صور من التواصل الثقافي التونسي الليبي
(1) عاشت طرابلس عاصمة الجماهيرية عام 2007 احتفالية الاختيار عليها عاصمة للثقافة الإسلامية وقد شهدت أشهر هذه الاحتفالية انعقاد العديد من الندوات والملتقيات والمؤتمرات التي أقيمت بهذه المناسبة وشارك فيها العديد من رجال الفكر والثقافة والإعلام وهي تصب جميعها في إطار إحياء الثقافة الإسلامية والعمل على مزيد تفاعلها مع بعضها البعض ومع محيطها العالمي الذي لا انفكاك لها عنه ولابد أن يكون حضورها فيه الحضور الايجابي وقوفا في وجه دعوات العنصرية والتعصب ونظريات الصراع الثقافي والحضاري والديني، وتفاعلا مع هذه الاحتفالية بمدينة طرابلس عاصمة للثقافة الإسلامية من ربوع تونس القيروان وتونس الزيتونة وتجسيما لمعاني التواصل بين جناحي هذا الجزء من الغرب الإسلامي (تونس وليبيا) يطيب لي أنا أسجل هذه الخواطر والذكريات حفظا لها من النسيان ومساهمة بها في تقوية عرى الأخوة بين الشعبين في البلدين الشقيقين: تونس وليبيا . (2) إن صلتي بطرابلس عاصمة الجماهيرية لعام 2007 عاصمة للثقافة الإسلامية تعود إلى بداية الستينات من القرن الماضي عندما اصطحبني الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله رفقة أفراد العائلة إلى العاصمة الليبية وقد كان اختير ضمن بعثة من أساتذة الزيتونة في إطار التعاون الثقافي للتدريس في المعاهد الدينية وكليات الجامعة الإسلامية بالبيضاء وأذكر أن من بين الشيوخ والأساتذة الذين ضمتهم هذه البعثة : الشيخ الطيب بن قمرة والشيخ صالح عباس والشيخ عبد العزيز بلوزة والشيخ البشير البركاوي والشيخ عمر العداسي والشيخ عمر الواعر رحم الله الأموات وأمد في أنفاس الإحياء وكان سفير تونس في طرابلس آنذاك السيد محمد بدرة رحمه الله وكان موكولا إلى هذه البعثة التعليمية ليس فقط التدريس بل الإشعاع بالثقافة التونسية في كل المحافل والنوادي وذلك في إطار التصدي لحملات التشكيك في أصالة تونس وعروبتها وإسلامها وكانت المهمة صعبة ولكن البعثة التونسية نجحت فيها أيما نجاح. كنت صغير السن لا أزال في سنوات التعليم الابتدائي الأولى (إذ درست في مدرسة الظهرة الابتدائية بطرابلس). كان المنزل الذي سكنته الأسرة في منطقة الظهرة ملتقى أعضاء البعثة حيث كان الوالد رحمه الله بما جبل عليه من كرم وتلقائية لا يكاد يمر الأسبوع دون أن يجمع زملاءه أعضاء البعثة على وجبة طعام وكانت الحلقة العلمية تتعزز على مرّ الأيام بمن يلتحق بهم من إخوانهم وزملائهم من شيوخ طرابلس وعلمائها وأدبائها الذين اذكر منهم أسماء لامعة من أمثال : عبد السلام خليل وخليل المزوغي ومحمود خليل القندي وعبد اللطيف الشويرف ومحمد نشنوش وعبد الرحمان القلهود وفتح الله حواص ومحمود صبحي وغيرهم كثير رحم الله من مات وأمدّ في أنفاس البقية الباقية. (3) توطدت عرى الأخوة الصادقة بين أعضاء البعثة التونسية وأشقائهم شيوخ وأساتذة وأدباء طرابلس وكانت تعقد في منازل الأشقاء الليبيين وفي مسكن الشيخ الوالد في طرابلس مجالس علمية وأدبية أخوية راقية جدا كلها حب وود وكانت تتمخض عنها تحقيقات وتدقيقات لغوية وتاريخية وفقهية واذكر منها ذلك النتاج اللغوي المتمثل في مادة (قل ولا تقل) وكان