في وداع الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله شيخ الملة القرآنية بالبلاد التونسية
* علم آخر من أعلام القرآن وشيخ من الشيوخ الحفظة لكتاب الله يغادرنا إلى دار البقاء انه شيخ البركة وآخر البقية الباقية أولئك الذين إذا ذكر القرآن ذكروا وإذا ذكر الإتقان لأحكام قراءته وترتيله ذكروا، انه المنعم المرحوم الشيخ محمد الخطوي دغمان، علم في اختصاصه ومرجع إليه يعود الجميع والى حلقات التحفيظ التي اشرف عليها وأدارها باقتدار في مساجد تونس وجوامعها يتوجه كل راغب في حفظ القرآن هناك في جامع البرج وفي جامع صاحب الطابع وفي جامع الزيتونة المعمور حيث ظل رحمه الله يحفظه طيلة عقود من عمره الذي أمد الله له فيه وباركه له به رحمه الله به وبقلة قليلة امتد سند تحفيظ القرآن وتعليمه في تونس. لقد عاش رحمه الله للقرآن فكان شغله الشاغل من طلوع الفجر إلى ما بعد غروب شمس كل يوم على مدار العام هكذا ولعقود طويلة وكلما تقدمت به السن ازداد بذله وعطاؤه في هذا المجال الذي قل فيه في السنوات الأخيرة أمثاله ممن هم بحق حجة ومرجع يؤخذ عنهم بطمأنينة وما شرفهم الله به وائتمنهم عليه وجعل صدورهم أوعية له من وحي منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه القرآن الكريم الذي هو حبل الله المتين والنور المبين والسراج المنير بسند متصل حي عن حي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا جبريل عليه السلام إلى رب العالمين كان الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله آخر حلقات سلسلته الذهبية التي هي سلسلة الخير والبركة والتي بها لا تزال ربوع تونس تحف بها وبأهلها ألطاف الله الظاهرة والخفية. * كم كان البشر وكم كانت الفرحة العارمة تغمره وهو يجلس وبين يديه ومن حوله تلاميذه، أبناؤه وبناته الذين أحبوه وتعلقوا به، وكانوا يرونه بأبصارهم فيرون فيه الوقار والجلال والسكينة وكان رحمه الله وأجزل مثوبته يراهم ببصيرته وهو الذي رضي بقضاء الله وقدره واحتسب الأجر عنده والثواب منه وقد كف بصره ولكن ذلك لم يكن عائقا له ولا حائلا بينه وبين أن يصبح في حفظ القرآن وإحكام تلاوته وترتيله والمعرفة الدقيقة بعلومه المرجع والملاذ الذي إليه يعود الجميع من شيوخ القرآن وحفاظه من مختلف الأجيال والفئات والجهات. * وهل كان ينعقد ختم لكتاب الله العزيز في جامع أو زاوية في تونس وأحوازها إلا والشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله في صدر مجلسة؟ عرف له هذه المكانة والمنزلة الرفيعة كل شيوخ تونس وعلماؤها الأعلام فأجلوه الإجلال الذي هو به جدير وحرصوا على أن يعطوا القدوة والمثال في الصلاة وراءه والاقتداء به خصوصا في شهر رمضان من كل عام حيث ظل رحمه الله لسنوات طويلة يتولى إمامة التراويح في جامع الزيتونة المعمور وهل يؤم أهل تونس في جامعهم الأعظم في صلاة القيام إلا حافظ ماهر لا يشق له غبار؟ * وكان الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله يجمع إلى الحفظ للقرآن الورع والعفة والتقوى وعزة النفس والاعتزاز الشديد بما خصه الله به وشرفه به من طرف الجميع بمختلف مراتبهم وفئاتهم الاجتماعية. * لقد كان الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله امة برأسه على يديه تخرج مئات الحفاظ الذين يعمرون اليوم بيوت الله في مختلف المناطق والجهات حفظ القرآن الكريم للمتعلمين وللأميين وللصغار والكبار وللذكور وللإناث بطريقة أهل تونس في الإملاء والتكرار التي أثبتت الأيام نجاعتها وجدواها وكيف لا وأساس هذه الطريقة تحلق واجتماع في بيوت الله حول من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم أنهم أهل الله وخاصته، فأهل القرآن الذين يجتمعون في بيوت الله لتلاوة القرآن تغشاهم السكينة وتحفهم الملائكة. فكيف لا يعلمهم الله؟ وكيف لا ييسر الله عليهم حفظ كلامه وهو القائل في كتابه (اتقوا الله ويعلمكم الله)؟ * إلى الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله انتهت رئاسة حلقة تعليم القرآن في بلادنا في السنوات الأخيرة فكان رئيس لجان الاختبار في المسابقات القرآنية الجهوية والوطنية والدولية العالمية وكان رحمه الله ويشهد على ذلك من كانوا أعضاء في هذه اللجان-مثالا للرفق واللين والعطف على من يختبر حفظهم ويمتحنهم من المتسابقين يصوب ويصلح لهم الأخطاء والهفوات بلطف شديد ويسترجع الجالس أمامه المرة تلو المرة لعله يتذكر ما نسي حتى إذا ما تيقن من مستوى من يمتحنه صرفه الصرف الجميل بدعوات صادقة خالصة خاشعة هي في الحقيقة والواقع أعظم أثرا في أنفس المتسابقين مما قد ينالونه من الجوائز والحوافز. * وما كان الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله يغيب عما ظل ينعقد من أختام في المغارة والمقام الشاذلي وهناك حدث ولا حرج عن الحفاوة بالشيخ الخطوي من طرف شيخ المقام والمغارة وأركان المنارة الشاذلية من مقدمين وسدنة ومنشدين ومريدين وربانيين، الكل يحتضن الشيخ والكل يقبل جبينه ورأسه والجميع يسألونه الدعاء يعينه على التعرف عليهم نجله البار به الذي جمع الله له في خدمته لوالده بين البر بابيه والخدمة لكتاب الله وأهله الذين هم (أهل الله وخاصته). * إن المصاب في الشيخ محمد الخطوي دغمان رحمه الله لعظيم وإن الرزية فيه لكبرى وإن الفراغ الذي تركه لا يملأ وإن الحزن عليه لشديد فاجأنا برحيله ونحن لا نزال في لوعة فراق الشيخ عبد الرحمان الحفيان رحمه الله ومن قبله شيخ مدرسة عمر بن الخطاب لتعليم القرآن وترتيله الشيخ حسن الورغي رحمه الله وهم نجوم ثلاثة افلت في أقل من عام تاركة في الأنفس لوعة وفي الأعين دمعة وعلى الألسنة إعادة وتكرار ما قاله سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام “إنا لله وإنا إليه راجعون”.