قراءة لخاصّية وسطية الأمة الواردة في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمّة وسطا...)
لدين الإسلام خصائص ومميزات عدة هي الّتي جعلته أكمل الأديان وأتمها وأصلحها للإنسان في كل الأزمنة والأمكنة ومن هذه الخصائص خاصية الوسطية وهي خاصية يحتاج استقراؤها وبيان مختلف مظاهرها إلى تضافر جهود الباحثين والدّارسين لأنها وسطية يلاحظها المتتبع بتمعن في كل ما دعا إليه الإسلام ونزل به من عند الله القرآن وبينته سنة وسيرة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ولا يمكن لمن يتطرق بالبحث إلى خاصّية الوسطية المميّزة لدين الإسلام وأمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام أن لا يكون منطلق حديثه وتأسيسه لنظريّة الوسطية الإسلامية الآية الكريمة التي يقول فيها المولى سبحانه وتعالى (وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) الآية سورة البقرة ودون الإغراق في التّأويل المتعسف ودون الادعاء بأنّ هذه الآية الكريمة لا تعني أنّها لا تفيد غير ما سنبيّنه فذلك أمر نستغفر الله منه ولا ندعيه لأنّ كلام الله العزيز لا يمكن الإحاطة به من طرف أي مخلوق مهما كان علمه بما يحويه من معان وصدق الله العظيم حين يقول (ولا يحيطون بشيء من علمه ولا بما شاء) وفي الحديث الشريف (هذا القرآن يبعث يوم القيامة وهو بكر) أي كأن العلماء والمفسرين لم يمسوه ولم يستخرجوا منه شيئا رغم أنّ التفاسير في الدّنيا بلا عدد كما قيل وقد ورد في الأثر الصّحيح أنّ (الآية الواحدة من القرآن الكريم تحتوي من المعنى إلى الخمسمائة معنى لا يضيق المعنى بالمعنى). فالقرآن الكريم هو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولكي لا نستطرد نعود إلى الآية الكريمة التي أردنا أن نتّخذها منطلقا لحديثنا عن خاصّية الوسطية المميزة لدين الإسلام وأمة الإسلام، فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجّه إلى الأمة الإسلامية وهذه الأمة هي التي تسلم لله بالوحدانيّة وتقر لمحمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة، إنها أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله فمن نطق بالشهادتين من الناس دخل في صف هذه الأمة الإسلامية وأصبح له ما لها وعليه ما عليها بقطع النّظر عن جنسه أو لونه أو لغته أو مرتبته الاجتماعية، وهذه الأمة الإسلامية أمة واحدة لا تتجزّ ولا تنقسم (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون) الآية سورة الأنبياء وأفراد هذه الأمة جسد واحد وبنيان مرصوص (تتكاف دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم) والجاعل لهذه الأمة الإسلامية أمة وسطا هو ربّها وخالقها سبحانه وتعالى الممتن عليها بالنعم والتي أعلاها وأرقاها نعمة الإسلام والهداية إلى هذا الدّين العظيم، ذلك أنّ الهداية بيد الله وحده يهدي من يشاء ويضل من يشاء وحتى صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام قال له ربّه في كتابه العزيز (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) الآية سورة القصص وهذه الآية عنوان لمضمون ينبغي على المسلمين أن يبحثوا عنه في كتاب الله العزيز وسنة النبيّ الكريم وسيرته عليه الصّلاة والسلام، إن الوسطية المعلنة في هذه الآية منبئة بمضمون متكامل لا يعذر علماء الإسلام في التأخّر عن تبيين تفاصيله وجزئياته حتى يتعرّف عليها المسلمون وغير المسلمين أيضاً، وحتى يتوجّه صوبها المسلمون ليلتزموا بها في كلّ تصرّفاتهم وفي كلّ إقدام وإحجام وحتى تقوم الحجة البالغة على غير المسلمين، وهي حجة نظريّة عقلية مقنعة، وحجّة سلوكية تطبيقية تكون مثلا يحتذى به ونموذجا يتبع، فإذا ما وقع الاكتفاء من طرف المسلمين بالجانب النّظري أو بطرف منه دون التّجسيم العملي لها فإنّ الإقامة للحجة والشّهادة على الغير لا يمكن أن تكون قائمة فالتّنظير