فضيلة الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله والقرب الشديد من الناس (1931/1997)

فضيلة الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله والقرب الشديد من الناس (1931/1997)


فضيلة الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله شيخٌ من شيوخنا البررة وإمام من أئمتنا الموفقين ومرشد ماهر عاش طيلة حياته يدعو إلى الله على بصيرة وعلم. انه الشيخ المنعم المبرور مصطفى بن احمد بن بوجمعة الغربي. غادر على عجل، ورحل إلى عالم البقاء والحاجة ماسة إليه، إلى وعظه وإرشاده والى توجيهاته ونصائحه التي لا يترك فرصة تمرّ دون أن يدلي بها، تنبع من قلبه لتصل إلى القلوب المتلهفة المتشوقة لتذوّق حلاوة الإيمان، لقد أوتي شيخنا الجليل مصطفى الغربي رحمه الله بلاغة القول لا يتكلف ولا يتخير يغلب عليه في كل أحواله التلقائية والبساطة والتواضع. عرفت ذلك منه وفيه وكان ذلك طيلة السنوات الماضية. فلقد اكتشفت في شيخنا مصطفى الغربي رحمه الله طاقة جبارة على البذل والعطاء والنصح والإرشاد والدعوة والإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة وأصبح الضيف القار لحصة المنبر الديني بالتلفزة الوطنية وأصبح على مرّ الأيام للشيخ مصطفى الغربي رحمه الله جمهوره من الصغار والكبار والنساء والرجال يخاطبهم على قدر عقولهم وإمكاناتهم ويغلب على خطابه إليهم التيسير والتبشير يقدم لدعم ما يريد إبلاغه الأمثلة من صميم الحياة التي خبرها وعرفها من قرب وظل رصيده من التجربة والاطلاع على حقائقها يزداد على مرّ الأيام. لقد غلبت على مواعظ الشيخ رحمه الله الواقعية والتلقائية والترغيب في فعل الخير وإصلاح ذات البين، لقد عرف رحمه الله أدواء المجتمع وأمراضه فاختار لها من الأدوية ما يلائمها ويتناسب مع كل حالة منها اكتسب ذلك من سنوات الجدّ والكدّ في التحصيل العلمي بالجامع الأعظم جامع الزيتونة المعمور الذي تخرج منه بشهادات الأهلية سنة 1951 والتحصيل في العلوم سنة 1954 ثم شهادة العالمية ولما فتح المجال لحملة هذه الشهادة العالية في الحصول على الإجازة سنة 1969 كان الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله من المسارعين لإتمام هذا العام وكانت في النية أن يتمّ رحمه الله المرحلة الثالثة على أيدي البقية الباقية من شيوخ الزيتونة لولا أن سارعت بالإعلام منهم المنية الأمر الذي دفع الشيخ رحمه الله للتفرغ بالكلية للإمامة والإرشاد والقيام على حلق تحفيظ القرآن وبعث الكتاتيب العصرية في منطقة باردو و السعيدية. لقد أضاف الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله هذا المجهود إلى قيامه بخطة التدريس حيث بدأ بالتعليم الابتدائي واستقرّ به الحال في التعليم الثانوي حيث درس لسنوات طويلة بمعهد خزندار وتخرج على يديه المئات من أبناء تونس الذين بذل في سبيل تربيتهم التربية الصحيحة السليمة كل جهوده ووقته الثمين متفانيا بإخلاص ليرى في حياته ثمرة هذا المجهود في تعلق كبير واقتداء به واستقامة سلوكية لا يتأخر هؤلاء عن الاعتراف للشيخ مصطفى الغربي رحمه الله بفضله فيها. لقد باشر الخطابة الجمعية بجامع الدندان وجامع السعيدية منذ سنة 1952 ومن هذا الموقع الذي عرف أهميته وقيمته وتأثيره في الناس بمختلف فئاتهم فلم يتقاعس ولم يتهاون ولم يتخلف عن أداء هذا الواجب مهما كانت الظروف والموانع. لقد كانت تربطه بجمهوره في الدندان والسعيدية ثم بعد ذلك جمهوره على المستوى الوطني وحتى الخارجي بواسطة القناة التلفزية السابعة علاقة وطيدة ازدادت قوّة ومتانة على مرّ الأيام والأشهر السنوات أساسها التعلق والحب من جانب هذا الجمهور العريض والتفاني والإخلاص وأخذ الأمور بجد وكد وعناية من جانب الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله بحيث لا يلقى خطبة جمعية أو درسا وعظيا ولا