قصة المولد لسماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : بعثته صلى الله عليه وسلم
وفي شهر ربيع الثاني من السنة الأربعين من عمره المبارك، أي سنة أربعين من عام الفيل ابتداه الله بالرؤيا الصادقة، وهي أول مابدىء به من الوحي، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، أي وقع الأمر الذي رآه مماثلا في الخارج للرؤيا. وفي السابع عشر من رمضان من تلك السنة أوحى الله إليه وهو في غار حراء.فرأى جبريل وأقرأه قوله تعالى » اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان ما لم يعلم « ربك فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك خديجة، وسمع جبريل يناديه من السماء: يا محمد أنت رسول الله، ورآه بين السماء والأرض، فأخبر خديجة بذلك. فذهبت خديجة به إلى ابن عم لها اسمه ورقة بن نوفل بن أسد. وكان قد تنصر وقرأ التوراة والإنجيل. فأخبرته بما رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موس، ياليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك ،فقال رسول الله: أو مخرجي هم قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي. ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة يوحي إليه، ولم يؤمر بدعوة الناس حتى نزل عليه قوله تعالى: ) يأيها المدثر قم فأنذر( إلى أخر السورة فدعا الناس إلى الإسلام. وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن النبىء صلى الله عليه وسلم بعث يوم الاثنين، وضعه. فكان يدعو الناس إلى الإسلام، فتنكر له المشركون وامتعضوا من ظهور الإسلام. وكان الذين أسلموا وهم زهاء أربعين رجلا إذ صلوا استخفوا ؤبصلاتهم. وصاروا يأوون إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، توقيا من تعرض قريش لهم بالأذى،وبقوا كذلك ثلاث سنين. فلمّا نزل قوله: ) فاصدعبما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع اله إلها آخر فسوف يعلمون( أظهر الرسول – صلى الله عليه وسلم- والمسلمون أمرهم، وتحدوا به المشركين، وذلك سنة عشر قبل الهجرة. فحمى المشركون لذلك وأكثروا من أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وذهب كباراؤهم) عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان وأبو البختري والأسود بن المطلب وأبو جهل والوليد بن مغيرة ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج والعاصي بن وائل( الى أبي طالب فقالوا: أحلامنا، وضلل آباءنا، فاما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فأنك على مثل ما نحن عليه فأجابهم أبو طالب جوابا رفيقا، وردهم ردا جميلا اقتنعوا به:ثم لم يلبثوا أن عادوا إلى أبي طالب ثانية وثالثة، كل ذلك يطلبون أن يكف رسول الله صلى عليه وسلم عن معاملته إياهم، أو أن يخلى بينهم وبينه. ولما رأوا أبا طالب غير مسلم ابن أخيه، ورأوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- غير مقصر في الدعوة إلى الدعوة إلى الحق، جعلوا يعذبون ويؤذون من أسلم من أهل مكة، ويغرون سفهاءهم بأذى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يشلونهم عليه. وفي تلك المدة أكرم الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- بمعجزة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماوات العلى. وكان ذلك في اليقظة على الأصح. وقد رأى من آيات ربه الكبرى، وحديثه طويل في الصحيحين. وقد كان ذلك في سنة اثنتين قبل الهجرة وقيل في سنة ثلاث، والأشهر أنه كان في شهر رجب. ولم يزل المسلمون في تزايد فاغتنمت قريش بذلك، وائتمروا بدار الندوة وأجمع أمرهم على أن يقطعوا صلة بني هاشم وبني المطلب، وتعاهدوا على ذلك ، وكتبوا صحيفة بتسجيل ذلك اشتهرت بصحيفة القطيعة ، وعلقوها في جوف الكعبة إثباتا لما تضمنته، وتوكيدا على أنفسهم أن لا ينقضوها، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب فدخلوا شعب أبى طالب، مستهل المحرم سنة سبع من البعثة، وكان طالب يخرج في تلك المدة ويحضر مجامع قريش على غضاضة. وبقى بنو هاشم كذلك نحوا ثلاث سنين. ) وكان هشام بن عمرو بن ربيعة يمدهم في تلك المدة بالطعام واللباس، لأن ـباه عمرو بن ربيعة كان ربيبا لهشام هذا إلى زهير بن أبي أمية المخزومي وهو ابن عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أقد رضيت لأخوالك ما قد علمت، أم أنهم لو كانوا أخوال أبى الحكم -يعني أبا جهل- ما كان يرضى لهم بذلك. فأستجاش لذلك زهير والمطعم بن عدي وأبا البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، ودبروا أن ينقضوا الصحيفة، فلما أصبحوا دخل زهير المسجد الحرام فقال: يا أهل مكّـة أنأكل الطعام ونلبس اللباس وبنو هاشم هلكي لا يباع لهم ولا يبتاع منهم. والله لا أقعد حتـى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فظاهرة على ما قال بقية الخمسة. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل، وقام المطعم بن عدى ليمزق الصحيفة فوجدها قد أفنتها الأرض عدى السطر الذي هو “باسمك اللهمّ”). وبعد خروج بني هاشم من الشعب بثمانية وعشرين يوما توفى أبو طالب، وبعد موته بثلاثة أيام توفيت خديجة رضي الله عنها، وذلك في شهر رمضان سنة تسع من البعثة أو سنة عشر. وفي شوال من تلك السنة خرج رسول الله -صلــّى الله عليه وسلــّم- إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، ويطلب منهم النصرة والمنعة من كفارة قومه، فلم يجد عندهم خيرا. ولما جاء قبائل العرب في موسم الحج عرض عليهم نفسه، ودعاهم إلى الإسلام وأن يصدقوه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه الله له، وأن يخرج مع القبيلة التي تستجيب له فلم يجد عندهم خيرا وردوا عليه بجفاء إلا بعض بني شيبان، قالوا سننظر في أمرنا بعد أن نرجع من الحج، فعل ذلك في موسمين أو ثلاثة. فلما كان الموسم في سنة عشر من البعث لقى رسول الله عند العقبة ستة نفر من الخزرج، فعرض عليهم الإسلام فقبلوا وأسلموا. ولما رجعوا إلى يثرب ذكروا لقومهم هذا الأمر ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم، وفي العام المقبل وافى موسم الحج أثنى عشر رجلا من الأوس والخزرج فأسلموا، ولما أرادوا الانصراف إلى بلدهم بعث معهم رسول الله صلــّى الله عليه وسلــّم مصعب بن عمير الدارى ليقرأهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام. وفي الموسم المقبل سنة اثنتي عشرة من البعثة آمن من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وبايعوا رسول الله عند العقبة من منى على أن يمنعوه بما يمنعون به أبناءهم ونساءهم. وجعل عليهم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بالمدينة، وأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة.