ومن الناس من يعجبك قوله ...

ومن الناس من يعجبك قوله ...


(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِب الفساد وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (صدق الله العظيم ) الآية 204 وما بعدها سورة البقرة قسم المولى سبحانه و تعالى عباده إلى انواع و ذكر خاصية كل نوع حتى يرجع كل فرد إلى أصله ، وينمى كل قسم إلى فصيلته فقال جل من قائل : ( و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الحرث و يهلك الحرث والنسل و الله لا يحب الفساد و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبأس المهاد ) انه لوصف دقيق لأولئك الذين انعدم الانسجام بين بواطنهم و ظواهرهم . و هم أشرار الناس الذين ألفوا أن يعيشوا على وجهين. ( وذو الوجهين لا يكون عند الهو وجيها ) و إذا لم يكن وجيها عند الله فلا بد أن تتكشف حقائقه للناس مهما بالغ في إخفائها. و هب انه استطاع بمهارة فائقة، و بإرادة إلهية أن يخفي حقائقه عن الناس في هذه الحياة الفانية. فهل يستطيع أن يخفيها في تلك الحياة الباقية السرمدية يوم تتولى كل جارحة من جوارحه السهام في هتك سترة و فضح مخبآته حتى يظهر أمام الناس على ما كان عليه في باطنه الدنيوي الخدوع . لا والله لن يتحقق له أبدا ماأراد . ( و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألد الخصام ) خصائص تميز بها المنافقون حتى إنها لا تكاد تنعدم عند واحد منهم ، لسان ذلق و منطق خلوب و تلدد في الخصومة و أيمان مغلظة ، كل هذه الأشياء تدعو أغلب الناس للاقتناع و التسليم . و الأخذ بظواهر الأشياء ، لأن السرائر إنما يعلمها علام الغيوب سبحانه و تعالى ، و هو وحده الذي يعين على فضحها أو افتضاحها متى أراد ، هذه حالته عندما يكون أمام الناس فكيف تكون تلك الحالة إذا أمن عيون الرقباء وخلا له الجو أو ملك من القوة و النفوذ ما يجعله لا يهاب أحدا انه سيبدو على وجهه الحقيقي و سيطلق لشروره العنان . لأن ذلك هو طبعه الحقيقي و الطبع يغلب التطبع ، فمن البديهي إذا أن تكون راحته ومتعته لا تحصلان إلا متى مارس هواياته المنحرفة و ذوقه السقيم فأينما سمع ذكر الفساد أو رأى صوره طار إليه بلا جناح لأن أي عمل من أعمال البر يقلقه و يكدر صفوه . و يحس به كجبل فوق كتفيه لأنه التزم بأن يجعله شعارا كاذبا ، فلا غرو أن ينهال عليه ضربا و تهديما كلما وجد فرصة لذلك ( و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد ) مساكين هذا النوع من المنحرفين . لم يقنعوا بشر حاضر ينتهي بانتهائهم. و لا بنوع منه يتوجه إلى معارضين مخصوصين و أعداء منعوتين بل أرادوا أن يمارسوا الشر في جميع ألوانه و صوره. لأنهم لا يقنعون إلا بالشر العظيم ولأنهم من أصحاب الشمول فكيف يمكن أن لا يكون شرهم متصفا بالشمول و أيضا لن تسلم الأرض و من عليها و ما عليها من أداء ضريبة الشر التي وظفوها على كل كائن و ما سيكون ( سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل ) انه و الله لا غراق في شمول الفساد حتى لا يشذ منه شيء و ما الإتيان بكلمتي الحرث و النسل إلا دليل على ذلك لأنهما تقبلان الحمل على معناهما الحقيقي ، و تقبلان أيضا أن نحملهما على النساء و البنين بإفساد الخلائق و إفساد الأنساب . بيد أن الله سبحانه و تعالى عقب على جميع ذلك بقوله (و الله لا يحب