يشارك في حصة من حصص المنبر الديني ولا يلقي محاضرة أو مسامرة إلا بعد الإعداد لمادتها الأصلية المتمثلة في النصوص الموثقة من قرآن كريم وسنّة نبوية صحيحة وآثار ثابتة وأقوال في الفقه المالكي معتمدة وهو الفقه السائد والغالب على أهل هذه البلاد وما وراءها من البلدان المغاربية والإفريقية لم يتأخر الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله عن المشاركة في كل مجهود يدعى لبذله فقد ظلّ رحمه الله يرأس لسنوات عديدة فرع باردو لجمعية المحافظة على القرآن الكريم كما اختير لخطة مساعد رئيس مجلس باردو بعد التحوّل المبارك ومن هذا الموقع كم عقد الشيخ من عقود زواج؟ وكم أدلى بآرائه الإصلاحية الاجتماعية التي كثيرا ما أخذت طريقها للتنفيذ والتجسيم، ولم يتأخر الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله عن مباركة ما اتخذ في بلادنا بعد التحول من مبادرات رائدة في المجال الاجتماعي والثقافي والديني بالخصوص وأقام رحمه الله بالأمثلة المحسوسة التي باشرها وعاشها في المجتمع بما يجعل قيم التآخي والتحابب والتراحم والتعاون والتضامن تصبح واقعا معيشا تدعو إليه تعاليم الإسلام وهدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام حيث اغترف رحمه الله من هذا المعين العذب. وكان آخر ما سجل له المنبر الديني حصتين إحداهما عن حق الجار على الجار والأخرى عن الإرهاصات التي سبقت ميلاد سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، فقد انطلق الشيخ على عادته بأسلوبه الشيق الذي يشدّ الفنيين في قاعة التسجيل قبل الجمهور العريض فينصت الجميع إليه بقلوبهم وعقولهم وكأن على رؤوسهم الطير-تصل إلى قلوبهم كلمات الشيخ مصطفى الغربي القريبة من الله. ويشهد الله على ما أقول فان الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله ممن آتاهم الله القلب السليم الذي لا يحمل غلا ولا حقدا على احد، وهو ممن آتاهم الله لسانا عفا لا يقول إلا حقا. انه القريب من الناس البعيد كل البعد عن التكلف والتكبير والتعالي والغلظة والشدّة ومن كانت هذه سيرته فهو قريب من الله قريب من الجنة وقد ورد في الحديث النبوي الشريف أن الناس إذا أحبوا عبدا نادى مناد في السماء (إن ربكم يحبّ عبده فلان فأحبّوه). لقد كانت الابتسامة والإشراقة تغلب على وجه ومطلع الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله لم أره في أي يوم من الأيام مقطب الجبين أو غاضبا، كان يدفع كل ما لا يستحسنه بالتي هي أحسن، لا يفتر لسانه عن ذكر الله وعن النصح والإرشاد وإصلاح ذات البين، يصافح كل من اعترضه ويحرص على الوقوف مع كل من يستوقفه صغيرا كان أم كبيرا، رفيع الشأن أو متواضعا، يعطي مما يقتنيه من الحلوى كل جلسائه وأحبابه فيتلقفونها منه ويحرصون عليها -لهم ولأولادهم- تبركا بالشيخ واستمدادا من فضله وتقواه رحمه الله. فكلامه من السهل الممتنع الذي لا إطالة مملة فيه ولا تقصير مخل كما انه رحمه الله يحرص على أن تكون موعظته قريبة من الواقع الذي يعيشه الناس في المجتمع على مختلف فئاتهم ومستوياتهم انه يبتعد كل البعد عن التكلف في الأسلوب أو الانتقاء للكلمات بل كثيرا ما تمزج عربيته الحلوة الشيقة بكلمات عامية مقرونة بأمثلة شعبية. إن موعظة الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله يفهمها الصغير والكبير وتفهمها المرأة المسنة والشيخ العجوز ويجد فيها الجميع بغيتهم وكلما تهيأت لهؤلاء الفرصة للتعبير على الرغبة في الاستزادة من هذا الصنف من التوجيه إلا وعبروا عن ذلك بواسطة الرسائل أو المكالمات الهاتفية أو مباشرة للشيخ الغربي رحمه الله أو إليّ شخصيا. إن منهج الشيخ الغربي في التوجيه والنصح والإرشاد هو منهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وهو منهج التيسير والتبشير لا يقنط أحدا من رحمة الله. ولان الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله يعيش في المجتمع غير منغلق على نفسه في برج عاجي فإن كل أمثلته وإشاراته وما يدعو إلى الابتعاد عنه واجتنابه هو من صميم الواقع لا يملك السامع وهو يستمع إلى تشخيص الشيخ رحمه الله للعلة إلا ان يقول: صدقت يا شيخ لكأنك تنظر بنور الله ولم لا ينظر الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله بنور الله وهو الذي حرص ان تكون حياته كلها في سبيل الله ومن اجل تحقيق مرضاته فمنذ ان كان طالبا في جامع الزيتونة والى ان تقاعد سنة 1988 لم يتغير ولم يتبدل يعتبر نفسه في طاعة الله سواء كان ذلك حين يخطب ويرشد في الجوامع أو حين يدرس تلاميذه وهو ساع إلى عمله أو راجع منه أو قاض لحاجاته في العاصمة أو في باردو وسواء كان ذلك وهو يمشي أو هو واقف ينتظر الحافلة أو المترو يحي الجميع ويقف مع كل من يستوقفه، لا تغادر الابتسامة محياه يدعو بخير ويرشد لأصلح الأعمال وأفضلها عند الله. وجدت فيه الرجل المناسب ليكون بجانبي في حصة المنبر الديني يكاد لا يغيب عنها وليس ذلك إلا لما أثبته من كفاءة عالية ولطف وتلقائية وإخلاص لم يتلكأ في يوم من الأيام ولم يتردد ولم اشعر لديه بأي حرج في كل المواضيع التي فاتحته في التطرق إليها، يتعرض إليها بأسلوبه وطريقته التي تكمل مساهمة الضيف الثاني الذي يكون معنا في الحصة. وكثيرا ما كنت أدعوه للمشاركة في الحصة في آخر وقت فيسبقني رحمه الله إلى رفع الحرج عني وقبول عذري قائلا: على بركة الله ويكون في الموعد يكاد لا يتأخر إلا المقدار الذي يخرج عن نطاقه بسبب وسائل النقل. وما كان رحمه الله يعبر عن الرغبة في المشاركة في حصة قادمة بالمنبر لا تصريحا ولا تلميحا، انه يترك ذلك لي ولقد عرفت ذلك وقدرته له، كما انه رحمه الله لم يسأل في يوم من الأيام عم المقابل المالي ولا اشترطه. لقد كان الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله أب الجميع وأخ الجميع يلاطف الكل ويجامل الكل. تلك بعض الذكريات التي لا تنسى عشتها من قرب مع الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله وعرفتها فيه وعرفت أنها سر التعلق الكبير به سواء من طرف أولئك الذين احتكوا به وتتلمذوا عليه وجاوروه وزاملوه أو أولئك الذين لم يعرفوه إلا من خلال حصة المنبر الديني ورغم ان الكثير الكثير من أولئك الذين عرفوه واستفادوا منه لم يبلغهم خبر وفاته أو انه تعذر عليهم حضور جنازته لسبب أو لآخر فان الذين شهدوا هذه الجنازة المهيبة الخاشعة رأوا العجب العجاب، إنهم مئات من مختلف الأعمار والفئات رابطوا أمام مسكن الشيخ بالدندان رجالا وشبابا وشيوخا وأغمي على البعض منهم فلم يستطيعوا مواصلة التشييع إلى المسجد الجامع المجاور لمقبرة الدندان أين صليت عليه صلاة الجنازة في حضور حاشد خاشع. إن الرزية في الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله كبرى، وان المصاب فيه عظيم، ففراغه لن يملأه أحد من بعده. فمن للخطابة في جامع السعيدية بعد الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله؟ ومن لإصلاح ذات البين في أحياء باردو وما حواليها من بعده؟ ومن لتلك الدعوة والنصيحة المتنقلة في شوارع تونس وأسواقها وفي محطاتها وحافلاتها؟ ومن للمنبر الديني كل يوم جمعة في التلفزة الوطنية بعد الشيخ مصطفى الغربي رحمه الله؟ رحمه الله وأسكنه فراديس جنانه وجعله في جوار وشفاعة سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام هذا الذي جرى حبه له وتعلقه به وكثرة ذكره له وترديد الصلاة عليه مجرى الدم من العروق والسلام على الشيخ مصطفى الغربي يوم ولد ويوم غادر إلى عالم البقاء ويوم ببعث حيّا وجازاه الله عن دينه وأمته وتلاميذه وأحبابه خير الجزاء و(إنا لله وإنا إليه راجعون).



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.