فضيلة الشيخ محمد الحبيب النفطي: نموذج لعلماء الزيتونة الأثبات
الشيخ محمد الحبيب النفطي أمد الله في أنفاسه أحد علماء الزيتونة الكبار، لا نقول ذلك جزافا يشهد على ما نقول ذلك العطاء العلمي الدقيق الذي امتد لأكثر من عقد ونصف (من سنة 1988 إلى ما بعد سنة 2000) بمعدل صفحة أسبوعية في ركن قار تولى فيه الإجابة على الأسئلة الفقهية التي جاءت من كل قرى ومدن الجمهورية وحتى خارجها من فرنسا بالخصوص وايطاليا وبلجيكيا وحتى كندا والولايات المتحدة. من الممكن ومن اليسير على المرء أن يكتب صفحة وحتى أكثر في جريدة أو مجلة ولكن ليس في الفقه الذي هو من الدقة والصعوبة والتشعب واختلاف الأقوال بحيث يرد الخطأ بسهولة ولكن الشيخ الحبيب النفطي حفظه الله كان من التمكن في مادته الشرعية واللغوية بحيث لم يتهيب ولم يتأخر عن سد هذا الباب: باب حاجة الناس الماسة إلى معرفة أحكام دينهم في العبارات من صلوات وصوم وزكاة وحج وفي المعاملات من زواج وطلاق ورضاع وإرث وبيع وشراء فضلا عن العقائد والآداب الشعرية والأخلاق الإسلامية. ينحدر الشيخ الحبيب النفطي حفظه الله وهو ابن تطاوين (الرقبة) من الجنوب الشرقي من أسرة متوسطة الحال حفظ القرآن منذ نعومة أظفاره على أيدي مؤدبين مهرة في تطاوين وفي الجريد وفي الساحل (الكنائس) وبعد ذلك صحبة أقران له وأتراب نذكر منهم المشائخ: الحبيب المستاوي وعمر الواعر وعمر بوقلعة والبشير البركاوي والحبيب والطاهر بوطبة والشافعي الدوكالي والمدني بالهاشمي وغيرهم وكلهم أصيلو مدينة تطاوين يمموا وجوههم صوب جامع الزيتونة. نهلوا من معين علمه العذب وكانوا من أنجب طلاب الجامع الأعظم تلقوا على خيرة علماء الزيتونة وكانوا الأوائل بين أقرانهم وكانوا متفرغين لما رحلوا في طلبه وما كانوا يبتغون من وراء ذلك إلا التفقه في الدين (ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ففتح الله عليهم وكانوا رحم الله من مات منهم وحفظ من بقي منهم في ظروف مادية صعبة ومع ذلك فلم يبتغوا بغير العلم بديلا. عادوا إلى مسقط رأسهم تطاوين حيث تولوا التدريس والخطط القضائية وكانوا بحق نجوما في سماء مدينتهم إليهم يعود الجميع، فقد كانوا قدوة لمن جاؤوا بعدهم من الأجيال اللاحقة. كان الشيخ الحبيب النفطي من هذه الصفوة الخيرة التي لم يبق منها إلا القليل على قيد الحياة ولئن كانت اغلب مراحل حياته عادية اقتصر فيها نفعه على المجالس الخاصة والتدريس العادي إلا أنه في العقود الأخيرة و في العشرين سنة الماضية يسر الله له سبل الإفادة والنفع سواء كان ذلك من خلال الخطابة والوعظ في المسجد الكبير بمدينة تطاوين (حيث تولى إمامة جامع بورقيبة)، أو من خلال سفره في بعثات الإرشاد والتوجيه الديني للجالية التونسية بفرنسا التي استفادت منه أيما استفادة أو من خلال الاختيار عليه لإلقاء دروس في مساجد دولة الإمارات العربية المتحدة بمناسبة شهر رمضان المعظم لأكثر من مرة. وتولى الشيخ الحبيب النفطي القيام بإرشاد الحجيج ومرافقتهم في البقاع المقدسة كما كان ضمن البعثة العلمية التي تكونت لأول مرة في حج سنة 1989 لتكون مرجعا للمرشدين والوعاظ في موسم الحج والتي تركبت من أصحاب الفضيلة المشائخ: عبد الرحمان خليف ومحمد بن إبراهيم وعز الدين سلام و محمد بو الأجفان رحمهم الله والحبيب النفطي وعبد العزيز الزغلامي ومحي الدين فادي حفظهم الله. واختير الشيخ محمد الحبيب النفطي عضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى في أول تركيبة وكانت مشاركته في أعماله متميزة وملفتة للنظر كما اختير عضوا في لجنة مراقبة المصاحف التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى وكان حريصا على عدم التغيب عن جلسات المجلس ويتحمل عناء التنقل من أقصى الجنوب إلى تونس العاصمة رغم ما حاولت شخصية براعه وحبا وتقديرا لعلمه الغزير الدقيق أن أوفر له من وسائل راحة. ترأس الشيخ الحبيب النفطي المجلس الجهوي لجمعية المحافظة على القرآن الكريم بتطاوين وحاول من خلال هذا الهيكل أن يساهم في تكوين الحفاظ المجيدين