من توجيهات الإسلام في إصلاح الفرد والمجتمع (الحلقة التاسعة عشرة): التوسط والاعتدال ميزة الإسلام في ما أمر ونهى
يقول الله تبارك وتعال بعد أعوذ بالله من الشيطان الرحيم بسم الله الرحمان الرحيم “وكذالك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” صدق الله العظيم(البقرة). لأمة الإسلام، الأمة المحمدية، خصائص ومميزات تعرف بها بين الأمم، تكون بها إن هي حافظت عليها وتمسكت بها خير امة أخرجت للناس. أما إذا هي تخلت عن هذه الخصال وتلك المميزات فان الله تبارك وتعال يحل بها عذابه وعقابه في الدنيا والآخرة ويبدل عزها بذل ومهانة وقوتها بضعف ونصرها بهزيمة وتلاحمها وترابطها بتفرق وتمزق وتشرذم. فحري بنا أن نعود إلى ما ميزنا الله به وفضلنا به على سائر الأمم والأقوام وانه لكثير ولكن أهمه وأوضحه وأجلاه لكل ذي عينين ما يلاحظه كل عاقل في تشريعات الإسلام: عقائد وعبادات ومعاملات ، أوامر ونواه قيما ومثلا ذلك المنزع نحوالتوسط . و(خير الأمور أوساطها وشر الأمور محدثاتها وبدعها). إن من ينظر إلى العقيدة الإسلامية يراها خالية من كل إبهام وغموض ، إنها البساطة والوضوح في اجلي معانيها فالله خالق الكون ومبدعه ومنشئ الإنسان وصانعه في عقيدة الإسلام واحد لا شريك له ولا ند له لم يلد ولم يولد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ليس له شريك ولا ند ولا يمكن أن يرقى إلى درجته أويتصف بإحدى صفاته وأسمائه القدسية العلوية المباركة كائن من الإنس والجان مهما علت مرتبته وارتفعت درجيه. * فهو الله الذي لا اله إلا هو الحي القيوم، رب السماوات السبع والأرض وما بينهما خالق كل شيء سبحانه وتعالى. كل شيء في الكون يشهد بوحدانيته ويدل على قدراته ويؤكد على عظمته، لا ينكره إلا جاحد ولا يتعامى عنه إلا غافل ولا يعرض عنه إلا جحود كفور، و(إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). * فالله الخالق البارئ في العقيدة الإسلامية السمحة منزه عن الشريك، انه واحد لا ثلاثة كما هوالحال في عقائد النصارى المحرفة فهم يزعمون كذبا وافتراء أن الله ثلاثة، انه الأب والأم وروح القدس أي الله ومريم وعيسى تعالى الله عن ذالك علوا كثيرا؟؟ وليس هو كما يعتقد السفسطائيون من الفلاسفة والمتكلمين أو المشعوذين والدجالين، عقل فعال أو صنم أو أوثان معبد من المعابد يظل ضعاف العقول لها راكعين يقدمون لها القرابين ويسألونها حوائجهم وهي اعجز عن أن تدفع عن ذواتها الشر لو كانت تعقل. أما بقية العقائد في الإسلام فهي لا تخرج عن هذا المنهج الواضح الجلي: * أنبياء معصمون مكرمون بشر لم ينزلوا من السماء ولا يختلفون عن بقية الناس إلا في الفضل والأخلاق والتقوى. لا نفرق بين احد منهم، نؤمن بهم جميعا ونصدق بما جاؤوا به إلى أممهم من هدي سماوي. أدوا أماناتهم وبلغوا رسالات ربهم ولم يحيدوا قيد أنملة عن أمر ربهم ولم ينزلوا إلى حضيض المسرفين لان الله عصمهم وحفظهم ولم يعصوه ولم يخالفوه . ومع ذالك فان عقيدة الإسلام لا تخرج بهؤلاء الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن دائرة البشرية إلى دائرة الإلوهية ، إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا لا يعلمون الغيب ولا يحيطون بشيء من علم الله إلا بإذن الله. * أما ملائكة الله فهم أرواح من نور لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يحصى عددهم إلا الله ولا يدرك كنههم إلا هوسبحانه وتعالى. * والكتب والصحف التي انزلها الله على أنبيائه ورسله مثل صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى فيجب التصديق بها دون دخول في تفاصيلها فقد حرفها أصحابها وزادوا لها ونقصوا منها . وليس من هذه الكتب إلا القران فانه الكتاب الوحيد الذي بقي محفوظا لعهد الله سابق “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”. * وعالم الغيب والدار الآخرة فان أمرها جلي واضح فللحياة نهاية والكائنات البشرية مصيرها هو الفناء وتعقب هذه الحياة، حياة أخرى وتأتي بعد هذه الدار دار أخرى، هي الدار الآخرة يجازى فيها العباد على وفق ما