السبيل إلى التكامل بين الكبار والصغار
ليس أحب للانسان من أن يرى مثله العليا وأهدافه البعيدة ومطامحه الحبيبة تتحقق للعيان بعد أن آمن بها المؤمنون وتحمس لها المتحمسون وأنه ليشعر في مثل هذه الحالة بنوع من السعادة الباطنية التي لا يعاد لها اي نوع من أنواع السعادة العادية تلك السعادة التي لا يقنع بها إلا ذوو الميول الحيوانية العارمة.
ومن أبرز أنواع السعادة، السعادة الباطنية وأعظمها أثرا وأشدها التصاقا بالنفوس ما يجده الإنسان من انسجام في النظريات وتوافق في المشارب بينه وبين أبناء صلبه، بل وحتى أبناء بلدته الذين يشترك معهم ويشتركون معه اشتراكا قهريا في المصير الموحد، بل وفي ظروف العيش الحاضر، ومن أجل هذه الارتباطات المصيرية كان حتما على الجيلين أن يواجها بكل صبر في توطين نفس ألوانا من المصاعب والمشاكل التي تفرضها طبيعة الحياة واختلاف الأذواق والمشاعر الأمر الذي ينجم عنه غالبا الاختلاف في تقييم الاشياء بكل تجرد وموضوعية إذ ليس سلم القيم للاشياء واحدا لدى الشيوخ والكهول والشبان ولقد بذل علماء النفس وعلماء الاجتماع مجهودات موفقة وسلطوا من عبقرياتهم الفذة وتجاربهم الموفقة أضواء كاشفة على طوايا النفوس البشرية وخباياها وأبانوا بكل وضوح مواقع الثقب والثغر التي يمكن أن يتسرب منها للبيوت وللاسر والمجتمعات الخطر الذي ينذر بالتفكك والانحلال، وما من شك في أن الحوز والتصرف والسلطان الزمني أمور يستأثر بها الكبار بحكم الاسبقيته والأولوية وامتلاك المنافع وعن هذه الأشياء يحدث النشاز وتنازع السلطات اللذان ينذران بأوخم العواقب وأعقد المشاكل ونحن إذا ما سلطنا أضواء الفكر وأردنا أن نبحث عن كثب عن أسباب هذا النشاز وذلك التنازع فلن نجد لها علة سوى الإفراط في احتكار السلطة والإفراط في التهافت عليها قبل الأوان و كثيرا من المعطيات الأساسية يجب أن يكون لها الضلع الأكبر في توجيه الأحكام وجهتها السليمة، وما هذه المعطيات إلا تلك التجربة الطويلة التي حصلت للشيوخ بموجب السياق الزمني وممارسة الأحداث والمشاكل التي عاشوها فأصبحوا بذلك قادرين على إصدار الأحكام على الأشياء وفق المنطق بكل رصانة مبتعدين عن رعونة الحكم وطفرة الشباب الذي ينظر إلى الأشياء ككل لا يقبل التجزئة والتقسيم المرحلي يضاف إلى تلك التجربة الطويلة التي اكسبت أصحابها خبرة ستقرن إلى شخصياتهم أناة وتحمل واصطبار حتما طول العمر ومصارعة الشدائد ويضاف إليها أيضا الحرص على سلامة التراث المادي والأدبي ذلك التراث الذي لحمته عرقهم المتحد وسداه دمهم المبذول بكل سخاء.
فلا غرو إذا أن نراهم شديدي الغيرة على كل ما يسمى تراثا وأن نرى الجمهرة الكبيرة منهم تلزم المحافظة وتهيم بالأصالة وليس ذلك من الإفراط والتزمت كما يدعي المتحمسون من أبنائهم الذين هم الورثة الشرعيون والمالكون الأصليون وما أصدق وأروع ما قاله المتنبي في تصوير هذا التنازع وتلك الشركة والوراثة.
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها منعنا بها من جيئة وذهاب
تملكها الآتي تملك سالب وفارقها الماضي فراق سالب
إنها لحقائق خالدة ثابتة لا يمكن لمن ينشد السعادة والاستقرار والخلود أن يتغافل عنها ولا أن ينكر وجودها إذ أن الاجيال كانت وسوف تبقى مثار الصراع والتلاقح ولا يمكن أن يثير تصارعها وتلاقحها حفيظة أحد فيجعله حنقه وسخطه متنكرا السنن الحياة ونواميس الطبيعة.
