فضيلة الشيخ الناصر الباهي رحمه الله مثال الواعظ الناجح والداعية المخلص
كان الشيخ الناصر الباهي رحمه الله نموذجا للداعية المخلص والواعظ الجماهيري الناجح، لقد كان قريبا من الناس محببا إلى القلوب يقف مع من يستوقفه ويشير على من يستشيره لا تغادر محياه الابتسامة الرقيقة والنظرة الفاحصة يربت بيده الكريمة على كتف من يسأله أو يستوضحه، يصغي مليئا إلى الاستفسار أو التساؤل ثم يجيب بما ييسر ولا يعسر ويبشر ولا ينفر مما يجعل السائل المستوضح ينصرف منشرح الصدر مقر العزم على المسارعة بفعل ما نصح به وارشد إليه الشيخ الناصر الباهي رحمه الله وأجزل مثوبته. لقد كان رحمه الله ممن آتاهم الهت بسطة في العلم والجسم والأخلاق فهو دائم الحركة والتنقل تراه يجوب الشوارع والأحياء ويدخل المغازات ويتردد على المصالح ملتزما بزيه العلمي وعمامته البيضاء فكان يراه ويعرفه من بعد كل من يعترضه. وبالعودة إلى تفاصيل مراحل حياته نجد لكل ذلك أثرا في ما ذكرته من صفات وأخلاق وتصرفات فقد نشأ رحمه الله وترعرع في ظل أبويه الكريمين الفاضلين الشيخ محمد بن محمود بن حسين بن علي بن حسين بن إسماعيل بن احمد الباهي بن وائل الأنصاري وأمه الحاجة كلثوم بنت الشيخ محمد البحري بن عبد الستار فكان لهما ابلغ الأثر في نحت شخصيته وتوجيهه التوجيه السليم، فأسرته أسرة فضل وعلم وتقوى وصلاح وفي هذا الجو الديني نشأ الشيخ الناصر الباهي فكان مولده في الثاني عشر من شهر ديسمبر من سنة 1906 في تونس العاصمة بالزاوية البكرية العتيدة قرب باب الاقواس. * وللزاوية البكرية دور كبير في نشر القرآن الكريم والمحافظة عليه لقد كانت هذه الزاوية ملجأ وملاذا يجد فيها طلاب العلم والفضيلة والأخلاق مبتغاهم ومرادهم وكانت تمثل قلعة إلى جانب عشرات القلاع المبثوثة في المدن والأحياء والأرياف أسسها أصحابها على البر والتقوى كالشجرة الطيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. حفظ الشيخ الناصر الباهي-رحمه الله- أجزاء من القرآن الكريم على يدي الشيخ أبي الطيب رحمه الله بالكتاب الكائن بباب سعدون وفي سن السابعة التحق بالمدرسة الصادقية ومنها تحصل على الشهادة الابتدائية ونجح في مناظرة الدخول إلى التعليم الثانوي وبعد أن تحصل على ديبلوم الصادقية التحق الفقيد بمعهد كارنو وقضى فيه ثلاث سنوات. وفجأة يقرر الشيخ الدخول إلى جامع الزيتونة الأعظم مؤثرا الجمع بين الثقافتين العصرية الفرنسية والعربية الإسلامية وفي الجامع تدرج الشيخ في سلم الرقي العلمي إلى أن أحرز على شهادة التطويع في العلوم الشرعية وكان ذلك سنة 1923 وكان من زملائه في الدراسة والنجاح ثلة من علماء تونس الأعلام وشيوخها الكرام من أمثال أصحاب الفضيلة الشيوخ محمد الفاضل بن عاشور وأحمد بن ميلاد ومحمد صفر والشيخ احمد شلبي رحمهم الله وغير هؤلاء من العلماء الأعلام الذين كان لهم شأن وأي شأن في مجالات العلوم الشرعية والدينية وممن رفعوا رأس تونس عاليا في المنتديات والمحافل وممن تكونوا تكوينا علميا أصيلا ومتينا فكانوا بحق حججا تجد لديهم الأمة ضالتها ويروون ظمأها. * لقد تلقى الشيخ الناصر الباهي رحمه الله العلوم الشرعية واللغوية على خيرة علماء