سورة البقرة
من الأية 34 الى الأية 39 من سورة البقرة
لقد أقام الله آدم بين يدي الملائكة وابليس... ومن خلال امتحان السجدة نبهه تنبيها عمليا بما سيدور عليه سلوكه في الحياة الأرضية... وهو سلوك متجه في أحد الطريقين المتقابلين... الأول... هو طريق الاستسلام المطلق لأمر الله كالملائكة... وان كان ذلك الاستسلام بمعناه العملي يعني اخضاعه نفسه أمام عبد هو دونه رتبة ومنزلة... والثاني... هو طريق ابليس المتمثل في التعالي والترفع عن الاعتراف والخضوع للغير... ان حياة الانسان بأكملها انما هي معترك هذا الامتحان... حيث ان الانسان في هذه الحياة يتحتم عليه دائما أن يتخذ خلال التعامل مع الأخرين أحد الموقفين لا ثالث لهما... أولهما " الموقف الملائكي "... وهو أن يأخذ الانسان نفسه بالخضوع التام أمام مقتضى الحق والعدل في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا... طاعة لله ربه وامتثالا لأمره... والآخر هو " الموقف الشيطاني "... وذلك يعني أن الانسان اذا ما عرض له أمر من الأمور... يقع تحت سيطرة الحقد والحسد... وتنبعث في داخله نفسية الكبر والاغترار ازاء الفرد المتعامل معه ما يؤدي به الى مجانبة الصواب... فهو اذن لا يعترف بما لغيره من الحق عليه... ولا يذعن الى ما يفرضه عليه العدل والانصاف... وان قضية " الشجرة المحضورة "... هي الأخرى تمثل درسا عمليا في نفس هذا السياق... فهي تفيدنا أن مبدأ انحراف الانسان هو أن يكون قد تأثر بما يوسوس له الشيطان... وبالتالي يتخطى تلك الحدود التي قد نهى الله تعالى عن تخطيها... وانه ما أن تمتد يد الانسان الى تناول " الثمرة المنهي عن أكلها " حتى يحرم من نصرة الله... وبعبارة أخرى... يفتقد أستحقاق الجنة... غير أن هذا الحرمان ليس حرمانا نهائيا اذا وقع مرة لا يمكن بعد ذلك استدراكه وتلافيه... حيث أن فرصة التوبة لا تزال مفتوحة أمام الانسان... ولذا عليه أن يعود الى ربه ثانية... سائلا عفوه... راجيا رحمته... مصححا مسار حياته وسلوكه... مؤكدا العزم على الثبات والاستقامة وعدم الانحراف عن الجادة... والعبد حين يتوجه الى ربه تائبا كهذه التوبة... فان الله تعالى أيضا يتوب عليه... أي يقبل توبته... ويطهره من دنس الذنوب تطهيرا كأنه لم يكن قد ارتكب ذنبا... ان قيام الدعوة الى الله في أي بقعة من بقاع المعمورة لهو امتحان عسير من هذا النوع... كما ان الداعية الى الحق يكون بمثابة " آدم " بالنسبة لمخاطبيه... ومن هنا فليس للناس أن يتخذوا نحوه أي موقف غير الخضوع والاستسلام له والاذعان العملي الى ما يدعوا اليه... وأما اذا لم يسمح لهم كبرهم وغرورهم بالاعترف به... ولم تتسع صدورهم لقبول دعوته... فكأنهم سلكوا مسلك الشيطان ... ان الله جل وعلا لا يظهر للناس في هذه الدنيا عيانا وجهرة... لكنه يختبر الناس من خلال آياته... اذن فمن وجد الله في آية الله فقد وجد الله حقا... ومن لم يجد الله في آية الله فقد حرم من الله...
