في اختتام موسم الزيارات للمقام الشاذلي:منهج الإمام الشاذلي في التربية الروحية قرآني توحيدي خالص: قراءة في مضامين الحزب الكبير
كانت ليلة الجمعة (30 أوت 2012) هي ليلة الختام لموسم الزيارات للمقام الشاذلي والتي تقام طيلة أشهر الصيف الممتدة من أول شهر جوان إلى آخر شهر أوت (وتشيع هذه الزيارات بخرجتين إلى كل من سيدي الشريف بحلق الوادي وسيدي أبي سعيد الباجي وفي رحابهما تقرأ أحزاب الإمام الشاذلي: البحر، التوسل، اللطف). * المقام هو غير المغارة وان كانا لا يبعدان عن بعضهما البعض ففي المقام تدور فعاليات الموسم الصيفي وتحيا المناسبات الدينية على مدار العام (المولد والإسراء والمعراج والنصف من شعبان) بينما تظل المغارة عامرة بالعمل الشاذلي على مدار السنة كل أسبوع من مساء يوم الجمعة إلى ضحى يوم السبت، وركيزة العمل الذي يجرى القيام به هو القرآن الكريم فلا تزال المغارة الشاذلية ولا يزال المقام الشاذلي عامرين بأفضل ما يتقرب به إلى الله بعد آداء الفريضة أي بتلاوة القرآن الكريم بمعدل ست أحزاب في كل أسبوع بحيث يختم القرآن الكريم مرتين في المقام ويختم كل عشرة أسابيع في المغارة وهكذا يكون مرتاد المقام والمغارة بالخصوص الحال المرتحل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أن يتم ختم حتى يبدأ آخر يجرى هذا الخير ليس منذ سنوات قريبة أو عقود غير بعيدة بل منذ قرون بسند متصل لم يعرف الانقطاع ولا نعلم أن له نظيرا أو شبيها على امتداد البلاد الإسلامية مشرقا ومغربا، * المغارة والمقام معلمان قرآنيان شامخان مشعان على محيطهما بأفضل ما يتقرب به إلى الله، القرآن الكريم يرتل ترتيلا بإشراف شيوخ مهرة كرام بررة، الشيخ الحالي القراء في المقام والمغارة الشاذلية هو الشيخ محمد الكرماوي حفظه الله الذي خلف الشيخ محمد المبروك الذي خلف بدوره الشيخ محمد الهادي بلحاج الذي خلف الشيخ الشاذلي المهيري رحمهم الله وأجزل مثوبتهم، التف حولهم على مر السنين جمهور كبير لاسيما في ليالي الأختام المشهودة وكان من بين من لا يغيبون عن حلقات القرآن في المغارة والمقام كبار شيوخ الجامع الأعظم ممن لا يتسع المجال لذكر أسمائهم في إقرار ضمني منهم للمشروعية الدينية على ما في العمل الشاذلي ولو كان هذا العمل أدنى مخالفة دينية يمكن أن تمس صفاء العقيدة وصحتها لما رأيناهم يحرصون على ارتياد المغارة والمقام. * إن المغارة والمقام الشاذلي بتونس يحملان اسم أبي الحسن الذي بعلم الجميع إن قبره يوجد في حميثرا بعيذاب في صحراء مصر حيث وافته المنية وهو في طريقه إلى الحج والذي كان حريصا على متابعة القيام به طمعا في أن يكون ثوابه فيه الجنة (الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة). * كانت ليلة الجمعة الماضية ليلة ختم القرآن وختم الزيارات للمقام الشاذلي وبعد ارتفاع الأيدي بخالص وخاشع الدعوات والضراعات إلى الله بالقبول وصلاح الأحوال للحاضرين في عاجل الحياة وبعد الممات انطلقت قراءة الحزب والبداية كالمعتاد بحزب البحر وهو حزب مشهور معروف يحفظ عن ظهر قلب من طرف الخاصة والعامة انتشر على أوسع نطاق حتى لا يكاد سالك في أية طريقة لا يتخذه من بين أوراده وأذكاره والحزب الثاني الذي تمت قراءته هو الحزب الكبير ويشتمل هذا الحزب على جزأين هما حزب الآيات وحزب البر. * حزب الآيات هو اسم على مسمى يبدأ بقوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة...) وتتوالى بعد ذلك الآيات في تسلسل دقيق تؤدي معانيه إلى بعضها البعض مترقية ومتدرجة بقارئ هذه الآيات في مصعد العروج الروحي وهل هناك ابلغ واشد وقعا وتأثيرا من آيات الكتاب العزيز التي تخشع لها القلوب وتقشعر لها الجلود وتذرف لها العيون بالدمع خشية لله وشوقا وتوقا لنعيمه وجزئه الأوفى الذي وعد به عباده المتقين؟ * إن حزب الآيات آية في التتابع والتناسق والتدرج ألهمها الإمام الشاذلي رضى الله عنه وفيها الدليل القاطع والبرهان الساطع على أن طريقه ومسلكه ومنهجه في التربية قرآني لا يحيد عن المحجة البيضاء قوامه التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة. * الحزب الثاني فهو حزب البر وقد قال الشيخ أبو الحسن في حق هذا الحزب (حزب البر): من قرأ حزبنا فله ما لنا وعليه ما علينا) وقال (من حفظ حزبنا فله ما لنا من البهجة والأسرار وعليه ما علينا من البهاء والوقار)، وقال: (من حفظه فهو من أصحابي)، وقال: (ما كتب منه حرف إلا بإذن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم). ولهذا الحزب (حزب البر) سر عظيم في كل شيء. بقي أن نشير قبل أن ننطلق في قراءة متأنية للحزب الكبير للإمام أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أن هذا الحزب تمت قراءته خلال أسبوع واحد بالمقام ليلة الختم وبالمغارة صبيحة يوم السبت الموالي وبخلوة سيدي أبي الحسن الكائنة بنهج الصباغين مساء اليوم نفسه بين صلاتي المغرب والعشاء وذلك في ترتيب عجيب مضى به العمل منذ عهد بعيد وتحرص على تواصله مشيخة المقام ممثلة في الشيخ سيدي حسن بن حسن أمد الله في أنفاسه والذي يساعده عليه طاقم من رجال المغارة والمقام ينسق بينهم الشيخ فتحي دغفوس أعانهم الله جميعا على ما أولاهم وكتب لهم ثوابه وهكذا بفضل الله وتوفيقه ينتهي موسم الزيارة للمقام الشاذلي لهذا العام على أحسن الوجوه وأتمها وقد شهدت أسابيعه المتتالية حضورا متميزا في كيفه وكمه جاءوا من تونس ومن خارجها (فرنسا ايطاليا اسبانيا هولاندا وغيرها). * يبدأ الحزب بالاستعاذة من الشيطان الرجيم وبسم الله الرحمان الرحيم والصلاة على سيد الأولين والآخرين ثم استهلال قرآني مناسب يحدث الزلزلة ويحقق الحضور بل يطوي المسافات (مسافات الكثافة والظلمة والبعد والانشغال عن الله الذي هو المبتغى والمراد) يقول أبو الحسن “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمان الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فانه غفور رحيم بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا اله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل” ثم يمضي الإمام الشاذلي في إيراد كل ما يذكر بعظمة الله وجلاله فيورد كل ما يليق به من الصفات: صفات الجلال والكمال والرحمة واللطف “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، ألم، عسق، كهيعص، رب احكم بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون، طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى الرحمان على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وان تجهر بالقول فانه يعلم السر وأخفى الله لا اله إلا هو له الأسماء الحسنى الله لا اله إلا هو له الأسماء الحسنى الله لا اله إلا هو له الأسماء الحسنى”. هكذا بهذه الآيات البليغة الجليلة وبهذا التوجه الخاشع إلى الله بأحب أسمائه إليه ينطلق أبو الحسن الشاذلي في الدعاء والضراعة إلى الله فيقول “اللهم إني بالجهالة معروف وأنت بالعلم موصوف وقد وسعت كل شيء من جهالتي بعلمك فسع ذلك برحمتك كما وسعته بعلمك واغفر لي ذلك برحمتك كما وسعته بعلمك واغفر لي انك على كل شيء قدير”. إن أبا الحسن يعبر عن ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم مع ربه وخالقه، إنها حال الافتقار والاحتياج والاعتراف والاعتذار وطلب العفو والمغفرة والرحمة. ثم يقول “يا الله يا مالك يا وهاب هب لنا من نعماك ما علمت لنا فيه رضاك واكسنا كسوة تقينا بها من الفتن في جميع عطاياك وقدسنا بها عن كل وصف يوجب نقصا مما استأثرت به في علمك عمن سواك” إن أبا الحسن يسال الله ما فيه رضاه ويسال ربه الوقاية من الفتن وان يحفظه من الوقوع في كل ما ينقص من شانه. ثم يمضي قائلا “يا الله يا عظيم يا علي يا كبير أسألك الفقر مما سواك والغنى بك حتى لا اشهد إلا إياك وألطف بنا فيهما لطفا علمته يصلح لمن والاك واكسنا جلابيب العصمة في الأنفاس واللحظات واجعلنا عبيدا لك في جميع الحالات وعلمنا من لدنك علما نصير به كاملين في المحيا والممات” يسال أبو الحسن ربه الفقر إلى الله والغنى به وحده ويسأله اللطف وان يكسوه ربه جلابيب العصمة في كل أحواله على أن يظل دائما في حال العبودية الكاملة والتامة فهي التي تجعله يصل إلى درجة الكمال في الحياة والممات. ثم يقول “اللهم أنت الحميد الرب المجيد الفعال لما تريد تعلم فرحنا بماذا ولماذا وعلى ماذا وتعلم حزننا كذلك وقد أوجبت كون ما أردته فينا ومنا ولا نسألك دفع ما نريد ولكن نسألك التأييد بروح من عندك فيما تريد كما أيدت أنبياءك ورسلك وخاصة الصديقين من خلقك انك على كل شيء قدير”. يفوض أبو الحسن الأمر لربه فهو سبحانه وتعالى الذي يعلم كل أحوال عبده ما يفرحه وما يحزنه انه يسال ربه التأييد بروح منه فيما يريده من عباده كما فعل ذلك لأنبيائه ورسله وخاصة الصديقين فالله على كل شيء قدير. ويمضي أبو الحسن فيقول “اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فهنيئا لمن عرفك فرضي بقضائك والويل لمن لم يعرفك بل الويل لمن أقر بوحدانيتك ولم يرض بأحكامك”. يصف أبو الحسن في هذا المقطع من حزب البر أصناف العباد، فمنهم من عرف ربه فرضي بقضائه هذا هنيئا له والويل لمن لم يعرف ربه والويل الأكبر والأعظم لمن اقر بوحدانية الله ولكنه لم يرض بأحكامه. ثم يقول أبو الحسن “اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا وحكمت عليهم بالفقر حتى وجدوا فكل عز يمنع دونك فنسألك بدله ذلا تصحبه لطائف رحمتك وكل وجد يحجب عنك فنسألك عوضه فقدا تصحبه أنوار محبتك فانه قد ظهرت السعادة على من أحببته وظهرت الشقاوة على من غيرك ملكه فهب لنا من مواهب السعداء واعصمنا من موارد الأشقياء”. إن كل عز يمنع من القرب من الله يطلب أبو الحسن بدله ذلا يصحبه لطف ورحمة وحتى الوجد الذي يحجب عن الله يسال أبو الحسن عوضا عنه فقدا مصحوبا بأنوار المحبة فمن أحبه الله هو السعيد والشقي هو من ملكه واستعبده غير الله انه يسال ربه مواهب السعداء والعصمة من موارد الأشقياء. ثم يقول “اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم وكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم وقد أمرتنا ونهيتنا والمدح والذم ألزمتنا فأخو الصلاح من أصلحته واخو الفساد من أضللته والسعيد حقا من أغنيته عن السؤال لك فأغننا بفضلك عن سؤالنا منك ولا تحرمنا من رحمتك مع كثرة سؤالنا لك انك على كل شيء قدير يا شديد البطش يا جبار يا قهار يا حكيم نعوذ بك من شر ما خلقت ونعوذ بك من ظلمة ما أبدعت ونعوذ بك من كيد النفوس فيما قدرت وأردت ونعوذ بك من شر الحساد على