في المقام الشاذلي أختام قرآنية لا ينقطع سندها ولا يتوقف مددها
من يزور المقام الشاذلي ليلة الجمعة ليصلي العشاء ويقضي فترة قصيرة لا يستطيع أن يغادر المقام قبل قضاء وقت طويل لا يشعر بمروره فسور القرآن الكريم التي يشرع في تلاوتها على اثر الانتهاء من صلاة العشاء تأخذ بأعناق بعضها البعض وتندرج بالقارئ والمستمع شيئا فشيئا إلى بلوغ درجة من الاستغراق في القرآن الكريم ومعانيه التي لا تنقضي ولا تنتهي يصحب ذلك خشوع لكل جوارح الراتع في هذه الروضة القرآنية فلا غرابة أن تسمع بالقرآن أنينا من اثر تلاوته والتفاعل معه وان ترى دموعا تتساقط بدون تكلف ولا تصنع ممن يحيط بك يمينا وشمالا سواء كانوا شيوخا مسنين أو كهولا أو شبانا في مقتبل العمر. إنها تجليات قرآنية شاذلية تتهيأ صيف كل عام في المقام الشاذلي لأحباء القرآن الكريم يحرصون على شهودها وحضورها رغبة في الأجر والثواب. ومما يزيد هذا الحفل والمشهد روعة ما يختم به من دعوات خاشعات وضراعات صادقات لله سبحانه وتعالى كي لا يدع لمن حضر وغاب ولمن أوصى واستوصى ذنبا إلا غفره ولا هما إلا فرجه ولا دينا إلا قضاه ولا مريضا إلا شفاه ولا ميتا إلا رحمه ولا حاجة هي لله رضا إلا قضاها، دعوات مستلهمة من القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة وآثار السلف الصالح ممن سلك طريق الله فبلغ فيه شاوا عظيما ويأتي في طليعة هذا السلف الصالح شيخ الشاذلية أبو الحسن علي الشاذلي هذا الإمام الجليل الذي آتاه الله كلاما قريب العهد منه، آية في البلاغة والإعجاز البشري تضمن فيه الآيات القرآنية تضمينا عجيبا لا نشاز فيه وتتكامل تكاملا لا نجد له نظيرا فيما قرأناه واطلعنا عليه من الأدبيات الروحية الصوفية. فأدعية وأحزاب الإمام الشاذلي كثيرة لا تحصى تضمن بعضها السفر الجميل الذي تولت إخراجه مشيخة المقام الشاذلي في طبعة أنيقة واضحة ومزينة تحمل عنوان: نبراس الأتقياء ودليل الأنقياء نرجو أن تكون باكورة لما انتظرناه سنين طويلة من إخراج لآثار الإمام الشاذلي التي تزخر بها المكتبات الخاصة والعامة. * والأحزاب الشاذلية هي أكثر بكثير مما تضمنه هذا السفر فقد قيل أن الأحزاب لا تقول إنها انتهت إلا إذا وجدتها قد تضمنت كل القرآن الكريم وعلى كل فالموجود في الوقت الحاضر من هذه الأحزاب في هذا السفر كثير ومتداول بين أيدي الناس. * وشروح الأحزاب الشاذلية عديدة قليل منها المطبوع والكثير هو المخطوط في المكتبة الوطنية وغيرها من المكتبات الخاصة وهي شروح لعلماء إجلاء من أبناء تونس ومن أبناء البلاد المغاربية والعربية والإسلامية وحتى الإفريقية. فالطريقة الشاذلية وأحزاب أبي الحسن وأدعيته منتشرة في كل البلاد العربية والإسلامية إنها هناك في إفريقيا الغربية والشرقية وهناك في آسيا الوسطى والقوقاز حيث ساهمت في المحافظة على هوية تلك الشعوب التي تعرضت إلى محن قاسية طيلة لما يقارب القرن من الزمان، وهي هناك في اندونيسيا وماليزيا وملاوي والجزر النائية بل إنها هناك في قلب أوروبا. * إن تونس إذ ذكرت هناك فإنما تذكر بالزيتونة وعلمائها وتذكر بأبي الحسن الشاذلي ومقامه ومغارته وأحزابه وأوراده وأدعيته فقد مر أبو الحسن الشاذلي بتونس: مر بها وهو في طريقه إلى الشرق وعاد إليها معلما ومربيا وناشرا لطريقة سلوكية ومكونا لأجيال من العلماء والصلحاء ثم تركها من جديد إلى مصر ليقضي هناك بقية أيامه ولكن المرحلة التونسية من حياة أبي الحسن ستظل بارزة وباقية واثر الفترة التونسية في الطريقة الشاذلية لا ينكر ولا يمكن أن تمحوه السنون. * والمقام الشاذلي لا يزال يحتل من قلوب التونسيين السويداء منذ أن مر أبو الحسن الشاذلي بتونس فقد التونسيون في مختلف الحقب على إيلاء هذا المقام ما يستحق من العناية والرعاية: تشييدا وترميما وصيانة وعطفا وحدبا على شيوخ المقام وخدامه من مختلف الأجيال حتى يبدو المقام والمغارة في أحسن حال وأجمله كما هو عليه الآن والحمد لله فضلا عن إزالة كل المظاهر التي يمكن أن تتعارض مع طهارة وقدسية وروحانية المقام والمغارة. * وليس بالعزيز على مشيخة المقام وعلى الهيئات الثقافية والدينية أن تجعل من هذا الموسم السنوي ملتقى دينيا دوليا يشهده كبار الشاذلية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي والعربي فيكون المقام الشاذلي في تونس مزارهم الذي يقصدونه ويوثقون به حبل الوصال مع تونس وأهلها والشاذلية فيها. * فالشاذلية اليوم هم في الصفوف الأولى