من مغازي وعبر تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام

من مغازي وعبر تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام


شهدت ليلة النصف من شعبان من السنة الثانية للهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدثا عظيما تمثل في تحويل القبلة من المسجد الأقصى الذي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين إلى المسجد الحرام الذي هو بمكة المكرمة والذي هو أول بيت وضع للناس أمر نبيان عظيمان هما إبراهيم الخليل وابنه اسماعيل عليهما السلام بإقامة أركانه وتولى تطهيره للطائفين والركع السجود سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي جاء بالدين الخاتم دين الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). انه حدث جدير بالوقوف عنده وتملي ما فيه من المعاني والعبر والدروس التي تفيد المسلم وهو يخوض معترك الحياة ويأمل من الله سبحانه وتعالى أن تكون خطاه مسددة وموفقة. وقد أعطى القرآن الكريم هذا الحدث العظيم ما يستحق من العناية حيث أحاط بجميع ملابساته وعرض بدقة مواقف جميع الأطراف ذات الصلة به مباشرة وغير مباشرة. ولا بد من التنويه بداية انه ليس في تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام أدنى إنقاص لشأن وقدر وقيمة المسجد الأقصى والأرض المباركة المحيطة به ارض فلسطين ارض الرباط إلى يوم القيامة مثوى الأنبياء والمرسلين أفضل خلق الله عليهم الصلاة والسلام أجمعين. مكانة المسجد الأقصى محفوظة • فالمسجد الأقصى في بيت المقدس هو أولى القبلتين وهو ثالث الحرمين وهو مسرى سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام خلد الله ذكره فيما ظل يتلى ويقرأ من القرآن الكريم (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياته انه هو السميع البصير). • كما يظل المسجد الأقصى احد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) هذه هي أفضل المساجد عند الله تبارك وتعالى وهي وحدها التي يركب الراكب ويسافر المسافر وينفق ما ينفق ويبذل ما يبذل من جهد ومال في سبيل أن يصلي في احدها . • كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبر بما أعده الله من الأجر والثواب للصلاة في احد هذه المساجد الثلاثة: فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجد رسول الله بألف صلاة والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة. والأحاديث كثيرة في فضيلة بيت المقدس والمسجد الأقصى وما أعطاه لهما الله من قداسة وحرمة وأفضلية ستبقى لهما إلى يوم القيامة. سماحة المسلمين وحسن معاملتهم لغيرهم وعندما فتح الله على المسلمين بيت المقدس كتب عمر بن الخطاب لقادة الفتح أن ينتظروه ليشهد دخول المسلمين لبيت المقدس حتى يناله هذا الشرف الأثيل مثلهم ومعهم وكان دخول عمر بن الخطاب ومعه الجيش الفاتح بقادته من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الخير والبركة والسلام والأمن، دخول لم يسفك فيه دم ولم ينتهك فيه عرض ولم تسلب فيه أموال وكذلك كان دائما دخول المسلمين لكل البلدان التي فتحوها والأمصار التي حلوا بها ولا يزال عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائما وشاهدا على سماحة المسلمين ونبذهم للظلم والعدوان وإيمانهم بالتعايش السلمي بين بني الإنسان وأتباع الأديان ويكفي هنا أن نذكر بامتناع عمر بن الخطاب عن الصلاة عندما زار إحدى كنائس بيت المقدس وذلك مخافة أن يتخذ المسلمون صنيعه ذريعة لإفتكاك الكنائس ومنع أتباعها من تعبد الله فيها وليس ذلك من دين الإسلام ولا من الهدي الذي جاء به إلى الناس أجمعين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. الم يقل جل من قائل في كتابه العزيز (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ؟ فالهداية بيد الله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وما أكثرها الآيات القرآنية والأحادث النبوية التي تؤكد وتلح على هذه الحقيقة الثابتة والأساسية والتي لا محيد عنها ولا يجوز الانحراف عما دعت إليه من تسامح ونبذ لكل مظاهر التعصب والتزمت والانغلاق والإرهاب مع التأكيد والإلحاح على هذه الثوابت والخصوصيات التي يتميز بها الإسلام وينبغي أن يتقيد بها المسلمون ويلتزموا بها في كل معاملاتهم وتصرفاتهم مع غيرهم ممن ليسوا على دين الإسلام في كل زمان وفي كل مكان ومهما كانت الظروف والملابسات، وقد كان المسلمون كذلك وعلى تلك الحال من الوفاء لتعاليم دينهم ليس بشهادتهم على أنفسهم وان كانت هذه الشهادة بالحق لا موجب لردها لان دين الإسلام يعتبر الكذب والافتراء كبيرة والمؤمن كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب ولكن الشهادة بتطابق معاملات وتصرفات المسلمين عبر تاريخهم الطويل كثيرا ما شهد بها غير المسلمين من المؤرخين والدارسين المنصفين. مع التأكيد والإلحاح على هذه الثوابت والخصوصيات التي يتميز بها الإسلام وتقيد بها المسلمون إلى حد بعيد فإن ذلك لا يمنع من أن نعلن بدون تحامل ولا مبالغة أن هنالك من ساءهم أن يكون الختام للرسالات والأديان على يدي سيدنا محمد بن عبد الله عليه السلام. وقد كان يمكن أن يكون هناك مبرر لهذه الحساسية لو أن الدين الذي جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فيه تمييز بين جنس وجنس وقوم وقوم أما وهو النبي الذي بعثه الله رحمة للعالمين والذي لا فضل في دينه لعربي على عجمي إلا بالتقوى وان المبعوث بهذا الدين يعلن على الملإ لأهله وذريه (لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم فوالله إني لا اغني عنكم من الله شيئا). الإسلام دين كل الأجناس والألوان إن دين الإسلام دين مفتوحة أبوابه على مصراعيها لكل من يشهد أن لا اله إلا الله، وأمة الإسلام التي هي خير أمة أخرجت للناس تتكون من كل من يشرح الله صدره للإسلام ويهديه إلى سواء السبيل مهما كان جنسه أو لونه أو الفئة التي ينتمي إليها فالجميع من آدم وآدم من تراب. وهذا الموقف المعادي للدين الجديد وللنبي الذي جاء به من عند الله سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يعبر عن نفسية عدائية حقودة وحسودة هي في الأصل ناقمة غاضبة غير راضية بحكم الله. فمشيئة الله التي هي فوق كل مشيئة اقتضب أن لا يكون ختم الرسالات والأديان في بني إسرائيل فالله تبارك وتعالى يصطفي ويختار من يشاء من عباده (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) و(الله اعلم حيث يجعل رسالاته). ولقد تجسمت هذه العقلية والنفسية العدائية تجاه الإسلام في أكثر من قضية وأكثر من مناسبة وكان سبيل المسلمين وسبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن مهما كانت الافتراءات ومهما كانت الأباطيل والادعاءات ومهما كان البهتان ومهما كان التآمر ومهما كانت المكائد: دفع بالتي هي أحسن وصفح وعفو وفي هذه القضية بالذات فصل القرآن الكريم القول وشفا الغليل وصور الأحوال أدق تصوير حتى الأحوال النفسية. القرآن يجادل المخالفين يقول جل من قائل في سورة البقرة (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) انه ابلغ رد على السفهاء المتقولين فتغيير القبلة ليس بالاجتهاد والتشهي وإتباع الهوى ثم انه لا يتصور أن يخرج اتجاه في المشرق أو في المغرب عن علم وعن حول الله وطول الله ومراد الله انه سبحانه وتعالى هو الذي من يشاء إلى صراطه المستقيم. وأمة محمد عليه الصلاة والسلام امة الدين الذي جاء به من عند الله، أمة لا مثيل لها ولا تبلغ درجتها ومنزلتها امة أخرى، إنها الأمة الوسط ولذلك قال جل من قائل والخطاب موجه لأمة الإسلام (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) يا له من تكريم ويا له من تبجيل للأمة الوسط، أمة الاعتدال أمة لا إفراط ولا تفريط هي أمة الإسلام وهل هناك أفضل وأجمل وأيسر من المنهج الوسط وخير الأمور أوساطها، هذه الأمة هي المأمورة بإقامة الشهادة والحجة على الأمم الأخرى بما تبلغه من حق وخير وبما تجسمه من مثل وقيم هي شاهدة على الأمم كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الشاهد عليها وقد أدى عليه الصلاة والسلام الأمانة وبلغ الرسالة ووقف يعلن في حجة الوداع (ألا هل بلغت اللهم فاشهد) تحويل القبلة اختبار وامتحان • وتحويل القبلة، تماما مثل الإسراء والمعراج اختبار لإيمان المؤمنين ليتبين الصادق الراسخ الثابت من غير الصادق وغير الراسخ وغير الثابت ولذلك قال جل من قائل (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) فما صلاه المؤمنون وما صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلوات إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة لن يضيعه الله لهم، بل سيكتبه لهم كاملا تفضلا ورأفة ورحمة منه بعباده. ويعود السياق بعد ذلك إلى تصوير حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقلب وجهه متململا متمنيا إن يوليه الله قبلة غير قبلة اليهود، قبلة يحبها ويرضاها يقول الله تبارك وتعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وان الذين أوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن اتيت الذي أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما جاءك من العلم انك لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) بعد أن يصور القرآن الكريم تصويرا دقيقا الحالة النفسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤذيه إستهزاء به وبدينه بأتباعه فهم جميعا ليسوا إلا تبعا لغيرهم يعني حتى في صلواتهم! كان ذلك يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤلمه تمني تحويل القبلة بما يرضيه ويقر عينه فجاء الأمر ملبيا لهذه الرغبة وهذا التوق وآمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به كي يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام حيثما كانوا. ثم انبرى القرآن الكريم يقيم الحجة على هؤلاء الذين ينكرون على المسلمين أن يحول الله قبلتهم مع علمهم في قرارة أنفسهم أن ذلك هو الحق ومهما كانت الحجة التي يأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقناع هؤلاء فلن يقتنعوا فلكل وجهته وقبلته ولكل دينه. ويعود السياق إلى الموضوع الأصلي وفيه دعوة إلى الإعراض عن المجادلين والمشككين والمضي قدما بثبات وإصرار في إتيان ما أمر الله به يقول جل من قائل (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستقبلوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير) انه سياق عام يصلح لموضوع تحويل القبلة كما يصلح لسواه من كل مجالات وميادين الحياة التي على المسلم أن يهتدي فيها بهدي الله بعزيمة وإصرار وتسليم له سبحانه وتعالى بأنه على كل شيء قدير. المسجد الحرام هو قبلة المسلمين ثم يقول جل من قائل (ومن حيث الحرام خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وانه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) البقرة من الآية 142 إلى الآية 150 (صدق الله العظيم) يا له من تفصيل دقيق ووقوف مطول فيه الموعظة وفيه العبرة والدرس وفيه إقامة الحجة على المجادلين والمعاندين وفيه التأكيد على ان خط هذا الدين الذي جاء من عند رب العالمين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو الخط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف فيه فهو الطريق الوسط الذي جعله الله حجة على عباده من اعرض عنه هلك ولا يلومن إلا نفسه. فالإسلام في هذه القضية، قضية تحويل القبلة لا ينطلق من مركبات ولا من حساسيات ولا من حسابات الذي يهم والذي هو الغاية والهدف إنما هو مرضاة الله تبارك أولا وآخرا ومن شاء فليؤمن ومن اختار غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. • إن حادثة تحويل القبلة برهان على إن الإسلام وان كان دينا مثل بقية الأديان إلا انه يمثل الكمال في أجلى وأجمل وأعمق معاني الكمال وصدق الله العظيم حين يقول (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) صدق الله العظيم.

الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.