من الأية 40 الى الأية 46 من سورة البقرة
ان أعظم ما ينعم به الله على شعب من الشعوب هو أن يبعث اليه رسول... ويوحي اليه ما يوضح الطريق المفضي الى الفلاح الأبدي والسعادة السرمدية... ولقد كان بنو اسرائيل... الشعب اليهودي... هم الذين يحملون هذه المنة الالهية قبل بعثة النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -... الا أن الدين فقد عندهم اعتباره الحقيقي ومكانته الأصيلة على مر الزمن... فقد تحول - في نهاية الأمر - الى شيء أشبه ما يكون بطقس أو رسم تقليدي... يتوارثونه خلفا عن سلف... وليس شيئا يختاره الانسان بقرار شعوري وارادة حية واعية... وما أن ظهر النبي العربي - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف النقاب عن الحقيقة... فالذين كانت لهم روحا لا تزال تشع الصفاء... وشعورا لا يزال ينبض بالحياة... ما لبثو أن عرفوا صدقه - عليه الصلاة والسلام - فآمنوا به وبادروا بالانضمام تحت لوائه... وأما الذين صار الدين عندهم رسما تقليديا يتوارثونه عن الأباء... فانهم أنكروا صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمعنوا في الانكار... وبالتالي رفضوا دعوته رفضا باتا وكونوا جبهة المعارضة ضده... ومع أن التوراة كانت تتضمن آيات بينات بشأن نبوته - عليه الصلاة والسلام - تبلغ من الوضوح والصراحة درجة لم يكن معها أمر الاقتناع والتأكد من صدقه وحقية رسالته -صلى الله عليه وسلم - أمرا متعذرا على اليهود... ولكن الخوف من فوات المصالح والمنافع الدنيوية التي كانوا يجنونها لأنفسهم هو الذي حال دون اعترافهم برسالته وتلبية دعوته - عليه الصلاة والسلام - بحيث أنهم كانوا من قبل يتولون الرئاسة في ظل الهيكل الديني القائم الذي كان قد تكون لديهم بفعل القرون المتطاولة كما وانهم كانوا قد أصبحوا مرجع الدهماء من الناس اتربعهم على مقاعد الشيوخ والعظماء وكانت تنهال عليهم صنوف من الهدايا والنذائر بمختلف المناسبات الدينية طوال السنة ومن هنا فقد خيل اليهم أنهم لئن صدقوا برسالة النبي العربي - عليه الصلاة والسلام - فان سيادتهم الدينية سوف لا تعدوا أن تكون أثرا بعد عين وأن بنيان منافعهم سيأخذ بالتحطم والانهيار ... وبما أن اليهود كانوا اذ ذاك يحتلون مركز التمثيل الديني ( الزعامة الدينية ) في الجزيرة العربية كان الناس بطبيعة الحال يسألونهم عن النبي العربي - عليه الصلاة والسلام - معتبرين اياهم المسند فيما يتصل بموضوع الوحي السماوي ولقد كان اليهود يقتنصون مثل هذه الفرص بخبث ودهاء بالغين لترويج شيء من الأباطيل والمفتريات ما يجعل شخصية الرسول ودعوته مثار الجدل والارتياب عند الناس... ومن المفارقات أنهم في أثناء حديثهم الى الناس دائما ما كانوا ينصحون لهم قائلين أن اتبعوا الحق وكونوا أنصار الحق ...الخ. ولكن عندما اقتضى الأمر أن يأخذوا هم ذات أنفسهم فعلا باتباع الحق ونصرته فلم يعودوا يستطيعون اتباع الحق ومناصرته... وان أمر التلبية لنداء الله تعالى اذ يكون بحيث يفرض على الانسان حتمية القيام بتغيير جذري لخريطة حياته ويستلزمه أن ينزل بذات نفسه عن مقاعد الشرف والوجاهة فان الأمر عند ذلك ليتخذ شكلا رهيبا ومقلقا جدا بالنسبة لأولئك الذين لم ينالوا ما نالوا من السمعة والمكانة الدينية الا في اطار نفس هذه المظاهر الدينية البراقة ولكن الذين يمارسون حياتهم على أساس من الخشوع فان بريق مثل هذه الأشياء والظواهر لا يشكل لهم أيما عائق أو صعوبة ذات بال ذلك بأنهم يجدون في ذكر الله والانفاق في سبيل الله وفي الاستسلام لأمر الله والصبر لله يجدون في ذلك كله خير بديل لما يجده الآخرين من الناس في زخارف الدنيا ومغرياتها فانهم يدركون جيدا أن الشيء الذى ينبغي أن نحسب له ألف حساب وأن نخافه كل الخوف فانما هو غضب الله تعالى وليس مخاوف هذه الحياة الدنيا الفانية...
