صور من محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لفضيلة الشيح محمد فاضل بن عاشور
يدرك الواقفون على أسرار المحبة أن نفس المحب إذا امتلأت بالحبيب أصبحت ولا شغل لها إلا بذكره والفكرة فيه، ولا توجه لها إلا إلى آثاره وأسبابه، وما يفضي إلى خياله بالاستحضار، وإلى لاعج المحبة بالتذكار. ولذلك كثر اجلا المحبين للأطلال، وحنينهم إلى الرياح الهابة من أرض الحبيب، والبروق اللامعة من صوبه، والركبان الآتين بحيثه، والمكاتيب التي لمستها يده، والشخص الذي رآه، والجدار الذي ضمه، والقمر الذي طلع عليه، والسحاب الذي أظله، والاسم الواقع على اسمه، والذات الحاكية لرسمه، بل والعذول لأنه يذكره، والواشي لأنه يرفع لواء الحب وينشره، فكيف بثوب لامس قوامه، أو تربة لثمت أقدامه، أو قضيب وقعت عليه بنانه، أو كلمة جرى بها لسانه. شنشنة غرامية صورت للمحبين الطفيف من أسباب أحبابهم جليلا، وحجبت أبصارهم عن أن ترى التافه قليلا، حتى قال غيلان: وان لـــم يكن إلا تعلل ســـاعة قليـــلا فاني نـــافع لـــي قليلها وهذا عام في ضروب التعلق كلها، شامل لأبواب المحبة قاطبة، على تفاوت درجاتها واختلاف دواعيها. ولا جرم أنّ من أوتى قبسا من العقل الذي يستضيء به في سبيل الرشاد، ورزق من الشرع الأغر عصمة تثبت قدمه على مناهج السداد، إذا نظر في أصناف الذين يستوجبون حبه وبره وثناءه وشكره: من ناصح أمين، ومرشد على الخير معين أو من صديق حميم ووالد رؤوف رحيم، ثمّ تبين ما كان لسيدنا محمد -صلـّى الله عليه وسلـّم- أمن الناس على كل مسلم ومسلمة وأحقهم شرعا وعقلا بالمحبة الصادقة والولاء الخالص بما وضح لهم من طرق النجاة ويسر لهم من أسباب المعرفة، وبما شملهم من العفو والرأفة، والصفح والرحمة، وتخولهم به من الموعظة، وباعد عنهم من المشقة، وادخر لهم من الشفاعة، وقربهم من منازل النعيم لا يصرفون عنها. ووجدهم على شفى حفرة من النار فأنقذهم منها. وقد ورد القرآن الكريم يحرضنا على هذه المحبة ويقيم الحجة على لزومها واستحقاقه - صلـّى الله عليه وسلـّم- لها، ويقرنها بمحبة الله عزّ وجل. فقال تعالى:“قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره”. وقد كان من محبة الله تعالى لهذا السيد الأعظم - صلـّى الله عليه وسلـّم- واصطفائه إياه للدرجات العلية أن جعل للمسلمين على هذه المحبة فضلا ومنا وكرما من المثوبة والفضيلة ما يشهد له ما رويناه بأسانيدنا في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبيء - صلـّى الله عليه وسلـّم- فقال:“متى الساعة يا رسول الله؟” قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله فقال: أنت مع من أحببت". ولله در الحافظ ابن حجر إذ يقول: وقـــائــــل: هـــل عمـــل صـــالح أ عددتــــه ينفـــــع عنـــد الكـــرب فقلت: حســـبي خدمة المصطفــــى وحبه؛ فالمرء مع من أحب وقد كان هداة الآمة وقدوتها الطيبة من رجال الصدر الأول -رضي الله عنهم- يتعلقون من هذه المحبة الشريفة بالأسباب المتينة، ويشتدون فيها إلى الغايات السامية، الممتنعة عن غير النفوس المشرقة باليقين، المتبؤة من مقامات الثبات والتصديق درجاتها العلية. يظهر ذلك فيما عقدوا عليه قلوبهم وما نطقت به ألسنتهم وما ترجمت عنه أفعالهم كما قيل: أفادتكم النعماء منــــى ثـــلاثـــة يدي ولســـاني والضمـــير والمحجبا أما ضمائرهم فقد كان مظهر المحبة فيها الشوق البالغ إليه، والأنس المطرب بذكره، وتمنى أن تكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم فداءه، وذهولهم عن أحب الأشياء إليهم في سبيل نصرته ومحبته. فقد أورد عياض في الشفاء عن عبدة بنت خالد بن معدان قالت: ما كان خالد ياوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله -صلـّى الله عليه وسـلّم- وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ويسميهم ويقول: لهم أصلى وفصلي، واليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم. وفي الشفاء أيضا: أن أهل مكة لها أخرجوا زيد ابن الأثنة(رضي الله عنه من الحرم ليقتلوه وهو من أسرى غزوة الرجيع قال له:أبوا سفيان ابن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن في عندنا مكانك يضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا من الناس يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.) وقد أخرج ابن هشام في السيرة: إنّ عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- وكان من شهداء بدر لما أصيب يوم بدر حمل بين الصفوف جريحا يسيل مخ ساقه وأضجع إلى جانب موقف النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- فوضع خده على قدمه الشريفة وقال: أما والله لو أدرك أبا طالب هذا اليوم لعلم أني أحق منه بما قال إذ يقول: كذبتم وبيـــت الله يبزي محمد ولمـــا نطـــاعن دونه وننـــاضل ونسلمه حتـــى نصـــرع دونه ونذهـــل عن أبنائنـــا والحلائـــل وأمـّا ألسنتهم فقد كان مظهر المحبة فيها الإكثار من ذكره -صلـّى الله عليه وسلـّم- وفي المثل المشهور من أحبّ شيئا أكثر من ذكره، وتفديته بالآباء والأمهات والتعلق بالصلاة عليه حتى صارت ريحانة نفوسهم وقرّة عينهم. وأما أفعالهم فقد كانت مظاهر المحبة فيها مختلفة الاعتبارات متفاوتة المقامات حتى انتهت بهم إلى أن قدموا نفوسهم فداء لذات النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- وعرضه. ففي حديث يوم أحد أن أبا طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- ثبت أمام النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- ينصح عنه بالنبال ويقول: وجهي لوجهك فداء ونحرى دون نحرك. وأن أبا دجانة الانصاري -رضي الله عنه- تترس على رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- فكانت النبال تقع على ظهره وهو منحن حتى تشكك بالنبال. وفي حديث البخاري عن عبد الرحمان بن عوف -رضي الله عنه- أن شابا من الأنصار كان إلى جانبه يوم بدر. فقال له: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قال: وما حاجتك به يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه سبّ رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأجل منا، فتعجب عبد الرحمان -رضي الله عنه- لذلك فسأله شاب آخر مثله. قال: فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت ألى هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفهما حتى قتلاه. وكان من أفعالهم في هذا الباب ما عرف من شدة تمسكهم بالآثار النبوية وحرصهم على معرفتها للتبرك بها ومحافظتهم عليها وتنافسهم فيها. قرأت على سيدنا شيخ الإسلام الوالد -أمد الله نوره- في صحيح الإمام مسلم عن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- من طرق عديدة متضاربة: أنّ النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- كان يدخل بيت أم سليم -رضي الله عنها- فينام على فراشها وليست فيه. قال فجاء ذات يوم فنام على فراشها. فأتيت فقيل لها: هذا رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- نائم في بيتك على فراشك، فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قوارير ففزع النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- فقال: “ما تصنعين يا أم سليم” فقالت:“يا رسول الله نرجوا بركته لصبياننا” قال: “أصبت”. وقرأت عليه أيضا فيه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى باناء إلا غمس يده فيه فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. ورويت عنه وعن غيره من شيوخنا رضي الله عنهم جميعا بأسانيد متعددة في صحيح البخاري عن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- وهو في قبة حمراء من أدم ورأيت بلال أخذ وضوء النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- والناس يبدرون الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به ومن لم يصب أخذ من بلل صاحبه. وقرأت في البخاري أيضا على والدي بأسانيده عن أبي بردة الأشعري أن عائشة - رضي الله عنها- أخرجت إليهم إزار غليظا مما يصنع باليمن وكساء ملبدا وقالت: في هذا نزع روح النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم-. وذكر ابن هشام في شرح قصيدة كعب عن أبي بكر بن الأنباري أنّ معاوية -رضي الله عنه- بذل لكعب بن زهير -رضي الله عنه- في البردة التي خلعها عليه النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- عشرة آلاف. فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- أحدا. فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم. وقد قرأنا على سيدنا الوالد بأسانيدنا عنه في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنها- أنها أخرجت جبة طيالسة كسروية مكفوفة بالديباج. وقالت: كان رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- يلبسها فنحن نغسلها للمرضى فنستشفي بها. وذكر الحافظ الذهبي في تاريخه أنّ رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- لما كتب بالأمان لأهل إيلة في غزوة تبوك أرسل عليهم مع الكتاب بردته المباركة فبقيت عندهم حتى اشتراها الخليفة أبو العباس السفاح بثلثمائة دينار. ولعلها هي التي بقيت يتوارثها الخلفاء يتبركون بها ويلبسونها عند البيعة حتى انتهت إلى الخلفاء الأتراك بني عثمان فحفظها السلطان مراد الثاني في صندوق من ذهب لم تزل محفوظة فيه إلى الآن في مدينة الآستانة. وقرأت على سيدي الوالد، أدام الله به قرة العين في صحيح البخاري عن على زين العابدين -رضي الله عنه- أنه لما رجع إلى المدينة بعد مقتل والده الحسين بن علي -رضي الله عنه- فقال: هل أنت معطى سيف رسول الله -صلـّى الله عليه وسلـّم- فأني أخاف أن يغلبك القوم عليه وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبدا حتى تبلغ نفسي. وإن من عرف ما كان من الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن تبع إحسانهم واقتدى بهديهم من أفاضل المسلمين في كل عصر ومصر من العناية بالنعل النبوي وتشريفها لم ير بعد ذلك عنياتهم بمثل البردة والسيف إلا أمرا حتما وبابا أولى لما شاع في عرف الناس من استصغار نسبة النعال إلى صاحبها بخلاف نسبة الأمور التي يرونها أشدّ صلة وأشرف علاقة مثل السيف والخاتم والدرع ونحوها. قرأنا على مولانا شيخ الإسلام الوالد، أيده الله في صحيح البخاري عن عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس بن مالك -رضي الله عنه- نعلين جرداوين لهما قبالان وقال أنس: هما نعلا النبيء -صلـّى الله عليه وسلـّم- لذلك التزم كثير من أهل المحبة النبوية ممن رزق حسن الأدب فلم ير نفسه أهلا للوصول إلى المقام النبوي مباشرة التعلق بوصف النعل النبوية وتمثيلها ومدحها بفنون المديح نظما ونثرا حتى إنّ كثيرا من أفاضل الآثار كتبوا في ذلك تصانيف خاصة كالحافظ الكلاعي، وابن الحاج المريني، والحافظ ابن عساكر، والسراج البلقيني وأبى العباس المقرى، وهو الذي أربى على جميعهم في كتابه المسمى“فتح المتعال في وصف النعال”.