ما أنعمت ونسألك عز الدنيا والآخرة كما سالك سيدنا ومولانا محمد عبدك ونبيك ورسولك صلى الله عليه وسلم عز الدنيا بالإيمان والمعرفة وعز الآخرة باللقاء والمشاهدة انك سميع قريب مجيب”. يرتقي أبو الحسن في تصوير أحوال المؤمن فهو إزاء ربه في عجز مطلق غير قادر عن دفع الضر عن نفسه أو جلب النفع لها فالأمر كله بيد الله فالصالح من أصلحه الله وهداه والفاسد من أضله الله والسعيد من أغناه الله عن السؤال لذلك يسال أبو الحسن ربه أن يغنيه بفضله عن السؤال وان لا يحرمه مع كثرة السؤال فالله على كل شيء قدير ثم يستعيذ به سبحانه وتعالى من شر ما خلق ومن شر الظلمة ومن شر كيد النفس ومن شر الحساد على ما انعم به الله عليه ويطلب أبو الحسن من ربه عز الدنيا والآخرة كما طلب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه عز الدنيا بالإيمان والمعرفة وعز الآخرة باللقاء والمشاهدة فالله سميع قريب مجيب. ويمضي أبو الحسن الشاذلي متدرجا في رقيه والذي جعل الدعاء فيه سلما وهو ترق مرصع بالآيات من كتاب الله العزيز التي تأتي متوجة للسياق ومنسجمة مع معانيه في دقة عجيبة فيقول: “اللهم إني أقدم إليك بين يدي كل نفس ولمحة وطرفة يطرف بها أهل السماوات وأهل الأرض وكل شيء هو في علمك كائن أو قد كان أقدم إليك بين يدي ذلك كله، الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم”. ما أروعه من تضمين واستشفاع وطلب ورجاء انه توجه من أبي الحسن إلى الله بأحب آيات الكتاب العزيز إليه، أية الكرسي المتضمنة لأعظم أسماء الله واعلى صفات الكمال الإلهي فالدعاء بها إلى الله مرجو الإجابة وصاحبه مقرب ليس بينه وبين الله حجاب. بعد ذلك يزداد أبو الحسن درجة أخرى في تقربه من خالقه ومولاه ويختار في دقة متناهية كل ما هو لله سبحانه وتعالى من جليل الكمالات والجمالات فيقسم بها على ربه ومولاه في حسن ظن به فيقول: “أقسمت عليك ببسط يديك وكرم وجهك ونور عينيك وكمال أعينك أن تعطينا خير ما نفذت به مشيئتك وتعلقت به قدرتك وأحاط به علمك واكفنا شر ما هو ضد لذلك وأكمل ديننا واتمم علينا نعمتك وهب لنا حكمة الحكم البالغة مع الحياة الطيبة والموتة الحسنة وتول قبض أرواحنا بيدك وحل بيننا وبين غيرك في البرزخ وما قبله وما بعده بنور ذاتك وعظيم قدرتك وجميل فضلك انك على كل شيء قدير” فأبو الحسن يعتمد على كرم الله وجوده وفضله وإحسانه وما اتصف به سبحانه من صفات كمال فيقسم على الله أن يعطينا كل ما هو داخل في مشيئة الله وهو قادر عليه وعلمه محيط به ويسال أبو الحسن ربه أن يكفي عباده الصالحين كل ما هو ضد ذلك من الشرور وما يقابل الكرم والجود ويسال أبو الحسن ربه كمال الدين وتمام النعمة والحكمة البالغة كما يطلب من ربه جل وعلا الحياة الطيبة والموتة الحسنة بل يسال ربه -وله ذلك- أن يتولى قبض روحه بنفسه جل وعلا. إن أبا الحسن يسال الله أن لا يجعل بينه وبينه حجابا سواء كان ذلك في البرزخ أو قبله أو بعده كل ذلك يسأله أبو الحسن مستشفعا بنور ذات الله وعظيم قدرته وجميل فضله فالله على كل شيء قدير. بعد ذلك يقول أبو الحسن مستفتحا بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى جاعلا ذلك مدخلا وهو نعم المدخل فيما يروم بلوغه من خيري الدنيا والآخرة “يا الله يا علي يا عظيم يا حكيم يا كريم يا سميع يا قريب يا مجيب يا ودود حل بيننا وبين فتنة الدنيا والنساء والغفلة والشهوة وظلم العباد وسوء الخلق واغفر لنا ذنوبنا واقض عنا تبعاتنا واكشف عنا السوء ونجنا من الغم واجعل