عملوا وما قدمت أيدهم في الحياة الدنيا حسب موازين القسط والعدل “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” (الزلزلة) عدل الهي كامل فلا تكليف إلا بالعقل والرشد ولا حجة إلا بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب ولا تحميل للإنسان ما لا طاقة له به فالكائن البشري العاقل السوي البالغ الراشد الذي يبلغه وحي السماء ورسالات الله فيختار لنفسه الهداية والرشاد، لن يجد بين يدي الله إلا الخير والجزاء الأوفى، أما من يعرض عن ذكر الرحمن وينهج في الحياة الدنيا غير سبيل الرشاد فانه يتحمل مسؤولية أعماله وتبعات تصرفاته ولا يلومن إلا نفسه إنه المنطق السليم والحجة البالغة والبرهان الذي لا يقبل الرد. * أما العبادات التي فرضها الله على عباده المسلمين فهي في غاية السير والبساطة، لا يمكن أن تتسبب للمسلم في الحرج آوالضيق ولا يمكن أن تقف حائلا أمام أي مصلحة من مصالحه ، وكلها مبنية على التيسير الذي هوسمة السلام البارزة “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” فالصلاة والصيام وهما العبادتان الجسميتان يشترط فيهما القدرة، والطهارة لآداء الصلاة تسقط بفقد الماء أوخوف الضرر والقيام يقوم مقامه الجلوس والاستلقاء أو الإشارة عند العجز. وفي السفر والمطر والجهاد أبيح القصر والجمع كل ذالك تخفيفا وتسهيلا وتيسيرا ولكنه تيسير وتسهيل لا يصل إلى حد إسقاط هذه الفريضة: فريضة الصلاة. وفي حالة المرض أو السفر أو الجهاد أو الحمل أو في النفاس رخصة ثم يقضى المسلم عند زوال العذر، والحيض يباح الفطر ولا يقع القيام بالصلاة والصيام الذي يقضى وعند العجز لتقدم السن أوالمرض المزمن يعوض الصيام بالإطعام عند القدرة على ذلك. أما العبادتان الماليتان الزكاة والحج فإنهما يشترط فيهما القدرة والاستطاعة بلوغ النصاب وحلول الحول بالنسبة للزكاة والقدرة المالية والاستطاعة الجسمية بالنسبة للحج. تلك هي أركان الإسلام التي لا يتقرب إلى الله بسواها “وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه” حديث قدسي. تلك هي أركان الإسلام التي لا بديل لها وعنها مهما كان عمل البر والمعروف الذي يأتيه الإنسان. فهل يلاحظ فيها حرجا وضيقا وهل يرى عرقلة لمسيرة الحياة؟ إنها تجسم أجمل مظاهر العبودية لله وهي أقل ما يمكن أن يأتيه العبد المطيع قربة لخالقه ومولاه. عندما ينظر فيها العاقل بترووتبصر يدرك ما تدفعه عن المسلم من أدران وأمراض باطنية وظاهرة .إنها عامل تطهير وتزكية عندما يؤديها المسلم مستوفية لشروطها وأركانها تدخله الجنة. * وقصة الصحابي الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما فرض الله عليه فذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام واحدا بعد أخر وفي كل مرة يتساءل الصحابي ليس أكثر فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم : ليس أكثر. خمس صلوات في اليوم فقط، صيام شهر واحد في السنة، أداء الزكاة عند حلول الحول وبلوغ المال النصاب وأداء فريضة الحج مرة واحدة في العمر. فأقسم الصحابي قبل أن ينصرف: والله لا أزيد عليهن فلما انصرف قال عليه الصلاة والسلام: أفلح صاحبكم إن صدق: إن صدق في أدائها. * وقصة الصحابي الأخر الذي بشر بالجنة فلما نظر أحدهم في أعماله لم يجدها تزيد عن المفروضات ولكنها مفروضات تحول بينه وبين كل الأمراض القلبية والنفسية فهو لم يبت ليلة واحدة وفي قلبه ضغينة على أحد وما تقلب في فراشه إلا ذكر الله .لقد فعلت عبادات الإسلام فعلها في نفسه وسلوكه فنهته عن الفحشاء والمنكر والبغضاء والحقد.