في رياض السنة: من كرم الله وحلمه وواسع رحمته بعباده
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: قال إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيآت، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنه حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله له سيئة". رواه البخاري وغيره هذا الحديث قدسي، والأحاديث القدسية هي من كلام الله غير القرآن، الكلمات من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى موحى به من الله عز وجل، والفرق بين كلام القرآن الذي هو لفظ ومعنى من عند الله والحديث القدسي الذي هو معنى فقط من عند الله، أن القرآن يتعبد به (أي يصلى به) بينما الحديث القدسي وإن كان كلام الله إلا انه لا يتعبد به (أي لا يصلى به). والأحاديث القدسية كثيرة مبثوثة في الصحاح والسنن وكتب الأحاديث ومن الأحاديث القدسية قول رسول الله فيما يرويه عن ربه (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما فلا تظالموا..) وقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته..) هكذا يتبين مدى سعة رحمه الله بعباده وكرمه وإحسانه وكيف انه سبحانه وتعالى يجازي على النوايا ويضاعف الثواب والأجر على من يهمّ بفعل الحسنة وأنه سبحانه وتعالى كرما وعفوا وصفحا وحلما يجعل الهمّ بالسيئة لا تكتب فإذا أضيف إلى الهمّ بالعمل تجسيم ذلك في حيز الواقع فإن تلك السيئة لا تكتب إلا بواحدة أي لا تضاعف كما هو الأمر بالنسبة للحسنة التي تضاعف أضعافا كثيرة. ونظير هذا الكرم الإلهي كثير جدا في الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية من ذلك أن الله تبارك وتعالى وهو الغني عن عباده يفرح فرحا شديدا (ولله المثل الأعلى) بتوبة عبده وعودته إلى الجادة والطريق المستقيم فيقول في الحديث القدسي (إذا تقرب إلي عبدي شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الجامع: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وقوله عليه الصلاة والسلام (يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله) و(نية المرء خير من عمله). وهذا الحديث القدسي يرد في هذا السياق المبين لكرم الله وجوده والمذكر بغناه عن عباده (يا عبادي لو أن إنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئا يا عبادي لو أن إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). إنها حقائق إيمانية هي صميم عقيدة المسلم في ربه الغني المتعال سبحانه وتعالى والذي هو كريم جواد يجازي بالكثير على العمل القليل لا يخلف وعده بينما يتخلف وعيده وذلك من تمام وكمال قدرته سبحانه وتعالى (لا يسأل عما يفعل) حسناتنا من عطائه وسيآتنا من قضائه وله الحجة البالغة. إن الله تبارك وتعالى يعلم ما كان وما يكون ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة من أعمال عباده خيرا وشرا حسنات وسيآت في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها. لقد بين الله لعباده بواسطة رسله وأنبيائه عليهم السلام وما انزل عليهم من كتب وصحف الحسنات وما أعد الله للقائم بها من اجر وثواب كما بين لهم السيآت وحذرهم من الوقوع فيها وما أعده الله من عذاب لمن يأتيها. ثم يفصّل الحديث القدسي فيبدأ بالحسنة فيجعل مجرد الهم بها والعزم على فعلها وهو حديث النفس وهي نفس طيبة بقيت على فطرتها النقية الطاهرة السليمة، من فكر ومجرد التفكير في فعل الخير وإتيانه فإن الله السميع العليم الخبير إن الله عز وجل يكتب ذلك الهمّ والعزم على فعل الخير حسنة كاملة (يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله). فإذا هم العبد المؤمن بالحسنة وألحق بالهمّ الفعل والتجسيم العملي فإن الله تبارك وتعالى يكتب تلك الحسنة عشر حسنات (الحسنة بعشر أمثالها) وأكثر من ذلك إلى سبعمائة ضعف على غرار قوله جل من قائل (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) ويتجاوز كرم الله على عبده ذلك إلى أضعاف كثيرة. وفي مقابل ذلك وفيما يتعلق بالسيآت فإن مجرد الهمّ بها مما هو من قبيل حديث النفس فإن الله تبارك وتعالى لا يعاقب عليه فإذا تغلب العبد المؤمن على نفسه الأمارة بالسوء ونهاها عن تجسيم ذلك الهمّ السيئ فإن الله تبارك وتعالى يجازيه حسنة على عدم فعل ما همّ به من شرّ الامتناع عن فعل الشر مخافة لله بعد التفكير في فعل ذلك الشر يجازي الله عليه عبده بأن يكتب له حسنة كاملة وهو في الواقع لم يفعل حسنة وإنما امتنع عن فعل شر كان يهم بفعله ثم تغلب جانب الخير فيه فلم يفعل ذلك الشر ولم يفصل الحديث هل أن الامتناع عن فعل الشر عند القدرة على ذلك أو حتى عند عدم القدرة وليس لنا أن نقيد ما لم يقيده الله. فإذا هم العبد بالسيئة ثم عملها وكثيرا ما يقع ذلك منا لغفلة وضعف، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعفو عنا ولا يؤاخذنا ونسأل الله أن نكون ممن قالوا (اللهم إنا لم نأت الذنوب جرأة منا عليك ولكن شهواتنا وظلماتنا غلبتنا فعصيناك فاغفر لنا فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت). إذا همّ بالسيئة فعملها كتبها الله له سيئة واحدة، ما أكرمه من رب وما أحلمه من إله وما ألطفه من خالق بعباده الضعفاء الذين يقرون قائلين (لا اله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين، استغفرك وأتوب إليك).