وحده غير كاف بل إنّه كثيرا ما يعتبر من قبيل الازدواج وتغلب الممارسات الفعلية على المثل والقيم، وتتّخذ هذه الممارسات العملية حجة على أصحابها وعلى الدّين الذي يعتنقونه وتلك كانت في أغلب العصور الصّورة التي احتفظ بها وتبنّاها غير المسلمين على المسلمين!! ولا ينبغي على المسلمين أن يلوموا هؤلاء على هذا الخلط المتعمّد أو غير المتعمّد، كيف نلوم غير المسلمين على التحامل على الإسلام وتحميله تبعات تصرّفات المسلمين والحال أنّهم يرون المسلمين في سائر أحوالهم المعيشية، في علاقاتهم ببعضهم وبسواهم أبعد ما يكونون عن تعاليم الإسلام، إنهم يرون في ديار الإسلام جهلا وأمية وفقرا وإجراما وتخلفا وصراعات دمويّة وتحجرا وانغلاقا وغطرسة وأنانية ومعارضة سلوكية صارخة لكل القيم المدنية والحضارية، إنّ قولنا لغير المسلمين صباح مساء إنّ الإسلام شيء والمسلمين شيء آخر لن يقنعهم وسيظلون مقتنعين بأنّ الإسلام هو ما يرونه في تصرّفات وسلوكيات أفراد المسلمين وتجمعاتهم وستزيد هذه السلوكيات والتصرفات الّتي يأتيها المسلمون غير المسلمين ابتعادا ونفورا من الإسلام والمسلمين. الآية الكريمة تنبّه المسلمين بأنّ إقامة الشّهادة على الناس في أنّ دين الله قد بلغ لهم إنّما يكون بتجسيم الوسطية في الواقع المعيش، فهذا التجسيم للوسطية هو وحده التبليغ المغني عن الخطب الرنانة والمحاضرات المستفيضة والبحوث المعمّقة، فديننا الإسلامي الحنيف كما يؤكّد رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام أنّ التديّن الصحيح إنما يتجلّى في المعاملة والسلوك والأخلاق والمخالطة للغير بيعا وشراء وعملا وتأجيرا. فالدّين المعاملة والدّين النّصيحة وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا ليتمّم مكارم الأخلاق ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الظّهور في أحسن مظهر وعلى سلوك أقوم السّبل لقد كان عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها، لقد كان قرآنا يمشي على الأرض، أدبه ربه فأحسن تأديبه واستحقّ بأن يكون حجة الله على عباده، انه الأسوة الحسنة والقدوة لجميع المسلمين وبذلك كان الرسول عليه الصلاة والسّلام علينا شهيدا، بلغ الرسالة وأدّى الأمانة وحق له أن يردّد على مسامع حجاج بيت الله الحرام في حجة الوداع (ألا هل بلغت اللهم فاشهد) فالحجة قد أقيمت علينا معاشر المسلمين وما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى إلاّ بعد أن كمل الدّين وتمّ. وهو خاتمة الأديان وآخرها وهو الدين الذي لن يرضى الله من عباده بسواه (إن الدّين عند الله الإسلام) آية سورة آل عمران (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آية سورة آل عمران. لقد قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المسلمين إعلان كمال الدين وتمامه الذي تضمنه قول المولى سبحانه وتعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ومن ذلك اليوم تحمل المسلمون أعباء أمانة الإبلاغ للناس وإقامة الحجة عليهم حتى تبر ذمّتهم أمام الله ولن تقوم هذه الحجّة ولن يتمّ الإبلاغ بالشعارات أو بالتمنّي والتحلّي بل تقوم الحجة ويقع الإبلاغ بالإيمان الرّاسخ الذي يصدقه العمل وهو التصرّف الذي يأتيه المسلم: معتقدا وتعبدا ومعاملة وسلوكا وتوجها والأفراد والمجتمعات والأمم في حاجة ماسّة إلى رؤية المثل والقيم مجسّمة في سلوك الأفراد والمجتمعات وذلك لكي يقع الاقتداء والإتباع والغالبية العظمى من الأفراد والتجمعات ترغب في المنهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ولا شذوذ فيه لأنّ هذه الوسطية تقبل عليها الأنفس القويمة السّليمة الخالية من العقد والمركبات وتلك والحمد لله هي حالة الغالبية العظمى من عباد الله. ولكن الميل ذات اليمين وذات الشمال والزّيغ عن المنهج الوسط الذي هو منهج الاعتدال إنّما يقع عندما تختفي