تفسير آيات القرآن الكريم للشيخ الحبيب المستاوي رحمه الله
يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (انا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها باذن من ربهم سلام هي حتى مطلع الفجر).
سورة القدر من السور المدنية حسب ما ذكره جل المفسرين وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة والضمير في قوله أنزلناه يعود على القرآن باتفاق، وهذا النزول لا يعني نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم لأننا نعلم أن ذلك وقع في بحر ثلاث وعشرين سنة لا في ليلة واحدة بل يعني نزوله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا بيت العزة حيث أملاه جبريل على السفرة أي الكتبة، فهذا النزول الأول هو الذي كان في ليلة القدر، وليلة القدر اختلف العلماء فيها على مذاهب كثيرة أشهرها أنها في العشر الأواخر من رمضان المعظم وفي الآحاد منها بالخصوص، وقيل أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان المعظم وأخذ به جمهور العلماء وهو المتعارف عند عموم المسلمين وقيل أيضا أنها ليلة السابع عشر من رمضان التي وقعت في يومها غزوة بدر ولكل واحد من هؤلاء جميعا سند يعتمده ويجعله أساسا لنظريته. ومن أجمل ما يقال في هذا الصدد أن الله سبحانه وتعالى غيب أشياء في أشياء فغيب اسمه الأعظم بين سائر أسمائه وغيب ليلة القدر بين سائر ليالي السنة (كما قال بذلك بعض المحققين من العلماء) وغيب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء من يوم الجمعة بين سائر ساعات اليوم وذلك لحكمة بالغة يعلمها جل شأنه ونعلم منها التحريض على التوجه إليه في أزمنة أطول وتضرعات أحر إذ لعل طول الاستعداد والانتظار يكونان في النفوس شيئا من الإيلاف الدائم والاتصال المستمر وإذا ما تحقق هذان الأمران للعبد أصبح من عباد الله الصالحين الذين يتولاهم الله ويحفظهم وينجح لهم مقاصدهم، فلا غرو إذا أن نرى المولى سبحانه وتعالى يكرر ذكر ليلة القدر في سياق التفخيم والتعظيم إذ يقول: (وما أدراك ما ليلة القدر) وقد ذكر علماء العربية ان ما أدراك إذا جاءت في صيغة الماضي فإنها تفيد التضعيف والتقليل أو التشكيك، وبعد هذا التفخم الذي فيه نوع من الإبهام يأتي بعده الجواب فيقول سبحانه وتعالى: ( ليلة القدر خير من ألف شهر) ولا يفوتنا هنا أن ننبه على وجه تسميتها بليلة القدر فقيل إنها ليلة الحكم والتقدير، وقيل أنها سميت بذلك لقدرها وشرفها من قولهم لفلان قدر أي شرف منزلة وقال أبو كر الوراق أنمل سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذات قدر ، وللعلماء في تخصيص الأفضلية بعدد الألف من الشهور أراء كثيرة ، أهمها، أن العرب تذكر الألف في الأشياء كناية عن الكثرة كما قال الله في آية أخرى: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) وقال ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك فنزلت (انا أنزلناه) الخ السورة وقال على عروة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل، فقال عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكرياء وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد اتعجب أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين فقد أنزل الله عليك خيرا من ذلك ثم قرأ: (أنا أنزلناه في ليلة القدر) فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الأمم قبلة، فألمه تقاصر أعمار أمته أن يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر وقد زادها سبحانه وتعالى توضيحا وتشريفا بقوله: ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) أي تهبط من كل سماء ومن سدرة المنتهى فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر والملائكة هم عباد الله المكرمون الذين سبق أن تحدثنا عنهم في مناسبات عديدة،أما الروح هنا فقيل أنه جبريل عليه السلام وقيل أن الروح صنف من الملائكة جعلوا على صفة تميزهم ومن خصائصهم أنهم محجوبون عن أنظار الملائكة فلا يرون كما حجب الملائكة عنا فلا نراهم، وقيل أن الروح جند من جند الله عز وجل من غير الملائكة وروي عن القشيري رضي الله عنهم أنهم صنف من خلق الله يأكلون الطعام ولهم أيد وأرجل وليسوا ملائكة وأكوان الله الفسيحة مليئة بأنواع من الخلائق التي بثت في الأرض: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير).وقيل أيضا الروح والرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في ليلة القدر ويوجد هذا القول الآية الكريمة من سورة النحل: (ينزل الملائكة والروح على من يشاء من عباده) وإن الذي تتنزل به الملائكة في هاته الليلة من كل أمر لهو الرحمة والحفظ وقبول التوبة وغفران الذنب، فعن أنس رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة أي جماعة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله تعالى. فهي إذا حرية بأن يصفها الله بأنها سلام وأمن واطمئنان فيقول: (سلام هي حتى مطلع الفجر)، فقد قال مجاهد هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى ولا يؤثر فيها على مؤمن ولا مؤمنة، وقد ذكر العلماء في علامة ليلة القدر أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها إذ قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: إن من إماراتها أنها ليلة سمحة بلجة (أي مطمئنة) لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع جعلنا الله ممن يدركها ويفوز بخيرها.