في وداع الأستاذ الدكتور محمد الطاهر الجوابي الأستاذ المتميز بالزيتونة والجامعات الإسلامية (1939-2012)
بقلوب خاشعة واعين دامعة وأنفس راضية بقضاء الله وقدره ودعنا يوم الاثنين 11/06/2012 الوداع الأخير إلى مثواه الأخير بمقبرة الزلاج الأخ العزيز والصديق الوفي والعالم العامل المخلص المغفور له بإذن الله الأستاذ الدكتور محمد الطاهر بن عبد الله الجوابي وهكذا يتوالى على هذه الربوع رحيل العلماء الأفاضل تاركين في الأنفس لوعة وحزنا لا ينقضيان. في أواخر ثلاثينات القرن الماضي (1939) ولد فقيدنا العزيز بقرية قطوفة من ولاية تطاوين بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية في بيئة معروفة بالورع والتعلق بالدين تنشئ أبناءها على قيمه ومثله منذ نعومة أظفارهم. وهكذا مثله مثل العديد من أترابه كانت وجهة فقيدنا صوب الفرع الزيتوني حيث تلقى على صفوة من الشيوخ البررة أصيلي الجهة الذين نذكر منهم الشيخ عمر الواعر والشيخ عمر بوفلغة والشيخ البشير البركاوي والشيخ الحبيب المستاوي رحمهم الله والشيخ الحبيب النفطي وغيرهم وبعد إحرازه على شهادة الأهلية شد الرحال إلى تونس العاصمة ليحرز على الجزأين الأول والثاني من شهادة التحصيل العلمي. وتابع دراسته بعد ذلك بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين وتتلمذ على البقية الباقية من أعلام الزيتونة العميد العلامة البحر الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله ومن كانوا معه من الشيوخ البررة أمثال الشيخ محمد المختار بن محمود والشيخ محمد الشاذلي النيفر والشيخ احمد بن ميلاد والشيخ احمد بن ميلاد والشيخ العربي العنابي والشيخ عبد العزيز بن جعفر والشيخ محمد الأخوة والشيخ الحبيب بلخوجة والقائمة طويلة عليهم جميعا واسع الرحمات. وبعد الإحراز على شهادة الإجازة في أصول الدين باشر التدريس في المعاهد الثانوية إلى إن فتحت الآفاق أمام خريجي الكلية الزيتونية حيث تقدم فتابع الدراسات العليا لينال شهادة التأهل للبحث العلمي وشهادة دكتوراه المرحلة الثالثة وشهادة دكتوراه الدولة وانتدب رحمه الله للتدريس في الكلية الزيتونية فدرس التفسير والحديث إلى أن انتدب للتدريس بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة بالجزائر كما درس بكل من جامعة الملك سعود بالرياض وفرع جامعة الإمام ابن سعود بالقصيم. وكان رحمه الله في كل هذه الجامعات مثالا للأستاذ الجاد المخلص في عمله الذي يبتغي به مرضاة الله يتفانى في البذل والعطاء بهمة عالية ورغبة صادقة في إفادة طلبته لا يبخل عليهم بالنصح والإرشاد حتى يتخرجوا عالمين عاملين مخلصين لربهم. فكان يبادلهم ويبادلونه مشاعر الود والحب والتعلق الخالص ظلت ألسنتهم تلهج بالثناء عليه وتشهد له بالخلق الكريم والتواضع الجم. تفرغ فقيدنا العزيز رحمه الله واسكنه جنانه للعلم يحصله ويتدرج في اكتسابه إلى أخريات أيامه ويعلمه لطلابه في مختلف المراحل من الابتدائي إلى الثانوي إلى العالي الجامعي بمختلف مراتبه في تونس وخارجها لا تحول بينه وبين ذبك بعد المسافة وهجرة الأهل والوطن والموطن. وبادر فقيدنا العزيز إلى إخراج ما أعده من بحوث وأطروحات التي بذل في إعدادها السنوات الطويلة من البحث والتنقيب في مواضيع دقيقة بدأ بعلم الحديث والسنة النبوية فاصدر في ذلك سفرين أولهما: جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي وثانيهما الجرح والتعديل بين المتشددين والمتساهلين. وفي السنوات الأخيرة من عمره المبارك تفرغ للتأليف فاخرج كتابا في سفرين في فقه العبادات على مذهب الإمام مالك وكتابا عن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وكان آخر ما اصدر رحمه الله كتاب سماحة الإسلام وهي كلها أسفار تسد فراغا أحس به الفقيد فأراد أن يتفرغ للقيام به فادى هذه المهمة على أحسن الوجوه وأتمها ولسان حاله يقول: ألا هل بلغت رحم الله الأخ العزيز والمربي الفاضل والصديق الوفي والعالم المخلص المتواضع الأستاذ الدكتور محمد الطاهر الجوابي. ألسنة الخلق أقلام الباري فلا تكاد تردد عنه كلمة إساءة لأحد من زملائه ومعارفه لا تزيد عن الدعاء بالهداية والغفران لمن أساء إليه ولم يقابل الإساءة إلا بالإحسان. زهد رحمه الله في الدنيا ومتاعها وحرص على إن لا يتقدم لنجمل أية مسؤولية وهو المؤهل للعديد منها تفرغ للدين يخدمه بلسانه وقلمه ونصحه وإرشاده لكل من طلب منه ذلك. كان رحمه الله قليل الكلام إلا فيما يفيد كثير العمل خصوصا فيما لا يكاد يظهر للأعين ويراه الناس يفكر في أحوال أحبابه وذوي أرحامه ويتفقدهم ولا يتأخر عن عرض ما يمكنه أن يقدمه من إعانة خالصة لوجه الله لا يريد من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. فنم قرير العين مطمئن النفس أيها الأخ العزيز والصديق الحميم ولتهنا بجوار النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئهنم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم اجر العاملين) صدق الله العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.