إن الحياة البشرية أرادها الله أن تكون حركة ودأبا وجهادا وأن أي ركود أو رتابة ليهدد بالتعطل والوقوف ثم بالاضمحلال والزوال، ومن هنا كان لزاما على المالكين الأصليين والحائزين المتصرفين أن ينزلوا من أبراجهم العاجية وأن لا تمتلكهم خبرتهم وتضحياتهم حتى ينكروا على غيرهم كل شيء ويظنوا واهمين أنهم يقدرون وحدهم وبدون معونة أحد أن يضمنوا للحياة سيرها المطرد وأن يحققوا للأجيال القادمة ما تطمح إليه وما لا بد أن تسهم في تحقيقه، أن ما يعاب على الشباب من غرور يقابله ما يجب أن يعاب على الشيوخ أيضا من اغترار ذلك أننا كثيرا ما نرى شيوخا وقد خط الشيب رؤوسهم ينخطرون في مصارعات ومسابقات يقيمها شباب الحي أو القرية بمناسبة عيد من الأعياد فإذا بأولئك الشيوخ يتحمسون لمن صرع وسبق ويزعمون أنهم لو كانوا مكانه لأتوا بالعجب العجاب بل قد يطغى الحماس على أحدهم فيزج بنفسه في المعترك ولا يعرف أنه شيخ هرم إلا متى أخفق في المحاولة هذه صورة واقعية تأتي على نسقها عشرات الصور الأخرى التي تتفق معها في النتيجة والهدف والأسلوب وأنها لتدفعنا إلى الاعتراف بما للقوى الشابة من خصائص وما تشتمل عليه من اقتدار وحيوية ونشاط وان غمط حقوقها وتجاهل وجودها لنوع من الانحراف يجب أن نعالجه بسرعة حتى لا نقع في ما لا تحمد عقباه، لقد رأينا بالتجربة الواقعية أن آباء محترمين لهم مراكز اجتماعية لا بأس بها ولهم ثقافة واسعة أيضا يحجبون أولادهم حجب إسقاط وحرمان ويأبون عليهم ألا أن يعيشوا عالة على أولئك الآباء حظهم حظ قواعد البيوت، ويقنع أولئك أبناءنا بقسمة الأباء وإثرتهم أو يستسلمون لها تسليما للأمر الواقع وكم تكون الدهشة قوية والأمور معقدة عندما يعجز الآباء أو يموتون، ذلك أن أبناءهم الذين سيزج بهم في الحياة ومشاكلها بدون تقديم وإعداد لا بد أن يجدوا أنفسهم عاجزين عن مواجهة الحياة بقوة واقتدار ودربة وسوف يسقط الكثير منهم تحت ضربات المشاكل والمصاعب وليس المسؤول عن سقوطهم وخيباتهم إلا آباؤهم وأولياؤهم الذين أبت عليهم العنجهية والأنانية والكبرياء إلا أن يتركوهم أطفالا ولو بلغوا سن الشباب والكهولة وهذا لعمري هو الظلم الفاحش والتصرف الارعن إلا أن أبنائنا أمانات الله بين أيدينا وأنهم خلقوا لزمان غير زماننا فلنعدهم الإعداد الصحيح ولنرحب برجولتهم المبكرة حتى يشتركوا معنا في مسؤوليات الحياة ويعيشوا تجربتها المرة والحلوة فيسقطوا إذا سقطنا ويحتاجوا إذا احتجنا ويتحمسوا إذا تحمسنا، وبذلك يكون نصيبهم نصيب الشركاء المتحملين للمسؤولية لا نصيب النظارة الذين لا ناقة لهم ولا جمل بهذه الواقعية المرنة والقيادة الذكية يمكننا أن نقرب الابعاد وأن نقضي على الفوارق وان نجعل من الجيلين المتصارعين المتشاكسين جيلا واحدا تجمعه وحدة المصير والشعور بالمسؤولية المشتركة وما أعظم المنافع التي تنجر للعائلة والامة اذا انسجمت خبرة الشيوخ وحكمتهم مع حرارة الشبان وحيويتهم وتلاقحت هذه القوى العقلية وتلك القوى العضلية فاثرت كل واحدة منهما في أختها سلبا وايجابا
إن المكاسب التي تنجر عن هذا التلاقح وذلك الانسجام لعظيمة وعميقة وإن المصاعب التي يعانيها الناس من وراء التفكك والصراع لتصبح خيالية مفتعلة وان خير ما نسوقه للتدليل على صحة هذه النظريات وعمقها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (اذا كبر ابنك واخه) اي اجعله كالأخ والصديق حتى تزول من قلبه العقد والمركبات وحتى يقبل على حياته اقبال المؤمن المتحمس واقبال الرجل المسؤول.