لنا منه مخرجا انك على كل شيء قدير” إن كل ما استعاذ منه أبو الحسن هو من المخاطر والمهالك والفتن التي قل أن يصمد أمامها الإنسان لأن النفس الأمارة بالسوء يعاضدها الشيطان الرجيم ميالة إلى الانغماس في هذه المغريات من دنيا ونساء وغفلة وشهوة وظلم العباد وسوء الخلق فلا عاصم منها إلا الله الذي يحتمي به أبو الحسن وذلك هو ما ينبغي أن تكون عليه أحوال المؤمنين ثم يسال أبو الحسن ربه أن يغفر له الذنوب ويقضي عنه التبعات ويكشف عنه السوء وان ينجيه من الغم ويجعل له مخرجا فالله تبارك وتعالى على كل شيء قدير. أليس كل ما استعاذ منه أبو الحسن وكل ما طلبه من ربه وسأله إياه بإلحاح هو حال كل عباد الله وقد كان أبو الحسن ترجمانا عن نفسه وعما في أنفس الآخرين وكان المعبر عن حاله والمعبر عن أحوالنا؟. ويضيف أبو الحسن فيقول “يا الله يا الله يا الله يا لطيف يا رزاق يا قوي يا عزيز لك مقاليد السماوات والأرض تبسط الرزق لمن تشاء وتقدر فابسط لنا من الرزق ما توصلنا به إلى رحمتك ومن رحمتك ما تحول به بيننا وبين نقمتك ومن حلمك ما يسعنا به عفوك واختم لنا بالسعادة التي ختمت بها لأوليائك واجعل خير أيامنا وأسعدها يوم لقائك واكسنا من نورك جلابيب العصمة واجعل لنا ظهيرا من عقولنا ومهيمنا من أرواحنا ومسخرا من أنفسنا كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا انك كنت بنا بصيرا وهب لنا مشاهدة تصحبها مكالمة وافتح أسماعنا وأبصارنا وذكرنا إذا غفلنا عنك أحسن ما تذكرنا به إذا ذكرناك وارحمنا إذا عصيناك بأتم ما ترحمنا به إذا أطعناك واغفر لنا ذنوبنا ما تقدم منها وما تأخر وألطف بنا لطفا يحجبنا عن غيرك ولا يحجبنا عنك انك على كل شيء قدير”. إن الله تبارك الذي بين يديه مقاليد كل شيء هو المعطي وهو الباسط وهو المانع يسأله أبو الحسن رزقا يوصل إلى الرحمة ورحمة تحول بينه وبين نقمة الله ويسأله حلما يسع عفوه ويسأله أن يختم له بالسعادة ويسأل الله العصمة ويسأله العقل الرشيد والروح المهيمنة والنفس المسخرة حتى تكون حاله حال المسبح كثيرا والذاكر كثيرا ويسأل أبو الحسن ربه أن يفتح له عن سمعه وبصره وأن يهبه المشاهدة التي تصحبها المكالمة وأن يذكره ربه إذا غفل بأحسن ما يذكره في حالة الذكر ويسأل ربه الرحمة في حال المعصية كما يرحمه في حال الطاعة ويسأله غفران الذنوب ما تقدم منها وما تأخر ويسأله اللطف الذي يحجب عن غير الله. ثم يقول أبو الحسن “اللهم إنا نسألك إيمانا دائما ونسألك قلبا خاشعا ونسألك علما نافعا ونسألك يقينا صادقا ونسألك دينا قيما ونسألك العافية من كل بلية ونسألك تمام العافية ونسألك دوام العافية ونسألك الشكر على العافية ونسألك الغنى عن الناس” يقول ذلك كله ثلاثا، انه دعاء جامع شامل وهو من الدعاء المأثور المتضمن لخيري الدنيا والآخرة ففيه طلب الإيمان وسؤال القلب الخاشع والعلم النافع واليقين الصادق والدين القيم والعافية من كل بلية وتمام العافية ودوام العافية والشكر على العافية والغنى التام والكامل عن الناس، ومن سال ربه كل ذلك ثم أعطاه ما سال فهو السعيد حقا. ثم يقول أبو الحسن “اللهم انا نسألك التوبة الكاملة والمغفرة الشاملة والمحبة الكاملة الجامعة والخلة الصافية والمعرفة الواسعة والأنوار الساطعة والشفاعة القائمة والحجة البالغة والدرجة العالية وفك وثاقنا من المعصية ورهاننا من النعمة بمواهب المنة” إن طلب التوبة الكاملة النصوح والمغفرة الشاملة لكل ذنب والمحبة الكاملة الجامعة والخلة الصافية والمعرفة الواسعة