في رحاب القرآن: تطهير الحج مما علق به في الجاهلية
يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فان خير الزاد التقوى وأتقون يا أولى الألباب. ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم أبائكم أو اشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب، واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) صدق الله العظيم، هذه الآيات من سورة البقرة تتعرض مع الآيات التي قبلها من قوله جل من قائل : (وأتموا الحج والعمرة لله) تتعرض إلى بيان مناسك الحج والى إبرازه في إطاره الحقيقي حتى تتوجه أنظار المسلمين إلى صميمه وحقيقته مثلما هو الشأن في بقية التشاريع الإسلامية التي دعا إليها القرآن الكريم وبينتهما السنة المطهرة وإننا سنقتصر على تفسير الآيات بما يقتضيه التفسير المجمل بدون أن نتعرض إلى تفصيل الأحكام الفقهية لان ذلك يبعد بنا عن الغرض الأصلي ولا يغني عن مزيد من التفصيل والتدقيق. (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فان خير الزاد التقوى وأتقون يا أولى الألباب) لقد اقر الإسلام ما حفظه الناس وتناقلوه بالتواتر عن دين إبراهيم وإسماعيل في توقيت الحج وجعله لا يتجاوز الأشهر المعلومة التي هي شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة. وليس غريبا أن يقر الإسلام ما بقي واضحا من آثار الحنيفية البيضاء، إذ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، إنما فقط يهذب الإسلام ما يقتضي التهذيب ويزيل عن الأصول العامة ما لاصقها من طفيليات هي في واقعها غريبة ولكن كثرة الاستعمال صيرتها كجزء من الأصل العام. ولهذا فانه يقول (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) انه يطالب من التزم بآداء هذا الركن العظيم وشرع فيه بالإحرام أو سوق الهدي وما يقتضي الشروع والعزم يطالبه فان يتجرد من الهذر وفحش القول أو مقاربة النساء وهذا ما يسمى بالرفث على معنييه اللغوي والشرعي وبان يتجرد أيضا عن الفسوق الذي هو لغة التنابز بالألقاب وشرعا الذي هو كل معصية. وبأن ينسلخ عن المراء والجدل الذي هو مضنة التخاصم والعداء يتجرد وينسلخ عن كل هذه الأشياء مثلما تجرد من المخيط والمحيط، اجل عليه أن يعلم انه في شهر حرام وفي بلد حرام تضاعف فيه الحسنات وتحط به السيئات وتنال فيه الرغبات، وبدون شك تعظم فيه المعصية لأنها دليل قلة الحياء وتحجر العاطفة وتبلد الشعور وفضلا على ما ورد من الأحاديث الكثيرة التي تبشر الحجاج والعمار بالخير الجم مثل ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) قلت فضلا عن ذلك فان تلك المشاعر والمناسك وذلك البيت العتيق وما ارتبط به من أحداث قريبة وبعيدة وذكريات مشرفة ومشوقة وتلك المدة المحدودة التي هي كإلمامة حبيب عزيز مودع. وذلك الجو الروحاني الغامر، وتلك الفيوضات التي يشعر بها كل من عمر الإيمان قلبه جميع هذه الأشياء وكثير غيرها تجعل الرفث والفسوق والجدال أمورا تافهة لا يتعاطاها إلا التافهون الذين جعلوا شعارهم في الحياة اللامبالاة. وليتهم تمعنوا في قوله جلت كلماته (وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فان خير الزاد التقوى وأتقون يا أولي الألباب) أي غر بسيط يغرب عن ذهنه أن المولى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يعلم ما توسوس به النفوس، وما يتحرك وما يسكن في ظلمات البر والبحر ومادام ربك يعلم كل شيء ويحصي كل كبيرة وصغيرة فمن العته والجنون أن يجد الفقير فرصا مواتية للاغتراف والغنم والتزود ويترك سبيلا إلى الحاجة والفقر، إننا لا نتصور فقيرا واحدا من العقلاء وجد كنزا ليس على ملك احد وادخر من جهوده أو من حقائبه أو من ثيابه شيئا فلم يشتغلها ولم يشحنها بما يبعد الفقر حتى عن بنيه وأحفاده فمالنا نرى كثيرا من العقلاء تتاح لهم فرص التزود بخير الزاد وهو التقوى، التقوى التي هي الوقاية الوحيدة من شرور السماء والأرض، والدنيا والآخرة. تتاح لهم فرصة العمر فيكونون ضيوف ربهم الأغنى والأكرم، ومع ذلك يضيعونها في ما لا يجدي نفعا. ويعودون إلى أهليهم كما ذهبوا منهم، اللهم إلا الخسارة المادية واللقب الخدوع. إن أمثال هؤلاء لمن الحمقى والمعاتيه ولو كانوا من ذوي العقول والألباب لقالوا لربهم لبيك لبيك عند سماعهم لندائه (وأتقون يا أولي الألباب)، ثم يأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يزيل حيرة أولئك الحائرين الذين رأوا تطهير الإسلام للحج من رواسب الجاهلية الأولى وإبعاده عن معاني الاستغلال المادي والتنابذ والتفاخر، والرفث والفسوق والمراء فخيل إليهم انه تحويد تام وتجرد مطلق ولن يتحقق لهم ذلك إلا إذا انقطعوا عن كل عمل للدنيا بما فيه من إيجار وبيع وكراء وما إليها من معاني التكسب ولن يزول هذا التوقف إلا بوحي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيعطيهم الجواب الحاسم