تفسير الآية1 من سورة البقرة بقلم الشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله
قال الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدى للمتقين) ونتكلم عما ساقه المولى سبحانه وتعالى بيانا لهؤلاء المتقين وتمييزا لهم بما اختصوا به من عقيدة راسخة وعبادات صادقة فقال جل من قائل (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) وهذه الاوصاف الثلاثة التي هي الايمان القوي الثابت والصلاة الخاشعة الدائمة والانفاق من كل ما رزق الله سواء كان ماديا او غير مادي اذا اجتمعت في شخص فانها تجعله مثالا في سلوكه مثالا في اخلاقه ومعاملاته، والايمان هوالتصديق والاذعان والتسليم بحيث تُصبح النفس مُطمئنة لما آمن به صاحبها قال قتادة رضي الله عنه (يا ابن آدم ان كنت لا تريد ان تاتي الخير الا عن نشاط فان نفسك مائلة الى السآمة والفترة والملة ولكن المؤمن هو المتحامل اي المتجشم للمشقة والمسيطر على نفسه وان المؤمنين هم المعجاجون الى الله في الليل والنهار (اي الذين يرفعون اصواتهم بالتلبية والدعاء الى الله) وما زال المؤمن يقول ربنا، ربنا في السر والعلانية حتى يستجيب له ربه في السر والعلانية، والايمان بالغيب هو رأس الايمان وذروته وليس كالايمان بالمشاهد الذي يقع عليه الحس ويدركه العقل وللعلماء في تفسير الايمان بالغيب مذاهب كثيرة منهم من قال هو الايمان بالله ومنهم من قال هو الايمان باليوم الاخر وما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار وحشر ونشر وصراط وميزان، وقيل الايمان بالغيب هو خشية الله في السرائر والخلوات التي يغيب فيها الانسان عن اعين الناس، وقيل الايمان بالغيب اي بالضمائر والقلوب على عكس المنافقين الذين يؤمنون بالافواه والشفاء وهذه الاقوال كلها متفقة في الغاية والهدف لأنها تؤكد في مجموعها معنى صدق الايمان واطمئنان النفس في المحضر والمغيب، في المحسوس وغير المحسوس، وفي الحاضر وغير الحاضر، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما آمن مؤمن مثل ايمان بغيب ثم قرأ (الذين يؤمنون بالغيب) وبعد تأكيد صفة الايمان بالغيب يذكر سبحانه وتعالى الخاصية الثانية للمؤمنين وهي اقامة الصلاة فيقول (ويقيمون الصلاة) واقامة الصلاة على ادق تأويل هي المداومة عليها والاتيان بها مستوفاة لشرائطها واركانها مؤداة كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) وللصلاة في العربية معان كثيرة منها الدعاء قال الله تبارك وتعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم (وصل عليهم ان صلواتك سكن لهم (اي ادع لهم) وقالت اسماء بنت ابي بكر الصديق لما ولدت ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ارسلته الى النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه وصلى عليه (اي دعا له) وقال عليه الصلاة والسلام (اذا دعى احدكم الى طعام فليجب فان كان مفطرا فليطعم وان كان صائما فليصل (اي فليدع) وتطلق الصلاة ايضا على الرحمة ومنها (اللهم صل على محمد) اي ارحم محمدا، وتطلق الصلاة على مطلق العبادة ومنه قوله تعالى (وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء وتصدية) اي ما كانت عبادتهم، وتطلق الصلاة على القراءة ومنها قول الله تعالى (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) اي بدعائك، وهي ايضا من الصلة لأنها تصل الانسان بخالقه من اقرب سبيل والصلاة في هذه الاية عامة للنفل والفرض وليست مختصة بالفرائض فقط وفوائدها اكثر من ان تحصر لانها اعظم وسيلة من وسائل القوة والقرب ولأنها العون على كل شدة (يا ايها الذين امنوا استعينوا بالصبر والصلاة ان الله مع الصابرين) ولانها وقاية من الاثم والفجور لمن أداها خالصة لوجه الله لا يشرك به احدا تنهاه عن كل فحشاء ومنكر قال تعالى (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وهي وسيلة من وسائل تسهيل الرزق (وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى)، وهي ايضا شفاء من كل داء روى ابن ماجة عن ابي هريرة رضي الله عنهما انه قال (هجر النبي صلى الله عليه وسلم فهجرته) اي ذهب في الهاجرة والقيلولة فصليت ثم جلست فالتفت الي صلى الله عليه وسلم ثم قال (اشتكيت بردة قلت نعم يا رسول الله قال: قم فصل ان الصلاة شفاء وكان صلى الله عليه وسلم اذا ضر به امر (اي اشتد عليه) فزع الى الصلاة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو افضل اسوة يقتدى به وتقتفى خطاه وبعد استيفاء الصفة الثانية وهي الصلاة يقول سبحانه وتعالى (ومما رزقناهم ينفقون) وما اجمل التعميم في الرزق وفي الانفاق فان قوله (ومما رزقناهم) يوصي بتعميم الرزق المخول للانسان سواء اكان قوة عقلية او قوة علمية او قوة بدنية او قوة مادية اعطاها المولى سبحانه وتعالى للعبد لا لينتفع بها وحده بل لينتفع وينفع وينفق على نفسه وينفق على المحتاج من عباد الله فلا معنى اذن لحصر الانفاق في الزكاة ولحصر الرزق في المادة وحسب روى مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم (دينار انفقته في سبيل الله ودينار انفقته في رقبة ودينار اعطيته لمسكين ودينار انفقته على أهلك أعظمها اجرا الذي انفقته على أهلك )