معالم المنهج الوسط والمسلك القويم وعندما يغيب عن الأعين التّجسيم العملي له في حياة الناس هنالك تبرز وتظهر دعوات التطرف والتزمت والمغالاة والتميع والانحلال والكفر والضّلال وتجد هذه النّزعات المغالية المتطرّفة المجانية للصّواب الذي هو الوسط إتباعا لها بين الناس توجّههم حيث تشاء، وديننا الإسلامي الحنيف كما يعلم ذلك أهل الذّكر التزم هذه الوسطية في كل شيء وراعى ما ركب الله في الأنفس البشريّة من رغبات مشروعة وحقّق للمسلمين في دين الإسلام المعادلة التي تبدو صعبة أو مستحيلة، فالمسلم هو في نظر الإسلام كائن حيّ مركب من جسد وروح ولكلّ منهما غذاؤه وحرام على المسلم أن يهمل الرّوح كما أنّه حرام عليه أن يهمل الجسد وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين وجّه المسلم إلى الحقوق التي عليه (إنّ لربّك عليك حقا ولنفسك عليك حقّا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حقّ حقّه) وبمثل ما حارب الإسلام أتباع الهوى والشّهوة وطغيان المادة وافتتان الإنسان بها وإخلاده إلى الأرض ونسيانه للمعاد والمآل فإنّه حارب الانقطاع والتبتل والترهب فقال عليه الصلاة والسلام (لا رهبانية في الإسلام) وقال (إنّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) فقد اعتبر الإسلام الدّنيا معبرا وجسرا لابدّ من عبوره للوصول إلى الدّار الآخرة، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضّعيف واليد العليا خير من اليد السّفلى، والقوة والسّعي بجد في الأرض مما يعتبر في سبيل الله، وأخذ الزينة عند كلّ مسجد وتبيان أثر نعمة الله على العبد مما وجّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وكلّ هذه المعاني تعبر عنها أجلى تعبير الآية الكريمة (وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) الآية سورة القصص والآية الأخرى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصة يوم القيامة) الآية سورة الأعراف ولكنّ هذا الأخذ بالأسباب والاستمتاع بما أفاء الله على الإنسان لا ينبغي أن يصل إلى درجة الافتتان الذي يجعل من صاحب الدّنيا يقول لسانه وحاله (ما أظنّ أن تبيد) فإنّ شعار المسلم هو ذلك الأثر (اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا) فإلى الله المسعى وإليه المنتهى في الدّار الآخرة (تلك الدّار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين) الآية سورة القصص والمنهي عنه في دين الإسلام هو العلو في الأرض طغيانا وجبروتا وظلما وعجبا وخيلاء وفسادا أمّا سلوك المسلك الوسط فهو الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه وأمّته من بعدهم حيث قال (أنا محمد بن عبد الله غفر لي ربي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر أمشي في الأسواق وأتزوّج النّساء وأصوم وأفطر وأصلّي وأنام فمن رغب عن سنتي فليس مني) فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي المنهج الوسط المحقّق لسعادة الدّارين ومرضاة ربّ العالمين، إنّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي المحقّقة لتطلعات ورغبات الرّوح والجسد والحقوق المشروعة لكلّ طرف في المجتمع. * بهذه الوسطية الجامعة للخيرين (خيري الدنيا والآخرة) نرضي الله ورسوله. * وبهذه الوسطية نجنب الفرد والمجتمع كلّ فوضى وارتباك واهتزاز. * وبهذه الوسطية يندحر التطرّف والتزمّت والتعصّب والإرهاب وينتفي التميّع والتحلّل والكفر والضلال والطّغيان فنسعد كمسلمين يهنأ عيشنا ونقيم الحجة على سوانا من الأمم والشعوب لينجو من ينجو على بيّنة ويهلك من يهلك على بيّنة وتلك هي المعادلة الصّعبة التي ينبغي يتوجّه صوب تحقيقها المسلمون يقودهم في هذا التوجّه علماؤهم الأعلام الّذين تعين عليهم في هذا الظّرف أن يشمروا على السّواعد قبل أن يفوت الأوان فهم ورثة الأنبياء وهم الموقعون عن ربّ العالمين.