من الأية 47 الى الأية 57 من سورة البقرة
ان الله تعالى كان قد فضل اليهود على العالمين جميعا أي أنه تعالى كان قد اختارهم لحمل أمانتهالخاصة التي تتمثل في الوحي السماوي وايصاله الى من دونهم من الأمم والشعوب لنطلع هي الأخرى على مرضاة الله سبحانه وتعالى... ثم أفاض الله عليهم - نظرا لضخامة عبء المسؤلية الملقاة على عواتقهم ولتأهيلهم لتأديتها خير أداء - من نعمه ووفر لهم كثيرا من الامكانيات والتسهيلات مثل تغليبهم على أعدائهم والتفضل بالعفو عن الخطايا والزلات التي وقعوا فيها مرة بعد أخرى وتأييدهم بنصرة منه غير عادية في ظروف وملابسات غير عادية و" أعطاءهم الخبز من الرب ليأكلوا " ( سفر الخروج:15-16) وما الى ذلك ولقد تسبب هذا كله في تأدية أجيال اليهود القادمة فيما بعد الى تكوين النظرة الخاطئة المتمثلة في الاعتقاد القائل : بأننا شعب الله المختار وأن نجاحنا في الآخرة مضمون لنا مسبقا بحيث لن يفوتنا في أي حال من الأحوال ... ولكن أمور الله من هذا النوع لا يتسنى استحقاقها لأحد وراثيا اذ أنها لا تكون مبنية أو مقصورة على مجرد الانتماء الى سلالة أو عرق بعينه أن مصائر الأفراد واللاحقين لشعب من الشعوب لا يتم تقريرها أبدا على أساس أسلافهم السابقين بل على أساس كل فرد على حدة " كل امرء بما كسب رهين " ان يوم الدينونة والعدل الالهي ليكون يوما قاسيا وشديدا لدرجة أن هناك لن يغني عن أحد شيء سوى عمله الذاتي ... التجين الحقيقي هو أن يخضع الانسان في عبادته لله وحده ويعبده لا يشرك في عبادته أحدا وان يؤمن بوجود الله الذي لا تدركه الأبصار بالغيب حيث لا يشترط لايمانه رؤيته جهرة وعلانية وأن يمارس حياته على أساس من التقوى والخشية من حساب الآخرة فيتقوت ويقضي حاجات حياته الأخرى عن طريق الكسب الحلال ويمنع أهله ومن هم تحت رعايته وسلطته من اتيان المنكر وسلوك طريق الاجرام والمعصية...
من الأية 58 الى الأية 61 من سورة البقرة
لقد خص الله اليهود بنعم وفيرة لم يؤت مثلها أحد من العالمين... الأمر الذي كان - بطبيعة الحال - مستلزما لأن يكونوا من عباد الله الشاكرين... ولكنهم أتوا بما هو عكس ذلك تماما... فمن عظيم نعم الله عليهم أن جعل بلدة كبيرة بحذافيرها تحت سيطرتهم... وقيل لهم ألا يدخلوها متظاهرين بالمراح والفخفخة كعادة الغزاة الجبابرة. بل خاضعين لله تواضعا ومستغفرينه لذنوبهم... ولكنهم أخذوا - بدل ذلك - يرددون كلمات فكاهية ساخرة ... كما قد أعدة لهم أغذية فطرية تتمثل في المن والسلوى... والتي بدورها جعلتهم بنجوة من هموم ومتاعب السعي في سبيل كسب المعاش... وذلك حتى يستطيعوا الحصول على أكبر قدر ممكن من الوقت الفارغ للقيام بتنفيذ أحكام الله وامتثال أوامره تعالى ... ولكنهم بدأوا يطالبون بتوفير أنواع من المآكل الشهية وصنوف الأطعمة المقبلة... انهم لم يقنعوا من العيش بما يقوتهم ويكفي حاجتهم... بل اندفعوا اندفاعا لاهثا وراء البحث عن اللذات... وانغمسوا في اشباع الشهوات والرغبات ... وبلغوا من القسوة وبلادة الاحساس مبلغا جعل آيات الله البينات هي الأخرى لم تعد تجدي شيء في اثارة مشاعرهم المتبلدة والانة قلوبهم القاسية المتحجرة ... والأكثر دلالة على مدى طغيانهم وجرأتهم على المعصية أن عباد الله الذين بعثوا فبهم ليصدونهم من غوايتهم ويوقظونهم من رقدتهم لم يلقوا لهم أسماعهم ازدراء لشأنهم... وليس هذا فقط بل وتضايقوا من وجود أولئكم الصالجين بينهم لدرجة أنهم قتلوهم بغير الحق ... ولكنا نتساءل ما الذي دفع اليهود الى مثل هذا التمرد على أحكام الله وجحود نعمه تعالى؟... ان الدافع لذلك في الحقيقة هو ظنهم أنهم شعب الله المختار الناجي من كل مؤاخذة أو تعذيب على الاطلاق... ولكن ليس هناك أمرا أو قضاء يتم اصداره من عند الله تعالى على أساس الانتماء الى سلالة أو شعب بعينه ... ان القانون الالهي متناه في العدل... ولا محاباة فيه لأحد... وان حكمه سيكون حكما محايدا للغاية ... لا يميز بين يهودي وغيره... وانما