من وحي ذكرى المولد النبوي:ميلاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تجديد للعهد وصقل للباطن وعمل دائب لإنقاذ البشرية
ولدت نساء العالمين منذ أن اقترنت حواء بآدم آلاف الأفذاذ والعظماء الذين بدلوا مجرى التاريخ وحققوا لأممهم بعض ما تطمح إليه في دنيا المادة ودنيا الروح على حد السواء: وظفر كثير من أولائك الأفذاذ بما هم جديرون به من إعزاز وتخليد. ومر كثير آخر مرور الطيف السريع أو الومضة الخاطفة فلم تعرهم الحياة ولا أبناء الحياة لفتة أو وقفة تمكنهم من إسداء الخير وإنماء حصيلته وإثراء حقوله. وانه لمن الإنصاف البعيد عن التعصب والمرتكز على الأدلة المنطقية والعقلية أن نقول بدون تلجلج ولا تلعثم. إن الرجل الوحيد الذي توفرت لديه جميع أسباب الخلود والذي قدم لهذه الإنسانية الحائرة أعظم زاد فكري وروحي ومادي بما جمع بين أيديها مما يفتقر إليه الإنسان من توجيهات ربه في شؤون معاشه ومعاده ويسره وعسره وتقدمه وتخلفه وفرديته واجتماعيته بل وفي سلمه وحربه وفي الأنظمة التي يساس بها والأحكام التي تسلط عليه في حالات الشذوذ والنشاز فتصلحه ولا يصلحه سواها قلت إن ذلك الرجل الوحيد هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي حظي من لدن المبدع الحكيم بالرسالة الشاملة الخالدة وبالدين الذي ورث الأديان كلها واستوعب جميع ما اشتملت عليه من إصلاح وتوجيه، فلا غرو إذن أن يكون سيد العالمين وان يعتبر الذين فتحت بصائرهم شريعته الغراء أن ذلك اليوم الذي ولد فيه هو اشرف أيام الدهر وهو اليوم الحقيقي لميلاد الإنسانية المثلى، والفضائل الخالدة والأنوار المشعة. وهو بحق يوم الرحمة الربانية الغامرة الشاملة تلك الرحمة التي أجلت إلى الأبد عن هذا الكون والكائن مظاهر المسخ والإبادة الجماعية مما كان يتهدد أية أمة عتت عن أمر ربها، واتخذت آياته ورسله هزؤا وهو اليوم الذي أقيمت فيه على الإنسان الحجة المبكتة بما جمع بين يديه من أجوبة عن كل سؤال وأدوية لكل علة. وحلول لكل معضلة. فإذا ما هفت أرواح المؤمنين إلى تنسم عبير الهدي المحمدي من أردان أول الربيعين من كل سنة فلان ذلك اليوم يعتبر لديهم يوم الخلق الحقيقي أو يوم اكتشافهم لأنفسهم وظفرهم بمفاتيح الطلاسم المعقدة في خباياهم وطواياهم وذلك لعمري هو بدء السعادة ولباب ثمارها وزبدة مخيضها. إن دين الرسالة المحمدية على أعتابها لثقيل. وان قدرها لدى العارفين بها لعظيم وجليل. إنها لتلك الرسالة التي تفتحت لها وعليها قلوب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فأصبحت إكسير حياتهم وغذاء أفئدتهم وأرواحهم اعتصموا بها فاعتصمت بهم. وفدوها فافتدتهم. ورفعوها فارتفعت بهم إلى حيث ينتهي الطموح وتتهاوي المراتب البشرية العادية. لقد أدخلتهم جنان الخلد قبل أن يغادروا دنيا الفتون والشرور. وجعلتهم في اقل من ربع قرن أيمة وجعلتهم الوارثين. إنها لتعطي للمتعلقين بها أكثر مما تأخذ منهم وتعطيهم الفوز والسعادة والازدهار وتعطيهم الطمأنينة والطهر والنماء والاستقرار ولا تأخذ منهم مقابل ذلك إلا أن يذودوا عن قلوبهم وأبدانهم طفيليات الشر وجراثيم الفساد وان يلزموا أنفسهم كلمة التقوى التي ليسوا أجنبيين عنها وليست أجنبية عنهم فلقد (كانوا أحق بها وأهلها) وسيبقون كذلك إلى أن يأذن الله لهذا الكوكب بالزوال والأفول. وما تلك التكاليف التي أناطها التشريع الإسلامي بعهدتهم إلا أسباب بسيطة سهلة شرعت لتحقيق تلك الغاية البعيدة المنال وبدونها سوف تبقى رغم كل الأنوف محض جنون وخيال. إن احتفال المسلمين بميلاد محمد عليه السلام لأبعد وأعمق من أن يكون موائد أو شموعا أو شماريخ أو خطبا رنانة أو قصائد عصماء انه التجديد للعهود والصقل للبواطن والعمل الدائب الرصين لإنقاذ البشرية مما تردت فيه من وثنيات ما عرفها الإنسان البدائي في عصور ظلامه وانحطاطه. انه المصارحة الصادقة الجريئة للنفس وللقوم بما أصبح يفصلنا ويبعدنا عن تلك المعية التي جعلها القرآن شرطا لبلوغ إغاضة الكافرين ومغفرة الذنوب وإجزال الأجر حيث قال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود...) صدق الله العظيم.