قارودي يحرق جثمانه ويمتنع عن آداء صلاة الغائب على روحه!!
كنت بادرت وفي اليوم الموالي لوفاة الفيلسوف الفرنسي الكبير روجي قارودي إلى توجيه نص يستعرض بعض مراحل حياة وإنتاج الراحل إلى أخينا الأستاذ صالح الحاجة صاحب الصريح الذي بادر مشكورا كعادته إلى فسح المجال-وسط الخضم الذي تشهده الساحة الوطنية والعربية- فأعطى للمقال حيزا محترما كما يفعل دائما في تحية كبار رجالات الفكر والثقافة والعلم عندما يرحلون عنا إلى دار البقاء وذلك في الحقيقة والواقع هو بعض حقهم علينا. وكنت احسب أن تلك المقالة عن قارودي رائد دعوة حوار الحضارات والثقافات يمكن الاكتفاء بها إلى أن يحين إن شاء الله الوقت لإقامة ذكرى وندوة علمية تليق بقيمة هذا الرجل الذي تعتبر مسيرة حياته ملحمة بأتم معنى الكلمة كان فيها فاعلا وليس مجرد شاهد على ما شهده القرن العشرون من أحداث جسام وتحولات كبرى على كل المستويات العلمية والثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية.. انه قرن الحربين العالميتين، وقرن سطوع نجم الإيديولوجيات وأفولها، وقرن تحرر الشعوب المستعمرة من ربقة احتلال مورست فيه كل صنوف القهر والاستعباد، وهو أيضا قرن شهد في أواخره بداية إرهاصات العولمة وما صحبتها من تحولات وبرزت فيها من تيارات بعضها ينذر بصراع الحضارات الثقافات! وبعضها ينادي بحوار وتفاهم الحضارات والثقافات. وكان قارودي ومنذ زمن مبكر من دعاة التفاهم والحوار والتعايش والتفاعل الايجابي أخذا وعطاء وكان قارودي شجاعا ومقداما وجسورا، وكان في كل مرة ينتهي فيها إلى نتيجة يوصله إليها بحثه الجاد عن الحقيقة وليس غير الحقيقة لا يتأخر عن الإصداع برأيه واتخاذ قراراه الحازم. هكذا رأينا قارودي وهو العضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي لا يتأخر عن نقد التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وهكذا رأيناه ينحاز ولو كان ذلك ضد بلاده إلى الوقوف إلى جانب ثورات التحرير الوطني في الجزائر وغيرها، وقاده بحثه الجاد عن الحق والرغبة الصادقة في نصرته أن لا يترك فئة من فئات المجتمعات على مختلف ثقافتها وديانتها ومرتبتها العليا أو الدنيا إلا ويقترب منها ويتفاعل معها ولا يستنكف على رفعة قامته العلمية والفكرية عن أن يتحاور معها بغية الإفادة والاستفادة وهكذا رأيناه ومنذ وقت مبكر في الستينات من القرن الماضي تجري بينه وبين كبار شيوخ الزيتونة والأزهر وغيرهما حوارات جادة ومثمرة. واكب هذه الرحلة الطويلة التي لم يعترف فيها قارودي بالقيود والحدود إنتاج علمي عميق وثري سجل فيه بكل تجرد وموضوعية أن الحضارة الإنسانية ساهمت فيها شعوب مختلفة الثقافات والديانات والأعراق. واستوقفت الحضارة العربية الإسلامية روجي قارودي فأدلى بشهادته فيها والتي يعتز بها كل عربي ومسلم-وشهد شاهد من أهلها- وكان تعرف قارودي على الثقافة والحضارة الإسلامية وبالخصوص في جوانبها الروحية العميقة التي لم تعرف الانقطاع بفضل كتاب هذه الحضارة (القرآن) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي لا تنقضي عجائبه ولا يمل على كثرة الردّ. انتهت رحلة قارودي في البحث عن الحق ونصرته إلى إعلان إسلامه وكان إعلانا مدويا حسب له ألف حساب وحساب، فالرجل قامة عملاقة وعلم بارز في مسيرة الثقافة والحضارة الإنسانية وعندما اعتنق الإسلام حرك السواكن ودفع إلى نبذ التقليد ودعا إلى إحياء الاجتهاد الكفيل بتصديق مقولة صلاحية الإسلام لكل الأزمنة والأمكنة. وكلفته جرأته وجسارته ومواقفه التحررية دفع ضريبة غالية، ولكن الرجل ليس من النوع الذي يغير أو يبدل أو يلين أو يستكين، وكان مما صدع به تفنيده للأساطير بما فيها التضخيم لأعداد ضحايا المحرقة اليهودية ولعلها النكتة التي أفاضت الكأس، كاس الحرج من الإصداع بالحقيقة، فكانت قصة محاكمته بدعوى معاداة السامية!! وناله ما ناله من الأذى والضيم الذي احتسبه بصبر ولم يقف بجانبه في محنته إلا اقل القليل فقد تخلى عنه حتى أولئك الذين سخر حياته لنصرتهم والدفاع عنهم وعن قضاياهم!!، لقد غيب قارودي في السنوات الأخيرة التي تلت محاكمته فلم تعد أخباره ولا أعماله تجد الصدى بل حتى كتبه لم تقدم دور النشر على إصدارها!! مات قارودي، والموت حق والآجال مقدرة لا تتأخر ولا تتقدم ولكن قارودي هذه القمة الفكرية والفلسفية والثقافية كان يمكن أن تأسس من حولها مدرسة وتيار تبدو اليوم الحاجة إليه ماسة ليس فقط لدى العرب المسلمين بل لدى غيرهم. إن تهميش قارودي ومحاصرته تجاوزت قائم حياته إلى وفاته ورحيله فقد اكتفت وسائل الإعلام في بلاده (فرنسا) وما وراءها وما يحيط بها بمجرد الإعلان عن خبر الوفاة وعندما حاول نفر ممن عرفوه القيام ببعض الواجب نحوه باءت جهودهم بالفشل فالجنازة لم يحضرها إلا بضع العشرات والأسرة ارتأت أن تحرق جثمانه لأنه مات على غير الديانة المسيحية! والمسجد الكبير في باريس لم يستجب لطلب إقامة صلاة الغائب ترحما على روحه بدعوى عدم جواز ذلك بالنسبة لمن احرق جثمانه!! والقاعة التي أراد هذا النفر القليل من عارفي فضل قارودي إن يقيموا له فيها حفل تأبين ألغت العقد الذي اتفق عليه معها لأسباب مجهولة!! لكأن قارودي كتب عليه نصيبه من النضال والابتلاء حيا وميتا... هكذا كانت حياة قارودي ملحمة من البطولة والإقدام... إن حياة قارودي وموت قارودي خير للحق وللقيم الإنسانية الخالدة التي نذر من اجلها عمره إلى أن لاقى وجه ربه... ولكن هيهات هيهات أن يموت أمثال قارودي من العظام والأبطال والعمالقة، موتهم هو بداية حياتهم الحقيقية... حسب قارودي انه بلغ بجرأة وشجاعة وموضوعية ما آمن به... عناوين كتبه فضلا عن مضامينها هي دعوة إلى الحوار، ونداء إلى الأحياء، وتفنيد للأساطير، فسلام على قارودي يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.