في رياض السنة:“لا هجرة بعد الفتح”
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا”متفق عليه معناه لا هجرة من مكة لأنها صارت دار إسلام هذا الحديث الشريف ترويه أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنها وهي الفقيهة العالمة اللصيقة برسول الله صلى الله عليه وسلم والتي روت عنه عديد الأحاديث وبلغت رضي الله عنها هديه عليه الصلاة والسلام خصوصا ذلك الذي هي به اعلم من سواها من الرجال والنساء فقد كان كبار الصحابة رضي الله عنها يرجعون إليها ويأخذون منها ذلك مسلما. هذا الحديث حول الهجرة بصفة عامة هو الذي نبين معانيه وما فيه من هدي قويم وتوجيه للمسلمين إذ فيه تحقيق للقول وتوضيح لمعالم الدين حتى لا تختلط على المسلمين المفاهيم فيقعون في المحظور من الأفهام والاعتقادات والتصرفات وعندما تطلق كلمة هجرة فإنها تنطبق أول ما تنطبق على الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هذه الهجرة التي أذن الله بها لرسوله ونبيه سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام وحدد له فيها المكان والزمان. أما المكان فكان إلى المدينة المنورة وأما الزمان فقد كان بعد أن قضى عليه الصلاة والسلام في مكة طيلة ثلاثة عشر عاما ظل فيها يدعو أهل مكة وما حولها ليلا ونهارا سرا وجهارا كان يدعوهم ليقولوا (لا اله إلا الله) لم يبدل ولم يغير ولم يتزحزح قيه أنملة ولم يقبل التنازل عما سطره له ربه وأراده منه ضاربا عرض الحائط بكل ما عرض عليه قائلا بإصرار لعمه أبي طالب الذي ظل واقفا إلى جانبه إلى آخر رمق (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن اترك هذا الأمر ما تركته). نعم لقد فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرج لمن آمن به من أصحابه الذين سلطت عليهم قريش صنوفا من العذاب لا تحتمل فأرسل بهم إلى النجاشي ملك الحبشة الذي كان عند حسن ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم به فقد كان ملكا عادلا لا يظلم عنده احد. وكان أمير هذا الركب الذي هاجر إلى الحبشة جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه الملقب بجعفر الطيار الذي أحسن السفارة فبلغ أفضل تبليغ الأمر الذي جعل النجاشي يرد مبعوث قريش عمرو بن العاص بيد فارغة وقد كان يأمل أن يدفع النجاشي بهؤلاء المهاجرين فما فعل ذلك النجاشي وإنما أكرم وفادة من هاجروا إلى بلاده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بادر بإرسال عدد من أصحابه إلى المدينة وأرسل معهم من يعلمهم دينهم وكان ذلك بتوطئة تمثلت في بيعة أولى وثانية وقعت لبعض من أهل يثرب الذين قدموا مكة بمناسبة موسم الحج وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين الذي جاء به من عند الله فاعتنقوا الإسلام وبايعوه إن هو هاجر إليهم على النصرة وكان منهم ذلك مثلما فقد استقبلوا أحسن استقبال إخوانهم الذين هاجروا إليهم من مكة فارين بدينهم وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن له بالهجرة وكان له ذلك رغم انه كان يعلم انه مهاجر لا محالة إذ كما قال له ورقة بن نوفل في اليوم الأول الذي كان له مع مشهد الوحي فقد قال له: (ما من نبي دعا بدعوتك إلا واخرجه قومه). استبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في مكة إلى آخر لحظة صاحبيه أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أما أبو بكر فقد كان الصاحب في الهجرة التي جند لانجاحها كل ما لديه ومن حوله (ابنه عبد الله وابنته أسماء وراعي غنمه وقد اتخذ رضي الله عنه الخرّيت العارف بالطريق ومسالكه كما اتخذ الراحلتين له ولصاحبه واستحق بحدبه الشديد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول في حقه المولى في كتابه العزيز (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وكانت له قبل دخولهما الغار وعند خروجهما منه مواقف تبين مدى حبه الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستعداده الصادق لفدائه بنفسه. أما الصاحب الثاني الذي استبقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو علي ابن أبي طالب رضي الله عنه الذي قبل أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرهنا بذلك عن فدائية منقطعة النظير ولم ينله مكروه فهو محفوظ بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج سالما منن بين صفوف من كانوا يخططون لتقاسم دمه صلى الله عليه وسلم. استبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه وصاحبه الإمام علي كرم الله وجهه ليؤدي للناس اماناتهم ولا يخفى ما في ذلك من هدي قويم للمسلمين فالحقوق لا يد أن تؤدى إلى أصحابها مصداقا لقوله جل من قائل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). نجحت الهجرة وغادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله وعونه ثم بفضل ذلك التخطيط المحكم الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج من أحب البلاد إليه (مكة) واسكنه الله أحب البلاد إليه (المدينة المنورة) لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة المحمدية انتهت بكمال الدين وتمامه وانتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا. وكانت هذه الحقبة مليئة بالأحداث التي أصبح بها الإسلام صرحا شامخا متكامل الأركان محجة بيضاء سطع نوره فعم الآفاق وفتح الله تبارك وتعالى مكة المكرمة فدخلها صلى الله عليه وسلم هو ومن كان معه من أصحابه من المهاجرين والأنصار وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك بما انزله عليه ربه وهو عائد من صلح الحديبية (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) وجاء نصر الله (إذا جاء نصر الله والفتح) وبعد هذا الفتح لم تعد هناك هجرة فقد أصبحت مكة دار إسلام وطهرها الله من الأصنام والأوثان وأصبحت قبلة المسلمين في صلواتهم وأصبحوا إليها يحجون لأداء خامس أركان الإسلام الحج إلى بيت الله الحرام وإذا كانت الهجرة من مكة لم يعد لها ما يبررها وكذلك الهجرة من أي دار من ديار الإسلام فان فكرة الهجرة بمعناها البعيد المدى العميق الأغوار ظلت قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وذلك بمعنى هجرة المعاصي والذنوب والسيآت وكل ما يغضب الله. فالمسلمون بعد فتح مكة المكرمة في هجرة دائمة مستمرة وذلك عندما يستصحبون النية، إنهم بهذا الصنيع الخالص لله رب العالمين في جهاد دائم إلى أن يلقوا وجه الله الذي يتولى مجازاتهم على هذه النية الخالصة. والمسلم لا يتأخر إذا استنفر للجهاد من طرف ولي الأمر عن الاستجابة لنداء الواجب. تلك هي بعض المعاني التي ينبغي استحضارها عند توديع عام هجري واستقبال آخر ودعاء الله أن يجعل العام الهجري الجديد عام يمن وبركة على جميع المسلمين. انه سبحانه وتعالى سميع مجيب.