في استقبال العام الهجري الجديد: الأحداث والعبر والدروس
عام هجري جديد يهل علينا نقف عند بدايته لنذكر والذكرى تنفع المؤمنين بما تمثله الهجرة في تاريخ المسلمين من أهمية كبرى. فالهجرة فيصل بين عهدين العهد المكي الذي امتد من بعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بدين الإسلام عندما جاءه جبريل الأمين عليه السلام وهو يتعبد في غار حراء على عادته حيث ضمه إليه بعد أن أمره بالقراءة وهو الأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة والتي لا تعني عدم العلم ذلك إن الله تبارك وتعالى علمه ما لم يكن يعلم حتى أصبح لا ينطق عن الهوى وذلك بما يوحيه به الله إليه عن طريق الملك جبريل عليه السلام. أمر عليه الصلاة والسلام بالقراءة “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم” عاد عليه الصلاة والسلام إلى بيته ترتعد فرائصه وهو يقول (زملوني دثرونا) وهناك وجد زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها التي بادرت بالقول “والله لن يخزيك الله انك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر” ثم سارت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل العارف بأخبار الأنبياء والرسل والكتب والصحف فبشره بأنه النبي الذي بشرت به توراة موسى وأناجيل عيسى وان قومه سيخرجونه وهناك استغرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجه قومه فقال له ورقة: “ما من نبي دعا بدعوتك إلى وأخرجه قومه” فالخروج لا بد منه ولكن متى؟ والى أين؟ ذلك ما لا يعلمه إلا الله. ولذلك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل على أساس أن يبلغ ما جاء به من عند الله فانذر عليه الصلاة والسلام الأقارب والأباعد ودعاهم سرا وجهرا وانتقل إلى الناس حيث كانوا واستقبل القادمين على مكة وهي التي كان يحج إليها العرب ويشهدون الموسم، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ودعا أهل الطائف واستقبل أهل يثرب الذين بادروا إلى مبايعته في بيعة أولى وثانية. إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة وتخفيفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ما سلطت عليهم قريش من صنوف العذاب أذن للبعض منهم بالهجرة إلى الحبشة في هجرة أولى وثانية وأرسل معهم إلى النجاشي ذلك الملك العادل الذي لا يظلم عنده احد وكان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه نعم المبلغ لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدي قويم حيث قال “أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونسيء الجوار ونقطع الأرحام حتى بعث الله فينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصلة الأرحام وحسن الجوار فآمنا به وصدقناه”. وبدأ عدد المسلمين من أهل المدينة (يثرب) في الازدياد بمن التحق بهم من مسلمي مكة الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم بالهجرة حتى انه والرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في مكة المكرمة لم يبق بيت واحد في المدينة إلا ودخله الإسلام فقد وجد أهل المدينة في الإسلام المتنفس فقد أذكى نار العداوة والبغضاء بين أهل المدينة من الأوس والخزرج اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة فلما جاء الإسلام واعتنقه أهل المدينة من أوس وخزرج وجدوا فيه الملاذ وصمام الأمان حيث أزال الإسلام العداوة والبغضاء التي كانت تذكيها الأطراف الحاقدة. * وفي مكة المكرمة بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقليل من أصحابه استبقاهم لمهام سيؤدونها وكان من هؤلاء ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصاحبه أبو بكر الصديق الذي كان يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمهله قائلا له “لعل الله يتخذ لك رفيقا”. أسرة الصديق والتجند لإنجاح الهجرة وذات يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل أبي بكر رضي الله عنه في غير الوقت المعتاد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر: لقد أذن لي بالهجرة فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم يا أبا بكر فكانت فرحة أبي بكر لا توصف أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد استبقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لينام في فراشه مطمئنا له أن الكفار المتربصين برسول الله صلى الله عليه وسلم لن يصلوا إليه وفعلا فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم ولم يروه وهم الذين وقفوا ممتشقين سيوفهم ليشتركوا في دمه فإذا بهم يصابون بنعاس ولا يقومون إلا بعد أن تحرقهم أشعة الشمس عند طلوع الصبح في حين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو يردد قول ربه “وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”. وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه أبي بكر الذي تجند وجند كل أسرته لإنجاح هذه الرحلة المباركة وبينما بقي علي بن أبي طالب ليرد الأمانات إلى أصحابها “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها” فحقوق الناس محفوظة في كل الأحوال ومهما كانت الاختلافات معهم. تجندت أسرة الصديق: الابن عبد الله تعهد بتسمع أخبار قريش وما تعده من ردود أفعال. أما أسماء ذات النطاقين فقد تكفلت بأعداد الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه وكذلك طمأنة جدها الذي أراد أن يعرف ما تركه أبو بكر لأهله من بعده. أما راعي غنم أبي بكر فقد تكفل بالمرور على الغار لمناولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من لبن الغنم ثم المرور على آثار الإقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، كما اتخذ سيدنا أبو بكر الخريت وهو العارف بالطريق المختصر وغير المعتاد. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو في طريقه إلى الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتقل يمينا وشمالا وأمام وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم استعدادا منه لفداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وفي الغار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحبه قمة الفدائية حيث سد كل الثقب إلا واحدة سدها برجله ومنها لسعته حية ولم يعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عندما تصبب منه العرق من شدة الألم. ورصدت قريش أسخى الجوائز لمن يأتي لها برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ووصل هؤلاء الطامعون إلى باب الغار ولكن عين الله أذنت للحمام أن يبيض وللعنكبوت أن تعشش وكان ذلك تجسيما لقول رسول الله لصاحبه “إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا” وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار وتوجها إلى المدينة حيث مرا بخيمة أم معبد أين درت لهما الشاة العجفاء الباقية في خيمة أم معبد بعد أن مسح على ضرعها بيده الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرت ما كفى رسول الله وصاحبه وأصحاب الخيمة وواصل الركب الميمون رحلته المباركة إلى المدينة التي خرجت على بكرة أبيها: رجالا ونساء صغارا وكبارا لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه. مجتمع المدينة والأسس الصحيحة للبناء وكانت المحطة الأولى عند أبواب المدينة هناك في قبا ثم كان الوصول إلى المدينة وكان الجميع يعرض الجوار فحسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر وقال عن ناقته القصواء (اتركوها فإنها مأمورة) وهناك حيث بركت الناقة بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن تكون به البداية حيث شيد مسجده (ثاني الحرمين) ثم بادر إلى المؤاخاة بين المهاجرين القادمين من مكة المكرمة وإخوانهم الأنصار من أهل المدينة وكان هؤلاء الأنصار قمة في الإيثار والكرم والبذل والعطاء حيث بادروا إلى اقتسام ما بين أيديهم وما عندهم مع إخوانهم المهاجرين مجسمين بتلك أخوة الإيمان والإسلام “إنما المؤمنون أخوة” وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبقية متساكني المدينة من اليهود خاصة موثقا وعهدا أمنهم به على أنفسهم وأموالهم وأرسى بذلك أول دستور ينظم حياة الناس في كنف المساواة التامة التي لا بقاء معها للظلم والعدوان. وكانت الهجرة بداية لعهد جديد هم عهد البناء وعهد العطاء وعهد الإشعاع برسالة الإسلام وتجسيم حقائقه في حيز الواقع المعيش، انه عهد النية والجهاد إذ لا هجرة بعد الفتح فالهجرة هي اليوم لما يغضب الله والنصرة هي لما يرضى الله وذلك هو ما ينبغي التذكير به والإلحاح عليه في بداية كل عام هجري.