التمييز العنصري سلوك تأباه قيمنا الروحية والحضارية ويقف حجة عليه تاريخنا الطويل
*لقد نادى الاسلام منذ ان بزغ نوره بالمساواة الكاملة بين بني الانسان مهما اختلفت أجناسهم ولغاتهم وألوانهم وألحت الايات القرآنية والاحاديث النبوية على المساواة تركيزا لها في الانفس حتى تتوطن عليها وجسمت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنحى فكانت دعوته للناس عامة (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين)
*وبرزت في مجتمع المسلمين الاول ملامح هذا التركيب المتنوع فاذا بسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي يحتلون الصدارة في هذا المجتمع الجديد جنبا الى جنب مع ابي بكر الصديق وعمر الفاروق وعلي ابن ابي طالب يجمع بينهم جميعا الانتماء الى الدين الواحد والامة الواحدة والعبودية للرب الواحد الذي لا ينظر الى صور الناس ولا الى وجوههم ولكن ينظر الى قلوبهم وأعمالهم، لا تفاضل بينهم بالجاه او المال او النسب وانما التفاضل بالتقوى وفعل الخير الذين لا يعلمهما الا الله فالناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى (ان أكرمكم عند الله اتقاكم)
ولقد اجتث الاسلام العنصرية من جذورها واحل محلها الاخوة الانسانية والاسلامية فالناس كلهم بدون استثناء من اب واحد هو آدم ومن ام واحدة هي حواء فلم التناكر والتباغض؟ ولم التعالي والكبرياء؟ وهم اخوة في الدين الذي لا يحاسب الا على ما يصدر عن الانسان من فعل اما ما يتجاوز الانسان من جنس ولون ولغة ونسب فلا يمكن ان تكون سلما للتفاضل بين الناس في الاسلام فكل المؤمنين أخوة وواجب الاخوة يفرض التحابب بين المؤمنين ويحرم التباغض والتحاسد والتقاتل
*ولم تبق هذه المبادئ الانسانية الرائعة والمثالية التي جاء بها الاسلام حبرا على ورق او خطبا رنانة وشعارات جوفاء بل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى منذ اليوم الاول الى ان يكون المجتمع الذي يريد بناءه مجتمع مساواة كاملة شاملة في الحقوق والواجبات فوصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله وفي سبيل تجسيم هذه المبادئ وقطع من قطع ممن رفض المساواة مع بقية افراد المجتمع والامة حتى اقرب الاقارب ولم يكن هذا العمل التاسيسي في مجتمع لا يخلو من العصبية العمياء سهلا ولا ميسورا ولكنه عليه الصلاة والسلام مضى فيه باصرار وحزم مما جعل كل المستضعفين والمقهورين والمظلومين والمهمشين من بني الانسان يجدون في مبادئ الاسلام ودعوته الملاذ وقارب النجاة فاعتنقوه بإخلاص وابلوا في ساحاته البلاء الحسن
*ولم نقرأ في تاريخ المسلمين ولم نسمع عن وقوع أحداث عنصرية فقد قبل الجميع بهذا الطرح الجديد وغير المعهود وهو طرح واقعي انساني يدعو الى التآلف والتحابب والتعاون ولانه هو الكفيل وحده بالقضاء على اسباب الفرقة والاختلاف والنزاع وجاءت اوامر الاسلام ومنهياته لتكون موجهة للناس جميعا غير مفرقة ولا مميزة لا في الشكل ولا في المضمون بين انسان وانسان آخر فوقف الاسود الى جانب الابيض في الصف الاول للصلاة بل وأذن للصلاة بلال الحبشي، وقفوا جميعا الاسود والابيض والغني والفقير والعربي والعجمي على صعيد واحد وفي لباس موحد في عرفات
*ولم تقف المساواة عند حد الواجبات بل تجاوزتها الى الحقوق وراينا كيف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد غضبه عندما جاءه احد اصحابه مستشفعا في من سرق من الاشراف فقال عليه السلام (انما هلك من كان قبلكم انهم كانوا اذا سرق الشريف تركوه واذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد والله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وكان ابو ذر من احب الصحابة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عندما قال لأحد اخوانه من السود: يا ابن السوداء عاتبه الرسول وقال له: انت امرئ فيك نعرة جاهلية ولم يغضب ابو ذر بل اعترف بخطئه واصبح يضع خده على الارض ويقسم على ذلك الاسود بان يطأه بنعله حتى يميت في نفسه النعرة الجاهلية
*وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: بلال سيدنا واعتقه سيدنا (أي أبو بكر) ولن ينسى التاريخ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه موقفه من ابن عمرو بن العاص الذي ضرب القبطي فقد أعطى عمر الدرة للقبطي وقال له: اضرب ابن الاكرمين وصرخ صرخته المدوية المجلجلة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا)
*وليس المجال هنا مجال الاستقصاء والحصر لتجسيم المسلمين عبر تاريخهم الطويل لمبدا المساواة الكاملة فقد ساروا في هذا النهج مقتدين برسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام وأئمتهم وولاة أمورهم وتشربت على مر الزمان أنفس المسلمين عقلية المساواة التامة وصرت ترى ملامحها في كل زاوية من زوايا العالم الاسلامي وهذا ما يشهد به المنصفون من المؤرخين والباحثين الاجانب
*لأجل ذلك فإن ما يصدر في بعض الأحيان القليلة من تصرفات شاذة ومرفوضة يأتيها بعض الأفراد في المجتمع تجاه غيرهم ممن ليسوا من جنسهم أو لونهم، هي تصرفات مردودة على أصحابها مدانة ومرفوضة تأباها القيم الأخلاقية والدينية وتقف حجة عليها مسيرة الأجيال المتعاقبة من أبناء هذه الربوع الذين جبلوا على رفض العنصرية المقيتة وحب المساواة والأخوة الصادقة الخالصة التي تشربتها أرواحهم من معين دينهم الحنيف وحضارتهم العربية الاسلامية الانسانية السمحة، ان من يأتون مثل تلك التصرفات العنصرية المشينة شواذ والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه والاستنكار لصنيعه محل إجماع الخاص والعام