الفساد ) و طبيعي أن لا يحب سبحانه و تعالى الفساد و انه لا يحب المفسدين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و أن يغيروا نواميس كونه الذي أراد له التعمير والازدهار لقد جندهم إبليس ليواكبوا مسيرته و ليحققوا له أهدافه و هو الغني عن عونهما المتبري غدا منهم و من فسادهم ، فلسوف يقول لهم ( و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم ما إنا بمصرخكم و ما انتم بمصرخي ) و لا يمكن أبدا أن تطمئن نفوس المفسدين و يناموا ملء جفونهم في انتظار اليوم الموعود الذي يشك البعض منهم فيه ، و يرى البعض الآخر أن هذه الفسحة من العمر الطويل كافية للتمتع و الاستراحة موهمين أنفسهم بدوام العافية لتوفر أسبابها لديهم من ذكاء و حيطة و قوة . و كل ذلك سراب و خيالات لأنها لا تنفعهم إذا جاء وعد الله وحقت عليهم كلمة العذاب ( و كذلك اخذ ربك إذا اخذ القرى و هي ظالمة أن أخذه أليم شديد ) ، و كم تكررت صورة ذلك في الأشخاص و الأمم لا في ما قصه القرآن و حسب بل في ما يشاهد بالعيان : و إن من ران على قلبه الصلف و العناد و الجحود لينكر حتى ما تقع عليه حواسه فيغرق في ضلاله و كبريائه إلى درجة انه لا يقبل نصيحة الناصح سواء في ما يتعلق بأموره الشخصية أو في الأمور العامة والقواعد الأساسية المسلم بصحتها و لو كانت بريئة نزيهة خالية من كل قصد أو إضمار مثل قولك له اتق الله يا فلان في ما تقول و ما تفعل فانك تراه متورم الأنف معتزا بضلاله معتصما بإثمه و فسوقه . انه لفاقد للتوازن معدوم الشعور و العاطفة و لن يعود إليه توازنه و عاطفته و شعوره إلا متى أخذه ربه أخذ غزيز مقتدر سواء بلطمة في الحياة على صفحة خده المصعر أم بالزج به في نار السعير التي تكفيه ناديا و مستقرا و يكفيها طعاما و حطبا ( و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم و لبأس المهاد ) هذا نمط من الخلق قرأنا عنهم و شاهدنا لهم اضرابا و أشباها و لكنهم ليسوا وحدهم في هذا الوجود . إذ بجانبهم آخرون باعوا أنفسهم لله يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا . أموالهم و أبدانهم و أزواجهم و ذريتهم كلها فداء للعقيدة إذا سلمت عقائدهم فتلك سعادتهم التي لا تعادلها سعادة. و إذا ديست حرماتها أصبح الوجود لديهم تافها حقيرا . و أصبحت الأرض الفسيحة الأرجاء أضيق عليهم من سم الخياط. هؤلاء الأفذاذ الذين منهم صهيب الرومي الذي نزل في حقه قول ربه تبارك و تعالى ( و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله و الله رءوف بالعباد ) هؤلاء هم بناة المجد و حملة الرسالات و صفوة الصفوة من خلق الله . و هم الذين تدرأ بهم المصائب و يؤخر من اجلهم العذاب و ترحم في سبيلهم الأمم . و لنقف برهة عند حادثة صهيب التي باركها القرآن و خلدها التنزيل لتكون منارة للسائرين و آية للدارسين . لقد هب صهيب الرومي رضي الله عنه للالتحاق بالرسول الأعظم فور سماعه بهجرته التي كان يطمح إلي الرفقة فيها هب للحاق بمن لا يستطيع أن يعيش بعيدا عنه صلى الله عليه و سلم ، . فهتف في قريش قائلا : أن لي من المال ما تعلمون و من المتاع ما تشاهدون و لقد خبأت كذا عند فلان وكذا عند فلان و كذا بداري ، كل ذلك لكم حلال فخذوه أما أنا فلا حق بصاحبي فان قنعتم مني بالمال و المتاع فذلك الرشد و الخير ، و أن كنتم تريدون