فتاوى مختارة : طعام أهل الكتاب
سئل الشيخ محمد بيرم الرابع عن الجواب الشافي في طعام أهل الكتاب المباح لنا بنص الكتاب هل يتناول ذبائحهم أم لا وهل يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا أم لا وهل يشترط في إباحة طعامهم تحقق سلامته من النجاسة أم لا؟ فأجاب الشيخ محمد بيرم الرابع بما يلي: الحمد لله وعليكم السلام المزري بسجف الغمام وبعد فقد تصفحت السؤال وأجلت فكري فيما تضمنه من المقال فإذا أمره يدور على الكشف عن ثلاثة أمور وهنا نحن نحرر فيها الكلام على طبق ما دونه أيمتنا الإعلام فنقول: أما قولكم هل يتناول طعام أهل الكتاب ذبائحهم فجوابه نعم هو متناول لها ففي البرهان شرح مواهب الرحمان وشرطها (يعني الذكاة) أن يكون الذابح على ملة التوحيد اعتقادا أو دعوى فحل ذبيحة المسلم لأنه على ملة التوحيد اعتقادا، والكتابي لأنه يدعي التوحيد سواء كان ذميا أو حربيا والأصل قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم). فأنت ترى كيف جعل الآية الكريمة أصلا في إباحة ذبائحهم وما ذلك إلا لتناول لفظ الطعام فيها للذبائح بل قضية كلام الفخر الزيلعي أن المراد بالطعام في الآية مذكاهم على سبيل الخصوص فكأنه قيل ومذكى الذين أوتوا الكتاب حل لكم إذ غير ما للذكاة اثر فيه من الطعام يحل من غير أهل الكتاب فان استدلاله بذلك النظم الشريف قال والمراد به (يعني بطعام أهل الكتاب) مذكاهم لان مطلق الطعام غير المذكى يحل من أي كافر كان ولا يشترط فيه أن يكون من أهل الكتاب واقتفى أثره في حمل الطعام على ذلك صاحب الدرر وكذلك الحموي في شرح الكنز حيث قال بعد استدلاله بتلك الآية والمراد ما تلحقه الذكاة من حميتهم لأنه خص أهل الكتاب بالذكر وما لا تلحقه الذكاة يستوي فيه الكتابي والمجوسي فثبت بهذا ما ادعيناه في صدر الجواب ثبوتا لا خفاء فيه. وأما قولكم، هل يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا فجوابه أيضا نعم يشترط في ذكاتهم ما يشترط في ذكاتنا كما يشهد بذلك تدوينهم لأحكام الذبائح عبر فارقين بين كون الذابح مسلما أو كتابيا ففي الأجناس بنقل الحموي يعتبر في الذكاة أربعة احدها في الفاعل وهو أن يكون معتقدا لكتاب سماوي منزل في دين مقر عليه. والثاني صفة في الفعل وهي ذكر الله تعالى عليه والثالث صفة في الآلة بان يكون لها حدة والرابع صفة الواقع بأن يكون فيه قطع الأوداج فهذا الكلام يدل على عدم الفرق في هذا وفي الهندية ثم إنما تأكل ذبيحة الكتابي إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء أو شهد وسمع منه تسميه الله تعالى وحده لأنه إذا لم يسمع منه شيء يحمل على انه قد سمى الله تعالى تحسبا للظن به كما في المسلم ولو سمع منه ذكر الله لكنه عنى بالله عز وجل المسيح عليه السلام قالوا يأكل إلا إذا نص فقال باسم الله الذي هو ثالث ثلاثة فلا يحل فأما إذا سمع منه انه سمى المسيح عليه السلام وحده أو سمى الله سبحانه وسمى المسيح لا تأكل ذبيحته له. وخلاصته انه تحرم ذبيحته إذا عدل عن ذكر الله تعالى أصلا أو أشرك معه غيره ولا يظر مع تصريحه باسم الله تعالى علمنا بأنه يعتقد المسيح إلاها ويوافقه ما في الشرنبلالية عن الاختيار من قوله ولو قال باسم الله وهو يعني المسيح يأكل بناء على الظاهر فهذا هو المعول عليه وأما ما نقله الحموي عن المستصفى من