تفسير آيات من سورة المعارج
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المسلمين
يقول الله تعالى بعد اعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ان الانسان خُلق هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا الا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون ان عذاب ربهم غير مأمون، والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك، فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون) صدق الله العظيم
هذه الآيات متصلة بالآيات التي قبلها اذ هي ايضا من سورة المعارج، وان ما تضمنته هذه الآيات في مجموعها ليبدو من الكليات التي ألح عليها القرآن الكريم في مناسبات عدة حتى ان نسقها وتسلسلها ليظهر بادئ ذي بدء كانه واحد لا يتبدل، وبين كل سياق وسياق آخر ولقد ابتدئت هذه الآيات بتأكيد صفة الهلع في الانسان الذي هو الافراط في الجزع والخوف، هذا الخوف الذي يلازمه في حالتي الضيق والرخاء والعسر واليسر فهو هلوع دائما، هلوع اذا مسه الخير يجزع ويخاف على خيره من ان يصاب بين يديه فيصبح مسلوب النعمة والعافية، وجزوع ايضا في حالة الشر لأنه يخشى ان يقضي عليه شره او ان يدوم ويتصل وينسى تماما قول ربه العلي العظيم (فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا) وان هذا الهلع ليجعل الانسان فاقد التوازن غير شاعر بالاستقرار والهدوء النفسي ومن هنا تكون السعادة بعيدة عليه كل البعد بل وتكون مشاريعه مشاريع الخائف المرتعش وهي لا تخلو من ارتجال وفوضوية وتشويش، والاسلام بقدر ما يُحارب نفسية اللامبالاة في معتنقيه يحارب نفسية الهوس والضعف والخور التي يسببها الخوف الدائم ولذلك نراه يحرص كل الحرص على سمو علاقة المسلم بربه حتى تصبح علاقة محبة لا علاقة خوف ولا علاقة طمع (ان الانسان خُلق هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا) ما أحلى كلمة المس في الحالتين وما أدقها انها لتوحي بعدم الدوام لكل ما يمس الانسان في هذه الحياة من خير او شر بل تجعل ذلك الذي نسميه انغماسا أو نراه دواما وتخليدا تجعله كله مجرد ملامسة خفيفة والتصاق عابر. ان منع الخير والبخل به يوشك ان يكون غريزة في الانسان الا من طهر لله باطنه وحفظ ظاهره وكشف عن بصيرته العجب فرأت الاشياء على حقائقها واين هؤلاء الاطهار الاخيار في وسط جماهير الاشحاء الذين يخيل اليهم ان تشريك اخوانهم البؤساء معهم في النعيم يجر لهم الاملاق والفقر ويقضي على ما بين ايديهم من نعم الله التي جعلها بين ايديهم ودائع وأمانات. ولقد ألح القرآن في عديد المناسبات على التخلص من صفة الشح المطاع وذم اولئك الأشحاء وتوعدهم بالعذاب الأليم (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب ان ماله أخلده) ولقد جعل هؤلاء المناعين متعدين آثمين اذ (مناع للخير معتد أثيم)
وقال في مقام آخر (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) ان مثل هذه التهديدات الصارخة ومثل تلك التوضيحات الشارحة يسوقها الاسلام متفرقة ومجتمعة ليخلص المؤمنين به والمعتنقين له من شرورهم الباطنية التي تفصلهم عن الجماعة او تعوقهم عن أداء رسالتهم في الكون لأن الانسان ما خلق في هذه الدنيا الا ليعمرها ولا يعمرها الجزعون الخائفون ولا المتشائمون الايسون، وهو مدعو أيضا بان يأخذ بناصر كل ضعيف ويمد يده بالاعانة لكل محتاج وانه بهذا الصنيع لا يخدم مثلا انسانية فاضلة فقط وانما يخدمها ويخدم نفسه في الآن ذاته لأن دورة الزمان التي جعلته اعلى في هذا اليوم ستواصل دورانها لا محالة فيصبح الاعلى أسفلا والاغنى افقر والمعين معانا، فلماذا لا يقدم الانسان العاقل من ايام سعادته لايام شقائه ومن ايام غناه لايام فقره؟ هذه حقائق عقلية وطبيعية يوضحها الاسلام بالايماء تارة وبالعبارة اخرى لقوم يتذكرون ولقوم يفقهون ولقوم يعقلون الا انه لا يكتفي بها وحدها لمعالجة امراض متصلة في النفوس بل يضيف اليها أدوية اخرى عملية وعاطفية تهذب المشاعر وتعمق الاحاسيس وتصقل الارواح حتى يتحقق البرء الكامل، وحتى تسلم الانسانية من تعثراتها وارتطاماتها، فهاهي الآيات تأتي بعد تأكيد حقيقة الهلع وجعله جبلة وغريزة تأتي باستثناء يقضي على تلك الجبلة والغريزة (الا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) الخ الايات فلقد جعل المولى سبحانه وتعالى عباده الذين يواظبون على الصلاة ويداومونها مستثنين من عموم أولئك الذين قال فيهم (ان الانسان خُلق هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا) وكيف لا تكون الصلاة الخاشعة الدائمة مجلبة للهدوء النفسي والسمو الروحي والتفكير الرصين العميق وهي لقاء ومناجاة وتجرد واخلاص يجعل الانسان مدركا لعجزه مؤمنا لعظمة خالقه مراقبا له في أعماله واقواله راضيا بكل ما جرى به قضاؤه وقدره؟ ولكن اين هؤلاء المصلون الذين تتحقق في صلاتهم معاني الخشوع ومعاني الاخلاص، ومعاني المداومة والاستقرار فتنهاهم صلاتهم بذلك عن جميع انواع الفحشاء والمنكر وتدفعهم دفعا الى صفات الوفاء والوضوح والمحبة والايثار لقد تحققت هذه الاشياء فعلا وانتفت سابقاتها فعلا عند قوم عرفوا الدين على حقيقته فانتفعوا به ونفعوا غيرهم.