في رحاب القرآن الكريم :البر لفظ جامع لكل طاعة
يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) البقرة آية 177. إذا أردنا أن نبحث لكلمة البر عن معنى فلا نجد لها سوى أنها لفظ جامع لكل طاعة ولأعمال الخير التي تقرب الإنسان إلى الله، وتقربه من قلوب الناس وتوجب له حسن المثوبة، وتدخله في نهاية المطاف جنة الخلد التي لا ينقطع نعيمها ولا يكون أهلها إلا كما قال الله فيهم (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين). هذا البر الذي هو صفة لكل بار أرادت الآية الكريمة أن تتحدث عنه بحقيقة تفند بعض مزاعم الزاعمين الذين يظنون أو يدعون أن البر كله محصور في توجيه الوجوه شطر الكعبة أو بيت المقدس لأداء صلوات فرضها الله على كل الناس، وبمجرد القيام بها يقفز الإنسان في سلم القيم حتى يصبح من الأبرار الأخيار، نعم إنها جزء من أشياء كثيرة يجب أن تتحقق في الإنسان حتى يحرز على هذا اللقب الشريف وعلى تلك الغاية السامقة: لا بد له من أن يؤمن إيمانا راسخا بربه سبحانه وتعالى وبما تفرد به من صفات الربوبية التي تجعل كل شيء في الدنيا يقع بقضائه وقدره ومن متممات هذا الإيمان بالله أن يؤمن الإنسان بالملائكة وبالكتب السماوية وبالرسل عليهم الصلاة والسلام وباليوم الآخر الذي هو يوم الجزاء الأكبر وبعد هذا الإيمان الذي تعمر به القلوب وتطهر وتصقل الإنسان أمام اعنف امتحان وأشقه هو امتحان المال، المال الذي يحبه أصحابه حبا جما. ويحتاج إليه إخوانهم احتياجا ملحا فمن أنفقه رغم حبه الشديد له-على ذوي قرابته وعلى الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وعلى كل مشروع يفيد الأمة التي هي أمته وهو جزء من أجزائها بسعادتها يسعد وبشقائها يشقى كان قد قطع شوطا نحو البر وكان مؤمنا بالله الذي قال: (واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (أي المسافر الغريب) وكان أيضا مؤمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال (ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع) ثم بعد هذا الامتزاج الحقيقي والرحمة الصادقة والسخاء البريء توجه إلى الله بصلاة خاشعة يطهر بها نفسه من رواسب الشر ويزودها بطاقات الإيمان والقوة والعزيمة، وتوجه إليه أيضا بأداء ما فرض على ماله من زكاة تطهر ثروته وتنميها وتحرسها (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ولن يصل إلى ما يريده من برور إلا إذا أضاف إلى كل ذلك وفاء بالتزاماته وعهوده لله ولنفسه وللناس فلا يخفر ذمة ولا ينقض عهدا وبذلك يكون من الذين قد تجملوا بصفة الصدق التي هي من أعظم خلال الشرف والإيمان (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) ثم يؤكد المولى سبحانه وتعالى على صفة أخرى هي صفة الصبر التي لا يمكن أن تتأتى فضيلة من الفضائل إلا ولها اثر بليغ فيها فلا غرو أن تشير الآية إلى زيادة التنبيه عليها والتأكيد في شانها (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)-والبأساء وهي شدة الفقر والضراء حالة المرض- أما حين البأس فهو شدة القتال في سبيل الله. وهذه هي المجالات التي تبلغ فيها القلوب الحناجر وتزيغ الأبصار، ويظن الناس بربهم الظنون وأنها للحظات دقيقة لا يتغلب الإنسان عليها إلا بالصبر والإيمان ومن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله. وحري بمن تجمع له هذا الرصيد من الصفات أن يقول فيهم خالقهم (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون). نعم، أولئك الذين صدقوا في إيمانهم وفي ادعاء البر وأولئك هم المتقون لربهم الخائفون منه المحبون له ولقد جمعت هذه الآية الكريمة مجامع الكمالات الإنسانية وهي صحة العقيدة وحسن المعاشرة وتهذيب النفس ولكم في القرآن من آيات وعبر (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).