جامع الزيتونة وتكون على أيديهم في العقائد والفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم الأخرى في حلقات الجامع وعند كل عرصة من عرصاته حيث يستند شيخ جليل هو بحر في اختصاصه ويحيط به طلاب لا غاية لهم من الحضور سوى التفقه في الدين رائدهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ففي أجواء الطهارة والخشوع والإخلاص لله رب العالمين تلقى الشيخ الناصر الباهي رحمه الله وأجزل مثوبته علوم الشرع على أيدي أعلام كبار كانت لهم في هذه البلاد صولات وجولات وممن تركوا بصماتهم على الأجيال المتعاقبة إذ يكاد إلى عهد قريب جدا لا يكون شاعر أو كاتب أو ناقد أو باحث أو قصاص أو موظف سام إلا وتتلمذ على أيدي هؤلاء الأعلام الكبار أصحاب السماحة المغفور لهم الشيوخ: محمد الطاهر بن عاشور ومحمد بن يوسف وعبد العزيز جعيط والحطاب بوشناق ومحمد بلخوجة ومحمد بلقاضي وحميدة بيرم وغيرهم من العلماء الأعلام والفقهاء الكبار. وبعد أن تشرف الشيخ الناصر الباهي بالتتلمذ على هؤلاء الشيوخ الكبار جاء دوره ليدرس بدوره فعلم في الجامع علوم اللغة من نحو وصرف وعلم الجغرافيا والتاريخ والحساب وفجأة وبإلحاح من السيد البشير بن عصمان رئيس مصلحة التسجيل إلتحق الشيخ الناصر الباهي بقسم العدول وسمي عدلا مترجما ببلدية العاصمة واستمر في هذه الخطة من سنة 1930 إلى أن أحيل على المعاش بعد أن قضى فيها ثلاثا وثلاثين سنة. ولم يكن عمل الشيخ الناصر الباهي رحمه الله في العدالة ليصرفه عن نشر العلم وتحفيظ القرآن الكريم فكان عونا ومساعدا لحركة تحفيظ القرآن الكريم التي أسسها المرحوم الشيخ عبد العزيز الباوندي رحمه الله فكون إملاءات قرآنية في أشهر مساجد العاصمة خصوصا في منطقتي باب سويقة والحلفاوين فكانت للشيخ املاءات في جامع سبحان الله وجامع أبي محمد وجامع البرج وجامع يوسف صاحب الطابع وحفظ على يدي الشيخ الناصر الباهي وبتشجيع ورعاية منه عدد لا يستهان به من سكان هذه الأحياء القرآن الكريم فصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وباشر الشيخ الناصر الباهي الخطابة الجمعية فتولى نيابة الشيخ عمر بوحاجب في جامع سبحان الله لمدة ثماني سنوات ثم تولى نيابة الشيخ احمد العياري في جامع الكرم ثم سمي في هذا الجامع إلى أن توفي إلى رحمة الله. فكان الشيخ الناصر الباهي في جامع سبحان الله وفي جامع الكرم مثال الخطيب الناجح الذي يشد إليه الناس ويتعهدهم بالموعظة الرقيقة المؤثرة ويدفعهم إلى العمل الصالح فأنقذ العديد من أبناء الكرم من الرذيلة والفساد والجهالة وأنار عقولهم وقلوبهم بأنوار العلم والمعرفة والتقوى. وكان لا يكتفي بإلقاء خطبة الجمعة بل يضيف إليها الدروس والمحاضرات وإملاءات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وفي سبيل أن يشحذ العزائم ويستنهض الهمم كان ينظم بينهم المناظرات ويسند للفائزين الجوائز والمكافآت. وتوجه الشيخ الناصر الباهي رحمه الله صوب العمل الخيري الإنساني فاشرف على الجمعية الخيرية في ضاحية حلق الوادي أين يقضي الشيخ عطلته الصيفية وكون هناك المدرسة الخيرية القرآنية التي خرجت أجيالا من خيرة أبناء تونس. وكان الشيخ الناصر الباهي