طهرت سريرته وأصلحت معاملته :فالعبرة في الإسلام ليست بكثرة التبتل والتزهد والترهب ولكن العبرة بالدوام والاستمرار ولوكان العمل قليلا بشرط الصدق والإخلاص في أدائه فغني عن التذكير أن صلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر هي مجرد حركات وأتعاب وأن صوما لا يدع معه الصائم قول الزور والعمل به لا حاجة لله فيه وليس للصائم من صومه هذا إلا الجوع والعطش. كما أن زكاة مخلوطة بمن وأذى أوحجا مصحوبا بالرفث أوالفسوق أوالجدال فانه ليس لصاحبهما منهما إلا خسران الجهد ومضيعة المال. * إن الزيادة عما فرض الله من عبادات إذا تجاوزت حد الاعتدال والتوسط يمكن أن يفقد الفرد المسلم توازنه الذي أراده فيه الإسلام ورغبة في الإبقاء عليه، فكل زيادة ومبالغة تحدث مثل هذا الانحراف فتعطل في الفرد المسلم أوالجماعة المسلمة ما أراد الله لها من فعالية ايجابية ومضاء ونفع للعباد والبلاد لم يأمر بها الإسلام. ولا عجب أن يكون المسلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال الاعتدال والوسطية فكان يصوم ويفطر ويصلي وينام ويمشي في الأسواق ، يخالط الناس في بيعهم وشرائهم، يتحمل أذاهم، يعين محتاجهم ويقضي حوائجهم المسلم الأول يقول لأمته. “من رغب عن سنتي فليس مني” ويصحح لمن يمكن أن يسئ الفهم فلا يعتبر سبيل الله إلا الجهاد في ساحة القتال وبأن من خرج ليعول أهله أو نفسه فهو في سبيل الله، وإن (المسلم القوي خير من المسلم الضعيف)، وأن (اليد العليا خير من اليد السفلى) وأن (الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، وأن طيبات الحياة الدنيا حلال في شرع الإسلام وأن التمتع بالمباح وترويح النفس مما أباحه الإسلام ورغب فيه لأنه مما يذكر بنعم الله ومما يبين سعة كرمه وإحسانه وخفي لطفه وآلائه. إن على المسلم أن يجتنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويعتزل الخبائث والمحرمات فما جعل الله للمسلم في محرم من المحرمات: زنى أوربا أوخمرا أوغيرها خيرا. وما من مفسدة أومحرم إلا وعوض الله المسلم في الحلال خيرا منها وبديلا عنها فلئن حرم الله على المسلم الزنا فقد دعاه بإلحاح إلى الزواج الحلال وفيه خير العوض ولئن حرم عليه الغش والتحايل والربا فقد أحل له عوضا عن ذلك كل أصناف الكسب الحلال من بيع وشراء وامتلاك ، ولئن حرم الله على المسلم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر فانه أباح له ما وراء ذلك من الطيبات . فليأكل المسلم وليشرب وليلبس ولكن عليه أن لا يسرف فان الإسراف يتولد عنه الترف والميوعة والدعة والضعف أمام أهواء النفس ومطالبها. * الاعتدال والوسطية هو سمة الإسلام البارزة ، ففي الإنفاق والعطاء ينبغي على المسلم آن لا يجعل يده مغلولة إلى عنقه فلا يكون بخيلا ولا يبسطها كل البسط ، اعتدال في الإنفاق على النفس وعلى العيال فلا يدع الشيطان يعده بالفقر فيدفعه إلى الشح ولا يبالغ في الإنفاق فيضيع حقوق من جعلهم لله في كفالته ورعايته فلا عجب أن يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة من التصدق بكل ماله ويأذن له بالتصدق بالثلث وقال “لأن تدع ورثتك أغنياء أفضل من أن تدعهم فقراء يسألون الناس”. ولا عجب أن يذكر رسول الله صلى عليه وسلم أصحابه بقوله: “إن لربك عليك حقا ولنفسك حقا ولأهلك حقا فأعط كل ذي حق حقه”. ليس من روح الإسلام ولا من جوهره أن يترك المسلم دنياه من اجل دينه ولا دينه من اجل دنياه ، بل المسلم الحق من اخذ من الدنيا ومن الدين “وابتغ في ما اناك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله إليك” (الآية القصص). وما أجمل ذلك الأثر الاسلامى لوعمل به المسلمون “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا”. حتى في المعاملة مع الغير لم يقل الإسلام للمسلم “إذا ضربك احد على خدك الأيمن فادر له الأيسر” فالإحسان والعفومما دعا إليه الإسلام ورغب فيه ولكن صد العدوان والدفاع عن النفس حق مشروع في الإسلام “فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم” (البقرة). ومن مات دون ماله أونفسه أوعرضه اى دفاعا عنها فهو شهيد وحتى إذا ما اقترف المسلم ذنبا أوارتكب معصية فان من تمام وسطية هذا الدين أن الله لم يشترط لقبول توبة التائب قتله لنفسه أواقتصاصه من نفسه ولم يجد المسلم ما ارتكب من ذنوب مكتوبا على الجدار داره مثلما كان الله يفعل بالأمم السابقة ولم يمسخ من امة محمد صلى الله عليه وسلم من ارتكب معصية قردة أو خنازير بل اجلهم ليوم الحساب فمن تاب وأناب وأصلح تاب الله عليه وغفر زلته وأبدل سيئاته حسنات بعفوه وكرمه وإحسانه.