنيا مطية الآخرة ومزرعة لها حاشا لله أن يكون الإسلام رجعيا أو انطوائيا أو سلبيا، الإسلام يبكت خصومه بنفس الحجج التي يستعملونها ضده (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (ولا يُقتل الغادر إلا بسلاحه) وما هذا الحديث الذي تعرضنا لشرحه بإيجاز إلا أكبر دليل على صحة ما نقول.
ولزيادة الإيضاح والدعوة إلى الفهم الصحيح النزيه نحاول أن نتفهم قليلا ما تُشير إليه الآية الأنفة الذكر فلعلها أيضا تكون حجة على من يريد أن يحتج بها ضدنا فلم يقل المولى سبحانه وتعالى من كان يريد العاجلة إرادة عمياء تصرف هم صاحبها عن كل ما سوى مراده وهذا يدخل تحته كل شيء حتى الواجبات الإنسانية فهو بهذا الاعتبار يصبح أسير تلك الإرادة الجامحة الهوجاء التي لا تتقيد بقيود ولا تقف عند حدود ومن كانت هذه حالته فقد جرد نفسه طائعا مختارا من مقومات إنسانيته التي كرمه بها خالقه وجعلها عرضة لما ذكر بعد في الآية الكريمة أما الآخر الذي تقول عنه الآية (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) إلى آخر الآية فنحن نرى إرادته مقيدة وواضحة لأنها قرنت بالسعي والإيمان وما هو هذا السعي يا ترى؟ هل هو ما اصطلح على تسميته عبادة أم هو يتجاوز ذلك الحد إلى ما هو عند الله وعند الراسخين في الدين عبادة فيشمل كل الأعمال الدنيوية التي لا يصلح شأن الفرد والجماعة إلا بها شريطة أن تصحبها النوايا الطاهرة والمقاصد النبيلة ومن هنا كانت حياة المؤمن حقلا مليئا بالخيرات التي تنفعه في معاده ومعاشه فلننظر إلى الواقعية الإسلامية في هذا الافتراض الذي يفترضه به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين يقول (لو كانت الدنيا دما مسفوحا لكان قوت المؤمن منها) ولنتأمل معا هذا الحديث الآخر الذي رواه الطبراني رضي الله عنه فإنه خير تبيان لما أجمل في الآية أو في الآيات الأخرى وأحاديث غيرها، لقد كان صلى الله عليه وسلم جالسا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جلد وقوة وقد خرج يسعى فقالوا (ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله فقال عليه السلام (لا تقولوا هذا فإنه إن كان خرج يسعى عن اولاد صغار فهو في سبيل الله وان كان خرج يسعى على ابوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وان كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وان كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
صدق يا رسول الإنسانية ورائد الواقعية لقد وضحت بما لا يترك مجالا للشك أن أعمال الإنسان إذا جردت عن الفساد والإفساد ومقاصده إذا طهرت كان كل ذلك عبادة ويؤجر عليها صاحبها ويستحق من خالقه الإكرام في هذه الدار وفي دار القرار وليست الدنيا وخيراتها المباحة إلا لنا ومن أجلنا خلقت فلنغترف من خيرات ربنا ولنشرك إخواننا في ما نتمتع به من نعيم متاح وان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام لخير أسوة فقد كان وكانوا على هذا النهج الواضح القويم ولذلك دانت لهم الدنيا وحققوا للإنسانية أسمى أهدافها النبيلة وإذا أردنا أن ننجح في جميع ما نرمي إليه من أهداف بعيدة وقريبة فلنفهم الدين كما فهموه ولنمارسه كما مارسوه وان فيه الغنى الأكبر والفوز المبين (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) صدق الله العظيم