ميدان العمل
التقيت ذات مرة برجل قال لي: " إنني قارئ قديم لمجلتكم " ( الرسالة) وإني لا أترك عددا إلا وأقرؤه، كل نقطة طرحتموها فيه، إلا أني لا أوافقك على نظريتك. التي تدفع المسلمين إلى التخلف. ثم ذكر بعض المفكرين المسلمين وأعقب ذلك بقوله: إن هؤلاء يدفعون المسلمين. دفعا حثيثا إلى التقدم والرقي، والمسلمون هم أمة أعظم الأنبياء فلا يمكنهم أن يقبلوا، نظرية تدعو إلى التخلف كهذه النظرية. وأتبع كلامه هذا بشعر فارسي ردده بكل حماس: " كن مقداما ولا تكن متخلفا ".
وكان جوابي: إن الفرق بيني وبين المفكرين الآخرين ليس في أن
الآخرين إنما يدفعون بالمسلمين إلى الرقي والتقدم بينما أنا أدعوهم إلى التخلف والجمود. كل ما في الأمر أن كلا منا يشجع المسلمين ويحثهم على الأخذ بأسباب الشجاعة وبأسباب الرقي والتقدم وأن الفرق بيننا إنما يكمن في تعيين الميدان الذي يتم فيه إبراز الشجاعة والرقي، فالآخرون يقولون: إن التقدم لا يأتي إلا عن طريق الحرب والتناحر، وأنا أقدم خطة للتقدم في ميدان الدعوة والتبليغ، وبينما يدعو الآخرون إلى التقدم والرقي الذي يأتي عن طريق السيف، أدعو أنا إلى التقدم والرقي النظري، أي أن الفرق بيني وبينهم يتحدد في تعيين ميدان التقدم وليس في مفهوم التقدم نفسه.
إن التقدم ليس اسما لعملية عشوائية خاطفة، وليس المراد به أن يحطم
أحد رأسه على صخرة في أرض قاحلة وبدون جدوى. إن التقدم هو اسما لعملية منظمة قائمة على أساس خطة محكمة، وإنما يتطلب ذلك ذهنا ثاقبا
ومفكرا نابها وعالما متميزا بسعة المعرفة. والمبادرة لا تكون إلا وفي المقابل من يقوم بمعارضتها، لذا يتحتم على المبادرين بأن يمحصوا الأوضاع ويحللوا ما يستجد ويطرأ منها لمعرفة الظروف المواتية لهم.
هناك صورة للمبارزة، وهي أن تبارز العدو في ميدان موات له
" To contest on another man’s ground" أي أن خوض الحرب في حالة ما إذا كان ميدان المبارزة معبد وموات للعدو يعني أنك مقبل على الهزيمة بإرادتك وإدراكك. فإذا كان هذا هو الوضع فيتوجب على الفريق الأول أن يتدبر الأمر بدقة تتسم بالحكمة والحنكة بهدف نقل المعركة إلى ميدان موات له
“To bring one’s enemy to fight on the ground of one’s own choice “
في العصر الحاضر، انطلاقا من السيد أحمد شهيد بريلوي إلى الآن.
قد خاض المسلمون حروبا عديدة قد منى فيها المسلمون بهزائم فادحة، والسبب في ذلك يعود إلى أنهم اعتمدوا على مبدأ المبارزة من أجل المبارزة. إنهم اقتتلوا في الميدان المواتي للعدو في حين أن العقل والإسلام يقضيان خطة منظمة ومدبرة لتغيير مسار المعركة وتحويلها إلى ميدان موات لهم. لنضرب مثالا توضيحيا على ذلك: إن القادة الإسلاميين في الهند كثيرا ما يشكون من أنهم قدموا التضحيات الجمة في سبيل تحرير الهند واستقلالها كغيرهم من أبناء الهند، إلا أنهم حين تم الاستقلال لم يحظوا بنصيبهم أسوة بغيرهم، فهم يعانون من التمييز الطائفي في كل مكان. إن هذه الشكوى تبدو لدي تافهة جدا. فهي تكشف عن حالة الإفلاس الفكري الذي يعانى منه هؤلاء القادة، فهم نسوا أو تناسوا المهمة الأصلية المنوطة بالمسلمين في الماضي والحاضر أيضا، ولا يعرفون أن القضية ليست قضية التضحية من أجل التحرير، بل إن القضية تنحصر في أنه إذا ما تحقق التحرير فما هي
صورته يا ترى؟ إن العصر الحديث يقتضي أن يكون ذلك في شكل الديمقراطية الحرة، إلا أن عقول هؤلاء القادة ما زالت متعلقة بالماضي إلى درجة أنهم يتوهمون أن عصر المغول سيعود من جديد.
ويمكننا فهم القضية بأكبر قدر من الدقة، من خلال هذا المثال:
هناك طرفة تقول: كان هناك مالك الحزين والثعلب وكانت تربطهما علاقة وثيقة، اتفقا ذات يوم أن يطبخا حلوى، فتعاونا على جلب مستلزمات الطبخ من قدور وأخشاب وما إلى ذلك، وشارك كل منهما في عملية الطبخ، وعندما حان موعد الأكل، لجأ الثعلب إلى حيلة دبرها بعقله الثاقب، فجاء بصحن مسطح ليفرغ فيه قدر الحلوى، وحين وضعت الحلوى وباشر كل منهما الأكل التهم الثعلب القدر الأكبر منها حتى شبع، بينما ظل مالك الحزين يضرب بمنقاره هنا وهناك لا يلتقط منها إلا قدرا يسيرا. فهو قد شارك في عملية طبخ الحلوى كصاحبه الثعلب ولكنه أخفق في الأكل أسوة بصاحبه. وقد فطن مالك الحزين إلى مكيدة الثعلب، فوضع بدوره خطة لينتقم من الثعلب، وقال للثعلب: ما رأيك لو طبخنا الحلوى مرة أخرى، فرضى الثعلب بذلك، وحين تمت عملية الطبخ وحان الموعد لتفريغ القدر، بادر مالك الحزين بإحضار دورق وضع فيه الحلوى، وقال للثعلب هيا لنأكل، ولكن الأمر هذه المرة قد انقلب رأسا على عقب إذ أخذ مالك الحزين قصب السبق، وبدأ يلتهم الحلوى بمنقاره الكبير بينما لم يتمكن الثعلب من أن يأكل شيئا.
هذه الطرفة تكشف لنا عن أن القضية- في حد ذاتها- ليست قضية
طبخ الحلوى والمشاركة فيه بقدر متساو من الطرفين، بل القضية في الحقيقة تنحصر في شكل الإناء الذي سيتم فيه تفريغ. القدر، فإذا ما تم تفريغه في صحن مسطح فإن نصيب الثعلب سيكون كبيرا وإذا وضع في دورق فإن
نصيب مالك الحزين سيكون كبيرا، والفراسة هي أن تحاول تفريغ القدر في طبق مناسب لك.