الخطاب الديني في فرنسا: في النهوض به شكلا و مضمونا
في زيارتي الأخيرة لفرنسا ألقيت عدة دروس حضرها جمهور كبير ومتنوّع في أصوله المغاربية والإفريقية و كذلك المهتدون إلى الإسلام الذين تزايدت أعدادهم في السنوات الأخيرة بسبب الاهتمام الإعلامي الكبير بما يجري في البلاد الإسلامية من أحداث الكثير منها مما لا يعطي الصورة الصحيحة على اللإسلام ومع ذلك فإن هذه الأحداث لفتت انتباه الكثير من الغربيين إلى الإسلام وأزداد طلبهم على ترجمات القرآن الكريم والكتب التي ألّفت في سيرة نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام وكان ذلك دافعا لهم كي يقتريوا من الإسلام ويتعرفوا عليه ويهتدي الكثير منهم إلى اعتناقه.
· في جامع الإصلاح بمدينة مرسيليا قام أحد الحاضرين بعد انتهاء الدرس وأخذ الكلمة وانطلق يعبر عن غضبه الشديد كيف أنه والعديد أمثاله ممن حضروا حرموا من الاستفادة مما جاء في هذا الدرس الذي ألقيته باللغة العريبة التي لا يتقنها ولا يفهم معانيها هو و العديد أمثاله واعتبر ذلك حرمانا لهم وعدم اكتراث بهم فلماذا لا تترجم لهم مضامين هذه الدروس ليستفيدوا منها؟! وقد عبرت له عن المساندة التامة له وأنه من حقّه و من حقّ أمثاله أن يستفيدوا مثلما يستفيد غيرهم من الدروس التي تلقى.
· وتكرر لي هذا المشهد في جامع سِفران حيث طلب مني السيد البكاي مرزاق رئيس الجمعية المشرفة على المسجد أن يكون الدرس الذي طلب مني القاؤه باللغتين العربية والفرنسية وقد جعلني أمام الأمر المقضى بهذا المقترح المعقول والمنطقي باعتبار أنه يعرف طبيعة جمهور مسجده اذ الكثير منهم لا يعرف اللغة العربية فبادرت رغم عدم استعدادي المسبق إلى القاء الدرس باللغتين العربية والفرنسية معتذرا عن تواضع معرفتي باللغة الفرنسية لعدم استعمالها وتفضيلي الاعتماد على الترجمة التي يتولاها البعض إن وجدوا وقليلا ما يقع ذلك واكتفائي في الغالب بإلقاء الدرس أو المحاضرة باللغة العريبة ليستفيد مما ألقيه من يتقنها فقط وهو تقصير أعترف به !!
وكان الارتياح للدرس الذي ألقيته باللغتين العربية والفرنسية كبيرا من الحاضرين الذين كانوا سيحرمون من الاستفادة وذلك لا موجب له طالما وأن الغاية هي إفادة أكثر ما يمكن من رواد هذه المساجد والمصليات التي تكتض بالمصلين من مختلف الفئات وبالخصوص الشباب المحتاج أكثر من سواه إلى معرفة الإسلام من أهل الذكر حتى لا يضطر إلى الالتفات إلى غيرهم ممن يعرضون رؤاهم للإسلام و هي رؤي يغلب عليها التشدد والتطرف وإن تلبست ظاهرا بالإسلام، وقد دفعت هذه الأفهام المنحرفة المتلقاه من تلك الجهات عبر الإنترنات والوسائط الاجتماعية المختلفة هذا الشباب إلى التشدد والتطرف والتعصب والانخراط في شبكات الإرهاب التي تتهدد الجميع بدون استثناء :المسلمين وغير المسلمين.
· لقد اقتنعت بضرورة أن يستعمل الخطاب الديني في المساجد والمصليات وعبر مختلف الوسائل والوسائط اللغة التي يتقنها الجمهور الذي يوجّه إليه هذه الخطاب وهو في فرنسا اللغة الفرنسية (والانجليزية الايطالية، الإسبانية، الالمانية وغيرهافي المناطق التي تستعمل فيها هذه اللغات) وكذلك الأمر بالنسبة للغات الأخرى التي يتكلمها الملايين من المسلمين في أروبا ولايكادون يتقنون من العربية إلا بعض الكلمات كالتكبير والتهليل والسلام والبسملة وغيرها.