والأنوار الساطعة والشفاعة القائمة والحجة البالغة والدرجة العالية فكل ذلك هو مراد أبي الحسن وهو ما تتوق إليه نفسه في ترقيها وتدرجها الذي لا حد له والذي يبدأ بما ينبغي أن تكون به البداية وهي التوبة النصوح وغفران الذنوب ثم ما يترتب عن ذلك من رتب عالية ومقامات سامية هي مقامات الخلة والمعرفة والنور والشفاعة والحجة البالغة والدرجة العالية الرفيعة ويطلب أبو الحسن من ربه أن يفك رقبته من المعصية ورهانه من النعمة يطلب كل ذلك منا وكرما وجودا وإحسانا من رب العالمين الذي هو على كل شيء قدير. ويواصل أبو الحسن طرق باب مولاه وسؤاله بإلحاح وتكرار لا يمل فيقول “اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها ونعوذ بك من المعصية وأسبابها وذكرنا بالخوف منك قبل هجوم خطراتها واحملنا على النجاة منها ومن التفكر في طرائقها وامح من قلوبنا حلاوة ما اجتنيناه منها واستبدلها بالكراهة لها والطعم لما هو بضدها وأفض علينا من بحر كرمك وجودك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها واجعلنا عند الموت ناطقين بالشهادتين عالمين بها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها وأرحنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها”. لا يمل أبو الحسن سؤال التوبة فهو يريد التوبة الدائمة ويستعيذ بالله من المعصية وما يؤدي إليها ويطلب من ربه أن يذكره بالخوف منه سبحانه وتعالى وذلك عندما تهجم خطرات الذنوب انه يريد النجاة من الذنوب ومن كل ما يفكر فيها ويسال ربه أن يمحو منه حلاوة ما جناه من الذنوب وأن يحل محل ذلك كراهة لهذه الذنوب وأن يذيقه حلاوة طعم التوبة من الذنوب ويسال الله أن يفيض عليه من كرمه وإحسانه حتى يخرج من الدنيا سالما من وبالها ويطلب من ربه أن تكون الشهادتان آخر ما ينطق به لسانه وأن يكون عالما بما ينطق به ويسال ربه الرأفة به رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد والملمات ونزولها ويسأله الراحة من هموم الدنيا وغمومها وأن تكون هذه الراحة بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها. ثم يقول أبو الحسن “اللهم إنا نسألك توبة سابقة منك إلينا لتكون توبتنا تابعة إليك منا وهب لنا التلقي منك كما تلقى آدم منك الكلمات ليكون قدوة لولده في التوبة والأعمال الصالحات وباعد بيننا وبين العناد والإصرار والشبه بإبليس رأس الغواة واجعل سيآتنا سيآت من أحببت ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت فالإحسان لا ينفع مع البغض منك والإساءة لا تضر مع الحب منك وقد أبهمت الأمر علينا لنرجو ونخاف فامن خوفنا ولا تخيب رجاءنا وأعطنا سؤالنا فقد أعطيتنا الإيمان من قبل أن نسألك وكتبت وحببت وزينت وكرهت وأطلقت الألسن بما به ترجمت فنعم الرب أنت فلك الحمد على ما أنعمت فاغفر لنا ولا تعاقبنا بالسلب بعد العطاء ولا بكفران النعم وحرمان الرضا”. لا يزال السؤال من أبي الحسن متمحضا في التوبة، انه يسال ربه توبة من الله عليه سابقة منه سبحانه وتعالى إليه حتى تكون توبة أبي الحسن تابعة لتوبة الله عليه ويسال الله التلقي منه كما تلقى آدم عليه السلام من ربه الكلمات فكان قدوة لولده في التوبة والأعمال الصالحات انه يسال ربه أن يحفظه من شر العناد والإصرار وهو ما ابتلى به إبليس اللعين. إن أبا الحسن يسال ربه أن يجعل سيآته سيآت من يحبهم الله وأن لا يجعل سيآته سيآت من يبغضهم الله وأن لا يجعل حسناته حسنات من يبغضهم ربهم ذلك أن الإحسان مع البغض من الله لا ينفع