المؤهلين لإمامة الناس على قاعدة صحيحة. وفضلا عن أداء الشيخ لحج بيت الله الحرام عديد المرات فانه دعي للمشاركة في ندوات ومؤتمرات عقدت ببغداد ومكة وفاس تقديرا لبذله وعطائه العلمي ويبقى خير ما أسداه الشيخ الحبيب النفطي للأمة ودينها يتمثل في مشاركاته المتميزة التي نالت القبول الحسن والإقناع التام في حصة المنبر الديني وذلك لسنوات طويلة وهذا لربما هو الرصيد الكبير الذي هو محفوظ واستفاد منه عشرات الآلاف من القراء. ويمكن أن يستفاد به في المستقبل ويتمثل في تلك الإجابات المستفيضة المدعمة بالدليل من الكتاب والسنة والمأثور من الأقوال المعتمدة والمحققة على آلاف الأسئلة التي جاءته وتولى أسبوعيا الإجابة عليها بعلم صحيح وهو محصلته التي اكتسبها منذ نعومة أظفاره ونماها على مر الأيام والليالي من عمره المديد. فالشيخ الحبيب النفطي من الحفاظ وهي كلمة تطلق على من كان من العلماء يحفظ فضلا عن القرآن الكريم ودواوين السنة النبوية وعشرات المتون في سائر العلوم والفنون والتي في طليعتها علوم الوسائل كعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة والمتمثلة في المتون المطولة التي تصل إلى آلاف الأبيات. كان الواحد منهم يحفظ دواوين الشعر الجاهلي والقديم وأشهر ما جادت به قرائح كبار الشعراء في مختلف العصور وقد عد القدامى الحافظ إماما فقالوا (إحفظ فكل حافظ إمام) وإنا لنعد الشيخ الحبيب النفطي من هؤلاء الحفاظ فهو في صغره كان يحفظ من سماع واحد وقد آتاه الله حافظة عجيبة حتى يكاد يورد لك المسألة التي حفظها قبل عشرات السنين كما هي لفظا ومعنى بل يمكن أن يقول لك في أي جزء أو حتى أي صفحة من الكتاب المذكورة فيه تبارك الله.والشيخ الحبيب النفطي دائم التحقيق والتثبت في مسائله، لا يجيب بمجرد الظن التقريبي وحتى إذا ما جادله احد فإن أول ما يبادر إليه هو العودة إلى الكتاب التي ذكرت فيه المسألة المختلف فيها وما يلبث أن يأتي لسائله أو مجادله بالجواب الشافي والكافي يفعل ذلك في حله وترحاله سواء كان قريبا من كتبه في منزله أو كان ذلك في منزل من عنده مثل كتب ومراجع في الموضوع. و كنا في بعض الأحيان في النهار أو في الليل مهما كانت الساعة متأخرة و يدور بيننا وبين من معنا حديث في مسألة من المسائل العلمية الفقهية أو اللغوية أو التاريخية ولا ينتهي فيها إلى جواب مسلم فحال الوصول إلى البيت يطلب مني الشيخ الحبيب النفطي الكتاب أو الكتب التي يظن أن المسألة قد ذكرت فيها ولا ينام قبل أن يصل إلى مبتغاه إما مباشرة أو في الصباح الباكر يبادرني قبل أي حديث آخر بالقول جواب ذلك السؤال هو كما قلت وقد ذكر في كتاب كذا في صفحة كذا من الكتب المعتمدة والشيخ الحبيب النفطي لا يعود إلى الكتب غير المعتمدة ولا يجيب بالأقوال الضعيفة ولعل ذلك مما ركز حفظه بهذه الطريقة (أي سرعة مراجعة مسائله) جعل معلوماته محققة وإجاباته مدققة. فلم يتعقب على الشيخ الحبيب النفطي فيما كتب احد من الشيوخ بل أن المنصفين منهم يعترفون له بهذه الميزة ويقولون (لله دره) وما اقل في هذا الزمان أمثال الشيخ الحبيب النفطي ليس على مستوى تونس فقط بل على مستوى كل العالم الإسلامي فنحن في زمان اخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم كثير خطباؤه قليل علماؤه الأثبات ونحسب أن الشيخ الحبيب النفطي هو من هؤلاء العلماء الأثبات الذين استفادت منهم الأمة أيما استفادة وان رصيد فتاويه لأكثر من عقد ونصف لأصدق شاهد على ما نقول فهي لو كتب لها أن تجمع وتبوب وتراجع خير ما يستند إليه ويعتمد عليه فيما يجاب عليه من الأسئلة الدينية المتكاثرة في هذه الأيام بقي أن ندلي بشهادة لله أن الأستاذ صالح الحاجة صاحب الصريح عندما كان يتولى رئاسة تحرير جريدة الصدى هو أول من اكتشف في الشيخ الحبيب النفطي هذه المؤهلات والقدرات الفائقة التي تزينها سماحة ورفق فطلب مني آنذاك أن اجري معه حديثا كان بداية الاكتشاف والتعريف بهذا الشيخ الذي ظل مغمورا لعقود طويلة فجازى الله صاحب الصريح أحسن الجزاء وأمد في أنفاس الشيخ الحبيب النفطي.