للشيخ الوالد رحمه الله نشاط كبير تمثل في إلقائه لدروس عامة في مساجد طرابلس الكبرى اثر صلاتي العصر والمغرب كما كان يعد أكثر من حصة دينية توجيهية للإذاعة الليبية لا أزال احتفظ في مخطوطاته رحمه الله بمسودات بعضها وكان منها ما هو في التفسير ومنها ما هو في السيرة ومنها ما هو من قبيل المسرحية الهادفة فضلا عن القصائد الشعرية التي كان يشارك بها في الاحتفالات التي تقام في المناسبات الدينية: كذكرى الهجرة والإسراء والمعراج والمولد النبوي الشريف أو تلك التي تقام تحية للمقاومة الجزائرية والتوعية بنصرة الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه من طرف المعتدي الصهيوني وكانت طرابلس ملتقى الوطنيين من كل البلدان العربية والإسلامية يجدون -كما لا يزالون دائما- الدعم السخي والمساندة اللامحدودة. كنت صغيرا في السن ولكنني كنت اختزل الذكريات الجميلة لتلك الفترة من التمازج والتلاقي على أجمل صعيد: صعيد العلم والثقافة والأخوة الصادقة بين الشعبين ولم تزد الأيام والسنون الطوال هذه العلاقات الحميمة إلا قوة والتي امتدت إلى الأسر والأبناء في تواصل صادق بريء لا تشوبه أية شائبة. (4) واذكر أن الشيخ الوالد رحمه الله لما عاد إلى تونس توسط لدى سماحة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله وقد كان آنذاك عميدا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين كي ينتسب للدراسة بالكلية ثلة من شيوخ ليبيا وعلمائها الإعلام الذين كان تحصيلهم العلمي متينا جدا ولم يكونوا يحملون شهادات جامعية علمية وكان لهم ما يبتغون فنالوا شهاداتهم العلمية العليا من الزيتونة وهي منّة حفظوها لتونس ولم ينسوها وكانوا دائما على العهد سفراء لتونس وشعبها وشيوخها وكليتهم العريقة وقد تنادوا لما بلغهم نعي المنعم المبرور سماحة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله فجاء وفد تركب من الشيخ محمود القندي والشيخ عبد السلام خليل والشيخ محمود المزوغي وشارك مشاركة متميزة في الأربعينية التي أقيمت للشيخ الفقيد في المسرح البلدي بالعاصمة وترأسها المرحوم الدكتور الصادق المقدم رئيس مجلس الأمة آنذاك وقد تضمن عدد خاص من مجلة (جوهر الإسلام) فعاليات هذه الأربعينية لا يزال الطلب عليه كبيرا إلى يوم الناس هذا من داخل تونس وخارجها وقد ضم هذا العدد قصيد الشيخ عبد السلام خليل رحمه الله في تأبين الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله والذي يقول في مطلعه : إن فاضل والفاضلون قليل * وكذا الحياة تنعم وأفول (5) وامتد هذا التواصل بين الأشقاء الليبيين مع إخوانهم في تونس على صفحات مجلة (جوهر الإسلام) التي أسسها الشيخ الوالد وجعلها منبرا للثقافة الإسلامية تستقبل مساهمات علماء وأدباء ومفكري البلدان العربية والإسلامية فكان يكتب في مجلة (جوهر الإسلام) الأشقاء من ليبيا والجزائر والمغرب ومصر والأردن وسوريا والسعودية وباكستان وإيران والهند وحتى من يقيم في أوروبا من علماء الإسلام من أمثال الدكتور محمد حميد الله رحمه الله. وزار شيوخ ليبيا وأساتذتها تونس زيارات علمية وزيارات خاصة وكانوا دائما بين أهلهم وإخوانهم وكانوا يسرون لما يسر له أشقاؤهم التونسيون