الجنة يستحقها من يعمل عمل أهل الجنة... وليس من ينتمي الى هذه السلالة دون تلك أو يعزى الى هذا الشعب دون ذاك... ان ممارسة الحياة الأرضية على أساس من الشكر والصبر والتواضع والقناعة يعني اصلاح الأرض وتعميرها... وعلى النقيض من ذلك... فان ظاهرة الجحود والهلع والتكبر والشح والجشع يعني اثارة الفساد في الأرض وتخريبها... لأن ذلك كله مما يؤدي - في نهاية الأمر - الى احداث خلل واهتزاز في ذلك النظام الفطري الذي قرره الله تعالى... ويمثل تعدي الانسان الحدود التي رسمها الله له... في حين أن الله سبحانه وتعالى يريد الانسان أن يتصرف في اطار نطاق حدوده هو... وليس لأحد أن يتجاوز دائرة حدوده الذاتية...
الأية 62 من سورة البقرة
ذكرت الأية طوائف أربعة... الأولى : المسلمون الذين هم أتباع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -... والثانية : فرقة اليهود التي تقول انها على دين موسى - عليه الصلاة والسلام -... والثالثة : طائفة النصارى المدعية كونها أمة عيسى - عليه الصلاة والسلام -... والرابعة هي فرقة الصابئة الذين يزعمون أنهم على دين نوح - عليه الصلاة والسلام - والذين كانوا في سالف القرون بالعراق ... وقيل انهم كانوا أهل كتاب يقرأون الزبور ويصلون للقبلة... الا أن فرقة الصابئة قد انقرضت وأصبحت الآن أثرا بعد عين فلم يعد لها من وجود في أي بقعة من بقاع العالم اليوم.. والأمر الجدير بالتسجيل في هذا المقام... هو ذكر المسلمين - أي الأمة المحمدية - في الأية ضمن أمم أخرى تنتمي الى أنبياء آخرين في سياق واحد ومن غير استثناء أو تمييز... فهذا التعميم ان دل على شيء انما يدل على أن الجميع باعتبارهم أمة أو كتلة شعبية خاصة متساوون عند الله تعالى... وليس ثمة من فارق جوهري يميز شعبا معينا على شعب آخر بمجرد تكوينه الشعبي... وان هناك مبدأ صارما ووحيدا لا يتغير تعتمد عليه نجاة الجميع ألا وهو الايمان والعمل الصالح .. وان أي شعب من الشعوب سواء زعم أنه اسلامي أو يهودي أومسيحي أو صابيء لا يحضى عند الله بأية مكانة خاصة بمجرد كونه شعبا معينا... اذ العبرة في ذلك - أي ما يتصل بنيل الدرجات عند الله تعالى - انما تكون لمن قام بصياغة حياته العملية ومارسها وفق مشيئة الله عز وجل... ان الطائفة المتبعة للنبي عندما تتشكل في الزمن المعاصر له... تتشكل دائما على ركائز صلبة من الايمان والعمل الصالح .... وما يحدث اذ ذاك هوأن صوت النبي يعمل على احداث ثورة عقلية وفكرية في عدد قليل أو كثير من الناس... وبالتالي تستيقظ في نفوسهم ارادة جديدة تؤدي بهم الى القيام بتغيير جذري شامل في حياتهم العملية... حيث أنهم الآن يتخذون من التعاليم الالهية أساسا يوجه مسيرة حياتهم التي كانت قبلئذ تسير على أساس من الهوى والرغبات الذاتية ... وهؤلاء هم الذين يكونون " أمة النبي " في حقيقة الأمر... وهم الذين يبشرون - على لسان النبوة - بنعيم الآخرة الأبدي ... ولكن الوضع لا يلبث أن ينقلب تماما في الأجيال التالية ... اذ يتحول الدين الالهي عند الأجيال التالية الى شيء أشبه ما يكون بتقليد أورسم قومي ... والبشائر التي تم اعلانها سابقا على أساس الايمان والعمل الصالح هي الأخرى يتغير مفهومها لتعتبر الآن حاصلة بمجرد العلاقة العرقية أو الانتماء الطائفي ... وينتهي بهم الأمر الى اعتقاد أن طائفتهم التي ينتمون اليها لها علاقة بالله خاصة ما لا يتمتع بها الآخرين سواهم... وان الشخص الذي ينتمي الى تلك الطائفة الخاصة بغض النظر عما كانت عليه عقائده وأعماله لا بد وأن يفوز بالخلاص الأخروي على أي حال من الأحوال... وان الجنة لا يستحقها الا هو وطائفته وحدها وأما جهنم فانما هي للطوائف الأخرى... فليس لأي شعب من الشعوب أية علاقة خاصة بالله تعالى...وما العبرة عند الله الا بنوعية ما يؤمن به الانسان من فكر وما يأتيه من عمل لا غير... ومصير الانسان في عالم الآخرة انما يتحدد على أساس سلوكه الحقيقي وليس على أساس الانتماءات العرقية...