غير ذلك فليس فيكم من يجهل ما أنا عليه من تفنن في الرماية و الله لن يصل إلي منكم واحد حتى تكون سهامي قد نفدت و قوسي قد تكسر و اعلموا انه لا شغف لي بالحياة و لا رغبة لي في المال . أما انتم فالحياة غايتكم و المال مبتغاكم فاظفروا بخيركم تسلموا و تريحوا . فما كان منهم إلا أن لعنوه و ذهبوا للمال ، تلك كانت نفسية عبدة الطاغوت و أسرى المادة ، و ذلك كان إيمان الذين يبيعون أنفسهم لله ، و لنستعجل أيام التاريخ حتى نقف على خاتمة هؤلاء و أولئك أليست خاتمة صهيب و حزبه ، غزا و نصرا و غنى و سلامة . و خاتمة الآخرين ذلا و فقرا وحيرة ثم موتا بسيوف من يظنون أنهم اقل منهم عددا و عدة و جرأة ( و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله و الله رءوف بالعباد ) أليست رأفته واضحة جلية ، أنها تلك الرأفة التي تجعل البيع رابحا و النتائج حاصلة و أنها لنتائج كثيرة ، أهمها راحة الضمير و اطمئنان البال ، و التوق إلى مقامات الاشراف . و شرفات النعيم ، في دار الجزاء و الخلود . حيث المقام المحمود و الحوض المورود ، و يأبى المولى سبحانه و تعالى بعد تفصيل النوعين من البشر بتحديد مظاهر كل نوع و تبيان خصائصه يأبى إلا أن يختم هذا العرض بنداء حار لأولئك الذين تفاعلوا مع مفاهيم إيمانهم قائلا لهم : ( يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) أدخلوا في السلم كافة ما أروعه من تعبير و ما أدقه إنه إعلان صريح لعدم الرضى بانصاف الحلول ، و بالتلكؤ والتردد و بالتجزئة التي هي سخف و مغالطة إنه للمزج المحكم بين الإسلام في مفهومه الشامل و بين الإسلام الذي هو تحقيق لتلك الحقيقة التي ظلت البشرية تنشدها و سوف تبقى كذلك و لن تتحقق لها أبدا إلا في ظل أحكام الإسلام كما طبقها رسول الإسلام و كما طبقها خلفاؤه من بعده . الإسلام الذي هو حقيقة أزلية خالدة، و الذي هو كل لا يقبل التجزئة فهو الكامل المتكامل و لا يسمو لحقيقته إلا من كان مثله في الوضوح و الكمال و التكامل. و هذا أبسط ما يمكن أن نفهمه من طلب الدخول كافة ، ثم يعقب سبحانه و تعالى على ذلك التحذير بالغ الأهمية من الوقوع في فخاخ العدو الأول للإنسان إبليس الطريد : (و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) و أي عدو واضح العداوة و أكثر من ذلك الذي أخرج أبوينا من الجنة بوسوسته و إغراءاته الخبيثة ، ان من ألقى بزمامة بين يدي عدوه لساذج بسيط : بلى إنه المتلاعب الخبيث و من هنا كان خليقا بأن يكشف له الستار عن المصير المؤلم الذي ينتظره و ينتظر من أضله و أغراه ( فأن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فأعلموا أن الله عزيز حكيم ) حقا و الله من أنذر فقد أعذر و لا يعتبر جاهلا من تجاوز حدود القانون بعد أن علمها و تعلمها، أن زلته تلك لا تعتبر هفوة أو سقطة بل هي استخفاف و تهاون و لا يفعل ذلك إلا من توهم أن الذي سيقتص منه ضعيف القوة أو ضعيف الإدراك و التصور أما إذا علم أنه عزيز الجانب عليم بمقتضيات الأمور فلن يتوانى أمامه عن واجب ولن يتطاول عن محظور ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فأعلموا أن الله عزيز حكيم ) صدقت ربنا و قدست أسرارك و تعالت كلماتك ، اللهم ألهمنا رشدنا و لا تجعل لعدونا علينا سلطانا.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.