· لقد أدركت كم نحن نقصّر عندما نقتصر في الخطب الجمعية والدروس والمحاضرات على اللغة العربية كما أدركت عدم وجاهة الاكتفاء في خطبة الجمعة (التي يحضرها الالاف ملزمين لأنها تسبق ركعتي الصلاة) باستعمال اللغة العربية بحجة أن ذلك لم يكن في زمن السلف الصالح ، زمن البعثة وما تلاها من العهود الطويلة أيام كانت العربية هي اللغة السائدة ومنتشرة بين المسلمين. اننا نحرم الكثيرين من الاستفادة الواسعة والكاملة بمضامين الخطاب الديني (وعموده الفقرى خطبة الجمعة) عندما نقتصر على استعمال اللغة العربية غيرمكترثين بجمهور عريض يتكاثر ويزداد على مرّ الأيام لا يتقن اللغة العربية فينصرف هؤلاء بدون فائدة تذكر ولا نبالي بالنتائج السلبية المترتبة على ذلك ولا نكلف أنفسنا حتى مجرّد التلخيص باللغة الفرنسية لمضمون الخطبة التي نلقيها باللغة العربية.(لا أنكر أن بعض الأئمة والمرشدين قليلين في العدد قد بادروا إلى إلقاء خطبهم ودروسهم باللغتين العربية والفرنسية وبدت جليا الأثار الإيجابية لذلك.
· أن تكوين الأئمة والمرشدين في فرنسا لا يمكن أن يتجاهل هذا المعطى أي ضرورة إتقان اللغة الفرنسية في تبليغ مضمون الخطاب الديني فاللغة وسيلة وواسطة لا غنى عنها في تبليغ القيم التي يراد ترسيخها في أذهان وعقول مرتادي المساجد والمصليات. نعم ان اللغة وحدها غير كافية اذ ينيغي أن يضاف إليها تكوين أصيل متين يعتمد معرفة الواقع : واقع المجتمع الذي يلقى فيه هذا الخطاب بكلّ مقوماته التاريخية والحضارية والثقافية والاقتصادية وما يقتضيه كل ذلك من التفاعل الايجابي.
· إن تكوين الأئمة ومن ينهضون بالخطاب الديني يقتضى النفاذ إلى جوهر تعاليم الإسلام ومقاصده الداعية إلى التعايش في سلام ووئام بين كلّ بني الإنسان في تسامح ونبذ لكل ما يناقضها من أقوال وأفعال وكل الانحرفات التي تتعارض مع تعاليم الإسلام من عنف وتعصّب وتطرف وتزمت.
· ان تعاليم الإسلام مثل كل الأديان السماوية تدعو إلى الرحمة و الخير والمصلحة على عمومها وشمولها والتي ترتقي بتصرفات الفرد في المجتمع إلى أرقى المستويات الإنسانية والحضارية وبذلك يكون الخطاب الديني عاملا أساسيا في تحقيق السلام والوئام الذين ينشدها الجميع والذين هما العاصم من ويلات التعصب والتزمت والتطرف والإرهاب.
· إن الحاجة ماسة وملحة لتأهيل الخطاب الديني في فرنسا وهي أولوية لا يمكن تأخير المبادرة إليها وبأسرع ما يمكن و يتحمل مسؤولية ذلك بالدرجة الأولى القائمون على الهياكل الدينية المشرفة على الشأن الديني في فرنسا وعلى رأسها مجلس الديانة الإسلامية CFCM والذي تعتبره السلطة الفرنسية الجهة المسؤولة على الإسلام والمسلمين في فرنسا وقد مضت على تأسيس هذا المجلس سنوات ولا يزال مردود عمله في هذا المجال متواضعا جدّا وقد تداول في الاشراف على حظوظه (الجزائري والمغربي وأخيرا التركي) وفي كل مرة تجدّد هياكله تستقبل هيئته من طرف السلطات الفرنسية في أرفع مستوياتها أخرها الإجتماع الذي جرى في آخر شهر رمضان بين الرئيس إمنيال ماكرون وأعضاء هذا المجلس ويكاد يكون موضوع هذه اللقاءات الرسمية والبروتكولية واحدا ألا وهو النهوض بالخطاب الديني المروّج في المساجد والمصليات والذي ظلّ يراوح مكانه ولا يكاد يشهد تطورا إيجابيا يذكر إذ يراد منه أن يقدم الإسلام على حقيقته: دين التعايش والتسامح، دين السلام والرحمة ودين التحضر والتمدن التي يتحقق بها للمسلم في فرنسا الاندماج الايجابي في الشكل والمضمون مع مجتمع الاحتضان الذي هو المجتمع الفرنسى بكل خصائصه ومكوناته.
إن الجميع في فرنسا :السلطات في أرفع مستوياتها ابتدء برئيس الجمهورية إمنيال مكرون وذلك ما عبّر عنه صراحة في خطابه الأخير الذي وجّهه للمشرفين على الشأن الإسلامي في فرنسا وكذلك الجالية بمختلف مكوناتها وبكل فئاتها وبالخصوص الأجيال الصاعدة وهي بعشرات الآلاف في انتظار النهوض بالخطاب الديني في شكله ومضامينه التي ينبغي أن تكون بناءة إيجابيةَ ودافعة للمسلم لتحقيق كل ما فيه الخير ليس فقط لافراد الجالية المسلمة بل للمجتمع الفرنسى : مجتمع الاحتضان، فالملايين من المسلمين تعتبر فرنسا وطنهم فعلى أرضها يعيشون وبخيراتها يتنعممون مما يوجب عليهم أن يحموها ويحرسوها من كل ما يمكن أن يتهددها من المخاطر والأضرار.