من الأية 63 الى الأية 66 من سورة البقرة
ان روايات الكتاب المقدس تقول أنه لما أخذ الله ميثاق بني اسرائيل في زمن موسى -عليه الصلاة والسلام - ليقومون بامتثال أوامر الله تعالى كما ينبغي ولا يحيدون عنها قيد شعرة... رفع الله فوقهم الجبل وخاطبهم قائلا : " اما أن تقبلوا التوراة والا فستهلكون جميعا هاهنا " ( التلمود )... وهكذا هو الأمر بالنسبة لكل شخص يؤمن بالله ... ان الايمان بالله يعني أن المرء قد أخذ على نفسه عهدا بأن حياته ومماته كلها ستكون وفق مشيئة الله عز وجل ... ان هذا العهد خطير للغاية... ويتم التعاقد فيه بين طرفين... أحدهما... العبد الذي هو في منتهى الضعف والقصور والعجز... بينما الطرف الآخر... هوالله العزيز الذي يملك كل طاقات السماء والأرض ... وان العبد اذا التزم فعلا بكل مقتضيات هذا العهد وأدى حق الوفاء به فقد استحق عند الله نعيما خالدا لا يزول ولا يفنى أبدا... وأما اذا أخلف ذلك العهد ورفض الالتزام الفعلي بمقتضياته... فقد عرض نفسه لمصير غاية في الخطورة... وهو أن يقذف الله به في نار جهنم فلا يزال يحترق فيها ولا يجد الى الخروج منها من سبيل... ان المشاعر والكيفيات التي طرأت على قوم موسى - عليه الصلاة والسلام - اثناء أخذ الميثاق الايماني هي نفسها مطلوبة من كل عبد مؤمن ... فينبغي لكل من يربط نفسه مع الله برباط الايمان أن يهتز كيانه وترتعد فرائصه استشعارا لمدى خطورة الأمر... وكأن الأرض ستنشق من تحته والسماوات يتفطرن من فوقه اذا هو نقض هذا العهد... ان من مظاهر الضلال والانحراف التي طالما يقع فيه شعب منح شريعة من عند الله تعالى أن تكون تصرفاته العملية في الحياة على النقيض تماما مما تقتضيه شريعة الله... ويحاول - من جهة أخرى - تبرير موقفه غير الشرعي ذاك متذرعا بصنوف من التأويلات... لكي يزعم أنه محافظ تمام المحافظة على أحكام الله تعالى ... ولقد أمر اليهود بأن يخصوا يوم السبت بالذكر والعبادة والصيام وألا يعملوا فيه شيئا يتصل بالشؤون الدنيوية... ولكنهم لم يرعوا هذه الحرمة الالهية حق رعايتها حيث أخذوا يشتغلون بأمورهم الدنيوية في يوم السبت أيضا كشأنهم في غيره من الأيام... ثم انهم - مع ذلك - دأبوا على اختلاق أنواع من التبريرات والتأويلات اللفظية ليوهموا الناس أن ما يفعلونه ليس خلافا للشريعة بل هو عين ما أمرهم الله به... ولقد تسبب تمردهم هذا في اثارة غضب الله حتى مسخوا في صورة القردة خاسئين... ولهذا كلما ينحرف الإنسان عن الشريعة ويخالف أحكامها فإنه ينحط بنفسه الى مستوى البهائم والحيونات التي هي غير ملزمة بأي ضابط أو قانون أخلاقي ... ولذا فليحذر الذين تسول لهم أنفسهم هذا النوع من التلاعب بالشريعة الإلهية أن يأخذهم القانون الإلهي فينزل بهم الى ذلك الدرك من الذل الحيواني المهين الذي وقع فيه اليهود من قبل نتيجة تصرفهم وسلوكهم من نفس هذا القبيل ...
