الصبر مفتاح الفرج
نعم الصحة والقوة والجاه كلها ضيوف عزيزة مرتحلة لا محالة مهما مدد لها في الإقامة وكثرت به الحفاوة ونوائب الدهر ومصائب الزمان لا تكاد تترك أحدا سالما منها آمنا من مفاجأتها بالنعمة والنقمة واليسر والعسر كالليل والنهار ما ذهب واحد إلا ليحل محله الآخر "فان مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا" وطبيعي أن يكون اقتبال الضيفين مختلفا تماما فهذا يأتيك وعلى وجهه طلاقة وبثغره ابتسامة وبيده تحفة نفيسة والآخر يجيء وعلى وجهه تجهم وبجبينه تقطيب وبيده سياط. هذا تفرح بقدومه والآخر تسر بمغادرته لا لوم على الإنسان إذا تصرف هذا التصرف فانه لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر ولم تزح له الأستار عما في الغيب وإلا لفرح بالواقع واختاره (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) فكم من مصيبة هي في حقيقة أمرها نعمة وكم من نعمة هي في كنهها مصيبة والإنسان لم يوهب صبر أولي العزم من الرسل فيتريث ويترقب النتائج والأمور بخواتيمها (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الخير منوعا وإذا مسه الشر جزوعا إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) والمطلوب إذن منا هو أن نحاول بكل الإمكانيات أن تكون في جملة ما بعد إلا وأنّى لنا ذلك إذا لم نأخذ بقسط وافر من فضيلة الصبر الذي هو مفتاح الفرج ورصيد البشر وسلاح الرسل والمصلحين وقبس الله المشع في قلوب العباد المبدد لظلمات القنوط واليأس والتشاؤم؟
الصبر كالصبر مر في مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
نعم هي أحلى من العسل قطعا العسل يتنعم به الفم والنصر والفرح تتمتع بها كل الحواس (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا) ومن وعده الله بإعطائه أجره بغير حساب كيف لا تطمئن نفسه ويهدا ضميره أو يحسب أن أجره سيتقاضاه في الآخرة فقط وهي محجوبة وبعيدة وهو يريد العاجلة قبل الآجلة كلا إن الله أطلق الأجر ولم يقيده وأجمله ولم يفصله ليأتي على جميع أنواعه وليعم كل أزمانه، فابشروا أيها الصابرون بالغنم الكبير وكيف يخاف من كانت عين الله ترعاه وعنايته تكلاه انه في حصن حصين وحرز حريز (واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا). كلمة تدخل على النفوس بردا وسلاما وتلامس شغاف القلوب فتتركها منشرحة مثلوجة يتبدد منها كل خوف وذعر وكل حزن واكتئاب، كما تبدد أنوار الصباح الوضاح فلول الظلام المهزوم.
وأي مصلحة تجني من الغضب والنقمة أو من الصراخ والعويل إذا ما طفح الكيل وعم السيل ونفذت كلمة الله وصدر حكمه؟ لو كان ذلك يحيي الموتى أو يشفي المريض أو يجلب الغنم المادي لالتمسنا له مبررا. أما وكل ذلك لا يجدي فتيلا. فأفعال العقلاء وأقوالهم تصان عن العبث.
يجب أن يزن الناس تصرفاتهم بميزان العقل وان يضبطوها بضوابط الحكمة يجب أن يصبر الإنسان صبرين صبرا على المصيبة فتكتب به الغلبة في النهاية. وصبرا على النعمة أيضا لكي لا تستفزه وتخرجه عن طوره فيتعالى عن الناس ويتصرف تصرفات الحمقى الذين ينسون أو يتناسون من أين انحدروا وأين سيكون رسوبهم في خاتمة المطاف. أفلا يحتاج هؤلاء إلى نصيب من الصبر لا يقل عن نصيب الآخرين؟
اجل كلنا في حاجة إليه كحاجتنا إلى الهواء والماء والطعام هاته عناصر بها قوام الأبدان وذلك عنصر به قوام الأرواح والقلوب، فهو الذي يقوى الثقة بالنفس والثقة بالله وهو الذي يجدد العزائم فلا يخبو لها أوار. ولقد صدق من قال (الشدائد جبال معنوية تتسلقها النفوس لتقوى) وأجاد الآخر إذ يقول: (جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي).
وها هو سيدنا داود عليه السلام يقول لربه (يا رب ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك قال جزاؤه إن ألبسه لباس الإيمان فلا انزعه عنه أبدا). ومن لبس لباس الإيمان بلغ كل سؤله مهما كان صعب المنال وكلما مني بخيبة اخذ من إخفاقه العبرة واستأنف السير من جديد إلى أن يصبح سعيدا في دنياه براحة الضمير وبلوغ الأماني وسعيدا في آخرته بالرضى بقسمة الله وتفويض الأمور إليه فيجازيه بحسن المثوبة والقبول، وما حرر المكافحون الأحرار بلدانهم من نير العبودية وبلغوا بأممهم مرفأ السلامة والسعادة إلا بما وهبوا من عزيمة فولاذية وصبر لا تفت فيه النوائب تكاثرت وتعاظمت. وما حقق أصحاب المبادئ الدينية أو السياسية انتصارا لمبادئهم وتركيزا لمذهبهم إلا بسلاح الصبر والمثابرة ذلك السلاح الذي يدك المعاقل والحصون ويهزم الجيوش الجرارة والجمع الكثير.. وما بذل المجاهدون أرواحهم في حومة الوغى إلا بما رزقهم الله من صبر على الموت وصبر على مفارقة النعيم وختاما أسوق إليك أيها القارئ الكريم هذا الحديث القدسي وفيه وعد صريح من ربك بالرحمة والتعويض لمن صبر واحتسب عسانا جميعا أن نستلهم منه ما يقوى عزائمنا ويثبت قلوبنا. يقول الله عز وجل في الحديث القدسي (إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر ولم يشكني إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له وان توفيته فإلى رحمتي).