وها هو الجواب يجيء في الإبان فلنستمع إلى الحكيم العليم يقول: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وان كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور) ليس على المؤمنين من حرج أن يشتغلوا مدة أداء فريضة الحج يما هم في حاجة إليه من عمل وتجارة وصناعة اقتضتها ضروريات حياتهم لان ذلك كله في نظر الإسلام عبادة تقريهم إلى الله زلفى وتبعد عنهم وعن مجتمعهم أشباح الخصاصة والحرمان إنما الذي يريد الإسلام ضبطه وتحديده هو توضيح المقاصد، والبعد عن التداخل الذي يذهب رونق الأشياء ويبعد بها عن حقائقها (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) هذا هو التحديد الواضح الحكيم، إتيان البيوت من أبوابها فقط وتسميته الأشياء بأسمائها الحقيقية وما زاد على ذلك فكله ممكن، تصوم وتعمل وتصلي وتمارس كل شيء وتحج وتبيع وتشتري وتخالط وتعاقد كل ذلك مشروط بعدم ضياع المقصود الأصلي (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) ثم يقول الله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وان كنتم من قبله لمن الضالين) انه يطلب من الحجاج بعد أن يتوجهوا في مساء اليوم التاسع من عرفات إلى المزدلفة وهي المشعر الحرام مرددين ذكر الله بالدعاء والتحميد والتلبية: التلبية التي هي شعارهم منذ الإحرام لا تفتأ ألسنتهم ترددها في كل حين مهما دخلوا أو خرجوا وكلما قاموا واستيقظوا وفي كل تبدل من حالة إلى أخرى (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك) وليس ذكر الله مقصورا على هذه التلبية وذلك الحمد والدعاء بل انه استغراق في الذكر والتفكر واستشعار النعم التي من أولها هدايتنا إلى معرفته سبحانه وتعالى والى كيفية دعائه وطلبه ولولا ذلك لبقينا كما كان آباؤنا الأولون نتعسف طريق الضلالة والغي: فما هدايتنا إذن إلا من محض فضله وهي أحق النعم بالشكر والاعتبار، ومن اجل هذا يمضي القرآن في القضاء على رواسب الجاهلية الأولى فيقول (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) اجل انه إيذان بأفول شمس العنجهية والتعالي بالآباء والجدود. وإعلان صريح على أن هذا الدين يقر أول ما يقر مبدأ التساوي في الحقوق والواجبات إذ لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لابيض على اسود إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، فهل يتسنى لقريش أو لكنانة أو قيس الذين هم الصلاب الشداد في الدين والحرب حسبما ادعوا لأنفسهم واقرهم العرب على ذلك، قلت هل يتسنى لهم بعد أن سمعوا ربهم يقول (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) وبعد أن رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يقف مع عموم أمته بعرفات أن يدعوا لأنفسهم شوفان بما يميزهم عن خلق الله فيقفون بمزدلفة مثلما كانوا يفعلون في جاهليتهم تلك الجاهلية التي حرفت كثيرا من مفهوم القيم وبدلت شريعة إبراهيم وإسماعيل، فحق لهم أن يستغفروا ربهم مما كانوا يرتكبونه من آثام جماعية أو فردية ويمضي القرآن في تقويم الاعوجاج والانحراف بدغدغته اللطيفة واللاذعة فيقول (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا) إذا ما انتهى الحاج من رمي الجمار ومن الإقامة بمنى في أيام التشريق فليضرب صفحا عما كان يفعله الجاهليون من اجتماع للتفاخر بالآباء والجدود والقبائل والأصول، وليبدلوا كل ذلك بذكر ألاء الله ونعمه وبتكبيره في أيام التشويق وتسبيحه وتمجيده تمجيدا هو له أهل ولا يجاريه فيه مجار. وهؤلاء الذين يذكرون ربهم ويدعونه رغبا ورهبا وتضرعا وخيفة هم على نوعين. نوع يتكالب على شؤون الدنيا فلا يتذكرها إلا هي من بسط في الرزق ومد في العمر ونصر على الخصوم وإنجاح للبنين وينسون تماما نصيبهم من الآخرة فلا غرو أن يقول الله فيهم: (ما له في الآخرة من خلاق) أي ليس له نصيب ولاحظ في الآخرة أما نوع الثاني وهم الرشداء فيقولون (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) هؤلاء هم الناجحون في الحياتين لأنهم طلبوا من ربهم أن يؤتيهم حسنة الدنيا وحسنة الآخرة وما حسنة الدنيا إلا التوفيق للأعمال الناجحة الموصلة إلى المقاصد من اقرب سبيل وبذلك يتوفر للإنسان ما يتوق إليه من مال وجاه ونصر على الأعداء والمشاكل. وما حسنة الآخرة إلا الفوز برضى الله وسكنى الجنان وذلك يكون بالإيمان الصادق والعمل الصالح الذين بهما تحصل الوقاية من العذاب السرمدي ولقد وعدهم الله بالاستجابة والقبول وهو سريع الحساب ثم تختم الآيات بالتوصية بالإكثار من ذكر الله والتكبير في أيام منى وهي المسماة بأيام التشريق التي هي من الحادي عشر إلى الثالث عشر من ذي الحجة وهي أيام رمي الجمار التي خفف المولى على عباده المؤمنين بأن جعلها يومين للمتعجل وثلاثة أيام لغير المتعجل فيقول (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) صدق الله العظيم.