من الأية 67 الى الأية 73 من سورة البقرة
حدث في زمن سيدنا موسى - عليه الصلاة والسلام - أن قتل رجل من بني إسرائيل فوقع بينهم خلاف شديد في تحديد هوية القاتل... فأمرهم الله تعالى عن طريق النبي أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعض أعضائها ليعود حيا بإذن الله ويخبر عن قاتله ... وقد عولجة هذه الحادثة الآنفة الذكر بهذا الأسلوب الخارق للعادة لأغراض عدة منها... أولا : لقد أثرت الحضارة المصرية وتقاليدها الوثنية في بني إسرائيل خلال إقامتهم الطويلة الأمد في مصر تأثرا بالغا ... وبما أن المصريين كانوا يعبدون البقرة فما لبث أن تسرب الى بني إسرائيل أيضا الإعتقاد بقداسة البقرة ... وعندما وقع الحادث المتقدم ذكره أراد الله تعالى أن يستغله في تحطيم ذلك الإعتقاد المستقر في أذهانهم عن قداسة البقرة ومن هنا جعل من ذبح البقرة وسيلة للكشف عن هوية القاتل المتنازع فيها ... ثانيا : ولما كانت من تصرفات بني إسرائيل الخاطئة والممقوتة جعلهم دين الله السهل والبسيط دينا شاقا وعسيرا بسبب خوضهم في الأمور الجانبية وتركيزهم على الهوامش الفقهية ... تم في سياق الحادث المذكور تلقينهم درسا بالغ الأهمية ... هو أن عليهم إذا جاءهم من عند الله حكم من الأحكام أن يبادروا بالعمل به فورا حاملينه على أبسط محامله بدون أن يتبعوا فيه سبيل التعمق والتنقير ... لأنهم ببحثهم في التفاصيل الجزئية للحكم ومحاولتهم تعيين حدوده واستقصاء جوانبه الفرعية يتورطون في مشكلة خطيرة جدا ... هي أن حكما سهلا ميسورا سيتحول في نهاية المطاف بما قد تجمع حوله من آداب وقيود وشروط دقيقة الى حكم عسير معقد للغاية ... فيتعذر عليهم القيام به على الوحه المطلوب ... ثالثا : وعن طريق هذا الحدث تم إشعار بني إسرائيل بأن الحياة الثانية حياة ممكنة شأنها شأن الحياة الأولى ... فالله الذي أحيا الإنسان بعد موته سيبعثه ثانية في عالم جديد...