والإساءة لا تضر مع الحب من الله وقد أخفى الله على عباده ذلك حتى يرجوا ربهم ويخافوه حق الخوف. يسأل أبو الحسن ربه أن يؤمن خوفه وأن لا يخيب رجاءه وأن يعطيه سؤله فالله كريم بدا بالكرم فأعطانا الإيمان من قبل السؤال وهو الذي حبب وزين وكره وهو الذي أطلق الألسنة فنعم الرب، له الحمد فهو المنعم يسأله أبو الحسن المغفرة ويسأله أن لا يعاقبه بالسلب بعد العطاء ولا بكفران النعم ولا بحرمان الرضا. ثم يقول أبو الحسن “اللهم رضنا بقضائك وصبرنا على طاعتك وعن معصيتك وعن الشهوات الموجبات للنقص أو للبعد عنك وهب لنا حقيقة الإيمان بك حتى لا نخاف غيرك ولا نرجو غيرك ولا نحب غيرك ولا نعبد شيئا سواك وأوزعنا شكر نعمائك وغطنا برداء عافيتك وانصرنا باليقين والتوكل عليك وأسفر وجوهنا بنور صفاتك وأضحكنا وبشرنا يوم القيامة بين أوليائك واجعل يدك مبسوطة علينا وعلى أهلينا وأولادنا ومن معنا برحمتك ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك يا نعم المجيب يا نعم المجيب يا نعم المجيب يا من هو في علوه قريب”. في هذا المقطع من حزب البر يسال أبو الحسن ربه الرضا بقضائه والصبر على طاعته وعن المعصية والشهوات الموجبة للنقص والبعد عن الله أي الصبر على القيام بالطاعة والصبر بالابتعاد عن المعصية ويسال ربه حقيقة الإيمان الذي يجعل صاحبه لا يخاف غير الله ولا يرجو غير الله ولا يحب غير الله ولا يعبد شيئا سوى الله ويسال ربه أن يجعله من الشاكرين لنعم الله ويسأله أن يغطيه برداء العافية ويسأله النصر باليقين والتوكل على الله ويسأله أن يجعل وجهه مسفرا بنور صفات الله ويسأله أن يضحكه ويسره ويبشره يوم القيامة بين أولياء الله ويسأله أن يجعل يده سبحانه وتعالى مبسوطة عليه وعلى أهله وأولاده ومن معه رحمة من الله ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين ولا أقل من ذلك فهو نعم المجيب. ويقول أبو الحسن “يا ذا الجلال والإكرام يا محيطا بالليالي والأيام أشكو إليك من غم الحجاب وسوء الحساب وشدة العذاب وان ذلك لواقع ماله من دافع ان لم ترحمني لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ولقد شكى إليك يعقوب فخلصته من حزنه ورددت عليه ما ذهب من بصره وجمعت بينه وبين ولده ولقد ناداك نوح من قبل فنجيته من كربه ولقد ناداك أيوب من بعد فكشفت ما به من ضره ولقد ناداك يونس فنجيته من غمه ولقد ناداك زكرياء فوهبت له ولدا من صلبه بعد يأس أهله وكبر سنه ولقد علمت ما نزل بإبراهيم فأنقذته من نار عدوه وأنجيت لوطا وأهله من العذاب النازل بقومه فها أنا ذا عبدك إن تعذبني بجميع ما علمت من عذابك فانا حقيق به وإن ترحمني كما رحمتهم مع عظيم إجرامي فأنت أولى وأحق من أكرم به فليس كرمك مخصوصا بمن أطاعك واقبل عليك بل هو مبذول بالسبق منك لمن شئت من خلقك وان عصاك واعرض عنك وليس من الكرم ألا تحسن إلا لمن أحسن إليك وأنت المفضال الغني بل من الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك وأنت الرحيم العلي كيف وقد أمرتنا أن نحسن إلى من أساء إلينا فأنت أولى بذلك منا”؟. في هذا المقطع من حزب البر يستفتح أبو الحسن بمناجاة ربه بما يناسب ما سيدعوه به وسيطلبه منه “يا ذا الجلال والإكرام يا محيطا بالليالي والأيام” يشكو أبو الحسن من غم الحجاب وسوء الحساب وشدة العذاب فكل ذلك واقع ثم يعبر عن حاله الذي هو حال كل عبد مع ربه “لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين” ويستعرض أبو الحسن ما استجاب به الله تبارك وتعالى