قوله هذا إذا لم يعتقد أن المسيح اله فان اعتقد فهو كالمجوسي فقد أوهنه ناقله فانه مخالف لعامة الروايات بظاهر قوله تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) مع قولهم المسيح ابن الله" قال وسئل ابن عباس عن ذبائحهم فقال قد احل الله لكم فقيل يهلون بغير الله فقال الذي احل ذلك منهم اعلم بما تقولون وفي الشرنبلالية تحقق اثر نقله إلى ما في المستصفى وقد قدمنا انه ينبغي الحكم على ما يظهرون لا ما يضمرون. وأما قولهم وهل يشترط في إباحة طعامهم تحقق سلامته من النجاسة فجوابه أن التحقق لا يشترط بل الشرط هو تحقق عدم النجاسة الذي هو اعم من تحقق الطهارة وخلاصة ذلك انه ما لم تتحقق النجاسة يجوز الأكل ففي شرح السير الكبير للإمام السرخسي ما نصه: ولا بأس بطعام النصارى أو اليهود من الذبائح وغيرها لقوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) ولا بأس بطعام الماجوس أكله إلا الذبيحة لقوله عليه السلام (سنوا بالماجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) قال قلت هذا إنما يدل على اصل حلية الطعام المبحوث عنه لا كون طعامهم محمولا على الطهارة فيحل أكله وإلا فلا وليس فيما نسقت دليل عليه قلت يظهر من سياق كلامه وسياقه حمل الطعام على الطهارة وسيرد عليك من تمامه ما فيه شفاء الغليل فمن ذلك ما ذكره في معرض الاستدلال على ما تقدم وهو ما روي عن سويد غلام سلمان قال أتيت سلمان يوم هزم الله فارس بسلة وجدتها فيها خبز وجبن وسكين فجعل يطرح لأصحابه من الخبر ويقطع لهم من الجبن فيأكلون وهم مجوس فعرفنا انه لا بأس بطعامهم ما خلا الذبيحة ومنه ما رواه عن ابن سيرين من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يظهرون على المشركين فيأكلون في آنيتهم ويشربون. فنلخص أن تحقق الطهارة ليس بشرط في جواز الإقدام على الأكل بل يبقى الأمر على اصل الطهارة حسبما دل عليه ما تلوناه عليك مما ليس فيه لزوم الكشف ويدل عليه أيضا ما في الهندية أن محمدا قال ويكره الأكل والشرب في أواني المشركين قبل الغسل ومع هذا أكل وشرب فيها قبل الغسل جاز ولا يكون أكلا ولا شربا حراما وهذا إذا لم يعلم بنجاسة الأواني فأما إذا علم فانه لا يجوز أن يشرب فيها ويأكل منها قبل الغسل ولو شرب أو أكل كان شاربا أو آكلا حراما وهو نظير سور الدجاجة إذا علم أن على منقارها نجاسة فانه لا يجوز الوضوء به وللصلاة في سراويلهم نظير الأكل والشرب في أوانيهم إن علم أن سراويلهم نجسة لا تجوز الصلاة فيها وان لم يعلم تكره الصلاة فيها ولو صلى يجوز له فيؤخذ من صريح هذا الكلام أن القادم على الأكل من آنية مشرك والشارب فيها غير متحقق أنها نجسة ليس بمرتكب حراما وان كان الاحتياط في الدين صرف النظر إلى الوقوف على تحقق الطهارة فرارا من ارتكاب المكروه ووزان الأكل من الآنية ووزان الأكل من الطعام لما علم أن السر في الجميع إنما هو البحث عن الطهارة والنجاسة ليس إلا إذ ما يتعلق بالذكاة قد تقدم الكلام فيه مستوفى هذا والذي شاهدناه وسمعناه ممن تقدم موثقا بعلمه ودينه الإقدام على التناول مما يجلب من بلاد الكفر من الأشربة والمركبات السكرية ونحوها فليسعنا ما وسعهم وليس هذا من اتقاء الشبهات فكفى المرء نبلا في هذا الزمان التجافي عن الهجوم على المحرمات البحتة هذا ما لدي الآن من الجواب عن فصول السؤال.