ويتألمون ويتحسرون لما آلت إليه بعض المعالم العريقة من أحوال لا تسر وعبر -على لسان الجميع الأستاذ الشيخ عبد السلام خليل رحمه الله- عن مشاعر الحسرة لما آل إليه جامع الزيتونة من فراغ علمي بعد إدماجه في التعليم العام وذلك عندما زار الجامع المعمور فوجده خاويا فارغا في قصيد بليغ سلم الشيخ الوالد نسخة منه في إحدى زياراته لتونس واختفى من بين أوراقه ومخطوطاته وتحسرت على ذلك شديد الحسرة إلى أن أهداني في إحدى زياراتي الأخيرة لمدينة طرابلس الأستاذ عمار محمد جحيدر نسخة من كتاب: الشعر الليبي في القرن العشرين قصائد مختارة لمائة شاعر وقد اختارها وقدّم لها كل من الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة والأستاذ عمار محمد جحيدر وقد وجدت أن القصيد الذي وقع الاختيار عليه للأستاذ عبد السلام خليل هو القصيد الذي فقدته ولم أجده وهو بعنوان (جامع الزيتونة بين ماض زاهر وحاضر حزين) ومطلعه: منهل الظامئين بوركت نبعا ** ظل يزجي العطاء ألفا وبضعا (6) إن حديث التواصل التونسي الليبي في طرابلس عاصمة الجماهيرية وفي تونس عاصمة الجمهورية التونسية حديث لا يملّ ولا يمكن أن يحيط بمختلف جوانب ومظاهر هذا التواصل المتمثل في ذلك الأخذ والعطاء من الجانبين تشهد على ذلك الدار العربية للكتاب بإصداراتها المتنوعة لأدباء وشعراء وعلماء البلدين كما تشهد على ذلك الأسابيع الثقافية المقامة دوريا هنا وهناك وتشهد عليه المساهمات في الملتقيات والمؤتمرات التي تنعقد في رحاب الجمعية العالمية للدعوة الإسلامية وكليتها الفتية التي يتولى التدريس فيها ثلة من الأساتذة الليبيين الذين تخرجوا من الكلية الزيتونية على أيدي أساتذتهم وشيوخهم التونسيين والذين نذكر منهم الشيخ محمد الشاذلي النيفر والدكتور أحمد باكير والدكتور التهامي نقرة رحمهم الله والدكتور علي الشابي والدكتور الحبيب الهيلة وغيرهما كما لا تزال الجمعية العالمية للدعوة الإسلامية التي يتولى أمانتها العامة الدكتور محمد أحمد الشريف وكلية الدعوة التي يديرها الدكتور محمد فتح الله الزيادي وهما المؤسستان اللتان تمخضتا عن أول مؤتمر عالمي للدعوة الإسلامية وهو المؤتمر التأسيسي وكان الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله ممن حضروه وشارك فيه مشاركة ايجابية إلى جانب علماء ودعاة كبار جاؤوا من كل بلدان العالمين العربي والإسلامي ومن خارجهما، لا تزال الجمعية والكلية تستعينان بعلماء تونس ودعاتها في تنفيذ برامجهما في خدمة الإسلام والمسلمين وبالخصوص في قارتي إفريقيا وأوروبا. (7) إن التواصل الثقافي بين تونس وليبيا لا يمكن أن تحيط به ذكريات فرد أو أفراد، انه أوسع واشمل واكبر من ذلك بكثير واعتقد انه لدى العديد من أساتذة تونس وشيوخها وأدبائها وشعرائها ومؤرخيها الكثير وكذلك لدى أشقائهم في ليبيا ما لا يمكن أن يستوعبه كتاب أو كتب، حسبي أنني ساهمت ببعض ما عشته شخصيا وما عرفته من قريب مما اغتنمت من هذه الاحتفالية بطرابلس عاصمة للثقافة الإسلامية فعبّرت عنه تحية خالصة لما يربط بين الشعبين من عرى الأخوة الصادقة التي لن تزيدها الأيام إلا قوة ومتانة لأنها خالصة لله لا تشوبها أية شائبة وما كان لله دام واتصل.