في بلدانهم في مختلف المواقع الاقتصادية والمالية والعلمية والثقافية والاجتماعية. إن هذا البعد الروحي وهذه القناة الشاذلية الواسعة البث يمكن أن تزيد تونس إشعاعا وتعريفا بما حباها الله من تجانس وتناغم وتحابب وتسامح وتكافل ووئام وما ذلك على ذوي العزائم الصادقة بعزيز. فليلة الجمعة الرابعة التي هي ليلة ختم موسم الزيارة كانت مشرقة بأتم معاني الكلمة، تذكر بليالي رمضان المعظم تلك الليالي العطرة التي تزدان فيها المساجد والجوامع بالقرآن الكريم يتلى على مسامع المصلين للتراويح ويختم في العشر الأواخر من الشهر المبارك. فموسم الزيارات للمقام الشاذلي التي تمتد لما يقارب ثلاثة اشهر من أول فصل الصيف إلى آخره هي عبارة عن روضة من رياض الجنة إنها روضة القرآن الذي هو خير الكلام والذي بتلاوته تتنزل الرحمات وتغفر الزلات وترفع الدرجات والذي هو أفضل ما يتعبد به الله تبارك وتعالى من النوافل. ويجمع المقام الشاذلي إلى هذا الخير خيرا آخر يتمثل في تلك الأذكار والتسابيح والصلوات على النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ثم يفسح المجال إلى تلاوة حزب البحر هذا الحزب العجيب الذي هو حزب التسخير لما خلق الله تبارك وتعالى فكل الكائنات عاقلها وغير عاقلها حيها وجمادها خاضعة لإرادة الرحمان الذي يقول للشيء (كن فيكون) فإذا ما دعا العبد المؤمن بصدق وإخلاص خالقه ومولاه بحضور وأدب وخشوع فان سبحانه وتعالى يجيب عبده أليس هو القائل جل من قائل (وإذا سالك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني)؟ أليس هو القائل (وقال ربكم ادعوني استجب لكم)؟ أليس هو القائل (امن يجيب المضطر إذا دعاه)؟ الم يقل نبيه وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (الدعاء سلاح المؤمن) والقائل (الدعاء مخ العبادة)؟ فمن ألهم الدعاء وأطلق لسانه فقد تهيأت له الإجابة مسبقا إلا انه عليه أن لا يعجل ذلك أن الله تبارك وتعالى يستجيب فيما يريد لا فيما يريد العبد ويستجيب متى يريد الله سبحانه وتعالى لا متى يريد العبد. فالعبد لا يعلم الغيب ولو اطلع العبد الداعي على الغيب لاختار الواقع. فما من دعوة خير يدعو بها المؤمن إلا ويستجاب لها في الحين أو تدخر الإجابة لها إلى الآخرة (وهو ما يتمناه العبد المؤمن يوم القيامة) أو يصرف عن العبد المؤمن بتلك الدعوة بلاء كان نازلا به لا محالة. فالدعاء والقضاء يتصارعان إلى أن يبلغا عنان السماء ويتغلب في النهاية الدعاء على القضاء فالحمد لله على كل حال. فحال المسلم كله خير وليس ذلك لأحد سواه إذا أصيب صبر فله اجر وإذا أعطي شكر فله اجر). فالمسلم لا يمل من الدعاء في كل أحواله يتخير لدعائه المقامات والساعات التي يرجح أنها ساعات الإجابة، ومن ساعات الإجابة ومواطنها مثل هذه المجالس القرآنية التي تعقد في المقام الشاذلي فاجتماع ذلك الحشد الحافل من مختلف الأعمار والفئات في ليلة الجمعة وهي ليلة مباركة يختم فيها القرآن الكريم ويتبع هذا الختم بالتسابيح والأذكار والصلوات والمناجاة لله بأسمائه الحسنى وبقراءة حزب البحر من شأن كل ذلك أن يجعل زوار المقام الشاذلي يعتقدون أنهم قد نالوا مبتغاهم ألا وهو استجابة المولى سبحانه وتعالى لدعواتهم وطلباتهم بمنه وجوده وكرمه وإحسانه. ومن يمن الطالع أن تجتمع هذا العام (1432هـ/2011) في أسبوع واحد أختام صلاة التراويح (ويصادف ذلك يوم الجمعة ليلة السابع والعشرين من رمضان) ولتراويح المقام الشاذلي خصوصية إذ أن القرآن كله يقسم القيام به على أيام الجمعة الأربعة من شهر رمضان ويتداول على إمامة هذه التراويح خيرة حفاظ القرآن وعلى رأسهم الشيخ محمد الكرماوي شيخ القراء في المقام الشاذلي. ومن يمن الطالع أن يكون أسبوع الاختتام لموسم الزيارات والأسبوع الموالي لشهر رمضان فيحتضن المقام الشاذلي ختما آخر للقرآن الكريم ترتفع على إثره الأيدي والأصوات بصادق وخالص الدعوات ويكون تتويج كل ذلك يومي الخميس والسبت المواليين بزيارتين لكل من سيدي الشريف بحلق الوادي وسيدي أبي سعيد الباجي بجبل المنار حيث يلتقي الشاذلية ويتلون أحزابهم وأذكارهم وادعيتهم التي يؤمنون عليها ضارعين إلى الله أن يتقبلها منهم وأن يجعل عملهم خالصا لوجهه الكريم وأن يكتب له ما كتبه لكل عمل خالص وما كان لله دام واتصل والعمل الشاذلي لأنه كذلك هاهو ذا يمتد عبر الزمان الطويل منورا ومعطرا ربوع هذه البلاد وأهلها التي لا تزال تحفها الألطاف الإلهية الظاهرة والخفية.