يؤمن باتساع أبواب الخير والبر لتشمل اطعام الجياع وتفريج كروب المكروبين وقضاء حوائج المحتاجين ومعالجة المرضى وعيادتهم في المستشفيات ومواساة المنكوبين والمصابين فكان يجمع الصدقات من الموسرين ليردها على الفقراء والمحتاجين وضعاف الحال وكان ينظم حفلات الختان للأطفال الصغار فكان الشيخ بذلك يجسم المضمون التضامني الإنساني للإسلام وهو جانب أهمله كثير من الدعاة والعلماء وتركوه للمنصرين والرهبان يدخلون منه إلى قلوب الناس وعقولهم. وكان رحمه الله لا يكتفي بالدروس التي يلقيها تطوعا وتقربا إلى الله بل يتدخل لفائدة العاطلين لدى المصالح والمصانع والإدارات قصد تشغيلهم لعلمه رحمه الله ما للفراغ والشباب من أثر في الانحراف والفساد لقد آمن بالحكمة القائلة: (إن الفراغ والشباب والجدة.. مفسدة للمرء أي مفسدة) ولكي يقي الشباب والكهول من الفساد كان لا يكتفي بتغذية عقولهم بالعلم والمعرفة بل يسعى من اجل أن يكسو أجسامهم ويملأ بطونهم ويعالج أمراضهم. لقد سلك الشيخ الناصر الباهي رحمه الله المنهج القويم في الوعظ والإرشاد وهو المنهج الإصلاحي الذي ينير ولا يثير والذي لا يقصد منه صاحبه إلا النصح والإرشاد بالموعظة الحسنة، إذ لم يكن الشيخ من طلاب زخارف الدنيا وعروضها بل كان هدفه أن ينشر بين الناس الفضيلة ويحارب الرذيلة لا يمقت إلا الشر ولا يحارب إلا الفساد أما من وقع في شيء من ذلك فان أسلوب الشيخ معه يتمثل في دعوته باللين والحكمة والرفق والدعاء له بالهداية والصلاح. لقد كان هدف الشيخ الناصر الباهي رحمه الله أن يصل إلى الحيارى حيثما وجدوا ويوصل إليهم هدي الإسلام ونوره فلم يكن ينتظر أن يأتيه الناس بل كان ينتقل إليهم ويشد الرحال إلى أماكن تجمعهم مهما كانت قاصية ولم يكن الشيخ الناصر الباهي ممن يندد بالبدع بالابتعاد عنها بل كان ينغمس في التجمعات التي فيها مظنة البدعة وينتصب في وسط الجموع متربعا يصول ويجول بكلمة الحق لأجل ذلك نراه وفي أيام الصيف الشديد الحر يتجشم عناء الصعود إلى المقام الشاذلي رضي الله عنه ويمكث بين الزائرين والمرتادين كامل أمسية يوم الخميس يعظ ويرشد ويوجه ويجيب على الاستفسارات وسط حشود من الحاضرين تملأ عليه المسجد وصحنه فكان -وكأنني أراه يتصبب عرقا- ينطلق بصوته الجهوري في بيان حقائق الإسلام وأحكامه وكانت السعادة والفرحة تبدو على محياه وكم كان رحمه الله ترق لسماع دعواته المتكررة القلوب وتذرف لها الدموع تأثرا وخشوعا وكان يطيل الدعاء ويرغب ممن حضر الإعادة معه عسى أن يحظوا جميعا بالإجابة ثم يودع مريديه ومحبيه إلى الأسبوع القادم فيشيعونه إلى أبواب المقام بالدعوات والمحبة الخالصة لوجه الله. لقد فقد المسجد الجامع في الكرم وحلقات تحفيظ القرآن بباب الأقواس ورواد المقام الشاذلي في موسم الزيارة السنوي في الشيخ الناصر الباهي رحمه الله واعظا كفئا وعالما جليلا وداعية مخلصا قل أن يجود الزمان بمثله. فإلى رحمة الله ورضوانه والى جنات عرضها السماوات والأراضين أعدت للمتقين الأبرار والى جوار سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. وإنا لله وإنا إليه راجعون (*) توفي الشيخ الناصر الباهي يوم الاربعاء 11 فيفري 1987.