لأنبيائه يعقوب وقبله نوح ويونس وأيوب وزكرياء وما علمه من حال إبراهيم فاستجاب لهم جميعا وفرج كروبهم ويعترف أبو الحسن لربه بأنه إن عذبه فهو حقيق بذلك العذاب وان رحمه كما رحم من ذكر من أنبياء الله ورسله فالله أولى وأحق بالكرم فليس كرم الله مخصوصا لأهل الإحسان بل هو مبذول منه سبحانه وتعالى لمن شاء من خلقة وان عصوا واعرضوا فالله أولى من يحسن لمن أساء وكيف لا وقد أمرنا بذلك. ثم يقول أبو الحسن “ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (ثلاثا) يا الله يا الله يا الله يا رحمان يا رحمان يا رحمان يا قيوم يا قيوم يا قيوم يا من هو هو هو يا هو إن لم نكن لرحمتك أهلا أن ننالها فرحمتك أهل أن تنالنا يا رباه يا رباه يا رباه يا مولاه يا مغيث من عصاه أغثنا أغثنا أغثنا يا رب يا كريم وارحمنا يا بر يا رحيم يا من وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم أسألك الإيمان بحفظك إيمانًا يسكن به قلبي من هم الرزق وخوف الخلق واقرب مني بقدرتك قربا تمحق به عني كل حجاب محقته عن إبراهيم خليلك فلم يحتج لجبريل رسولك ولا لسؤاله منك وحجبته بذلك عن نار عدوه وكيف لا يحجب عن مضرة الأعداء من غيبته عن منفعة الأحباء كلا إني أسألك أن تغنيني بقربك مني حتى لا أرى ولا أحس بقرب شيء ولا ببعده عني انك على كل شيء قدير” (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا اله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله اله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه انه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) يمضي أبو الحسن مفتتحا بما يناسب من الآيات وأسماء الله وصفاته يدعو بها ربه ويتضرع بها إليه ويتعرض إلى رحمة ربه باستعطاف فرحمة الله أهل لان تنال عباده الضعفاء حتى لو كان هؤلاء ليسوا أهلا لرحمة الله ويعود إلى المناجاة والتوجه إلى الله بأسمائه وصفاته مما يهز القلب هزا ويحدث فيه خشوعا وحضورا واستحضارا لعظمة الله وجلاله فيسال الله الإيمان الذي يسكن به قلبه من هم الرزق وخوف الخلق ويسال ربه أن يقربه قربا يمحق عنه كل حجاب كذلك الذي قرب به خليله إبراهيم عليه السلام حتى انه لم يحتج إلى جبريل بل لم يحتج حتى للسؤال فحجبه الله عن نار عدوه وكيف لا يكون في هذا المقام وقد غيبه الله عن منفعة الأحياء إن أبا الحسن يسال ربه أن يغنيه بقربه حتى لا يرى ولا يحس بقرب شيء ولا ببعده ويختم ذلك بالآية الكريمة “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا...” ويمضي أبو الحسن قائلا “هو الحي لا اله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وباركت وترحمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين انك حميد مجيد، اللهم وارض عن ساداتنا الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وارض عن سيدنا الحسن وعن سيدنا الحسين وعن أمهما فاطمة الزهراء وعن أزواج نبيك الطاهرات أمهات المؤمنين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين”. يختم أبو الحسن الشاذلي هذا الحزب العظيم المبارك بالصلاة على رسول الله التي هي مفتاح القبول وقد وردت في فضيلتها عديد الأحاديث الصحيحة الدالة على ما أعده الله لمن يصلي على رسول الله من ثواب لعل أهمه أن الله لا يرد دعاء داع استفتح بالصلاة والسلام على رسول الله واختتم بذلك ولا ينسى أبو الحسن أن يرضى على الخلفاء الراشدين وآل البيت الطاهرين وأمهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.