الأية 74 من سورة البقرة
إن الذين يتخذون من إثارة المناقشات اللفظية حول الحكم الإلهي ديدنهم ... ومن ابتغاء التأويلات البعيدة الفاسدة دأبهم ... يتدرجون يوما بعد يوم الى الإصابة بموض الجمود وبلادة الإحساس ... فتقسو قلوبهم وتتحجر شيئا فشيئا ... إن اسم الله هو اسم لذات هي أعظم وأسمى ما في الوجود ... وإذا كانت دخائل المرء مغمورة بالإيمان الحي فما أن يسمع اسم الله حتى يرتجف فؤاده ويهتز كيانه ويجد في نفسه ميل الى الصمت والسكوت أكثر من الخوض في الحديث والكلام ... إلا أن القلوب حين تصاب بالجمود والبلادة الحسية فإن أحاديث الله هي الأخرى تصبح مثار الجدل العقيم وموضوع التأويلات الباطلة كما هو الشأن في كلام البشر العادي ... إن عملا كهذا لا يزيد الخائضين فيه إلا قسوة وتحجرا وبلادة إحساس حتى تصير قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة وصلابة ... وبالتالي فإن ذكر الله وتصوره لا يذيب قلوبهم ولا يلهب مشاعرهم وأحاسيسهم ولا يحدث رجفة وارتعادا في أرواحهم ونفوسهم ... وقد ورد ذكر الحجارة هنا على سبيل التمثيل ... لقد أوجد الله تعالى الكون بأسلوب يقدم العبرة والموعظة لمن أراد الإتعاظ والإعتبار من بني البشر ... فما من شيء في هذا الكون إلا ويضرب بلغة رمزية غير منطوقة مثالا عمليا لمرضات الرب التي تم عرضها وبيانها في القرآن بألفاظ وعبارات منطوقة ... وقد تناولت هذه الأية بالإشارة ثلاثة أمثال مما جعله الله تعالى في عالم الأحجار... 1- ما نشاهده على سفوح الجبال المرتفعة من عيون المياه وهي تسري في داخل الأحجار والصخور لتتخذ بعد أن يلتقي بعضها ببعض شكل الجداول والأنهار ... إنها تمثل صورة رمزية لذلك الإنسان الذي أخذت خشية الله من قلبه كل مأخذ فلا تلبث أن تتدفق وتنهمر من عينيه في صورة الدموع... 2- والمثل الثاني يصور الحجارة التي تبدو للوهلة الأولى ليست سوى صخرة غليظة صماء ... ولكنها تكشف بعد أن يقوم الإنسان بشقها وتحطيمها عن ذخيرة كبيرة من المياه الموجودة والمنسابة تحتها ... والأبار التي نتخذها هي عبارة عن اختراق أمثال هذه الصخور والجنادل ... فهذه الصورة الممثلة ترمز الى الإنسان الذي يبدو في بادئ الأمر وكأنه بعيدا عن الله ومقطوع الصلة به ... ولكن ما أن يمر عليه حدث يهز روحه ووجدانه هزا عنيفا إلا ويسعى نحو ربه على سيل من الدموع ... 3- والمثل الثالث من عالم الأحجار هو ما يسمى بالهبوط أو الإنزلاق الأرضي (land slide ) والذي يتمثل في انزلاق الجنادل والصخور من أعالي الجبال الى قاع الأرض ... وتلك صورة تمثيلية ترمز الى ذلك الإنسان الذي قد اتخذ موقفا غير صحيح في قضية ثارت بينه وبين إنسان آخر ... ثم عرض عليه بعد ذلك حكم الله في تلك القضية فما لبث بعد أن اتضح له الحكم الإلهي حتى انهار وخر ساقطا ... فلم يكن يرضى من قبل بالخضوع والإستسلام أمام الإنسان ... إلا أن قضية الإنسان عندما صارت قضية الله لم يتمالك نفسه حتى خر أمامه بكل تواضع وخضوع ...
من الأية 75 الى الأية 77 من سورة البقرة
إن من جملة العوامل التي يرجع إليها ما سجله التاريخ من سرعة معرفة أهل المدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمبادرة بتصديقه الفوري ... أنهم كانوا كثيرا ما يسمعون من جيرانهم اليهود أن نبيا هو آخر الأنبياء بعثة قد أظل زمانه ... وبناء على ذلك فإن مبعث النبي الخاتم بالنسبة لهم - أهل المدينة - كان نبأ مألوفا لا يدع لأية دهشة أو إستغراب ... ولقد كان مسلمو المدينة هؤلاء - بطبيعة الحال - على جانب كبير من حسن الظن والرجاء بأن اليهود أيضا سوف يبادرون لاتباع النبي والإنضواء تحت لوائه لأن أحاديثهم هي التي كانت الباعث الأولي الذي رغبهم في اعتناق الإسلام ... ومن هنا فقد كانوا يندفعون برغبة وحماس كبير لإبلاغ رسالة الله الى هؤلاء اليهود ودعوتهم للإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإنضمام الى طائفة أتباعه وأنصاره ... ولكن المسلمين أصيبوا بهزة نفسية عنيفة حين رأوا أن اليهود على عكس ما عقدوه عليهم من الأمل والرجاء هم غير مستعدين لتلبية دعوتهم والإستجابة الفعلية لها ... كما أنهم قاموا بعمل خطير آخر وهو أن الذين يضمرون الحقد والعناد والمكابرة ضد شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدأوا يثبطون المسلمين قائلين إن أمر هذا النبي لم يبلغ من اليقين والوثوق هذا المبلغ الذي زعمتموه ... ولو كان الأمر كذلك لسبقكم الى التصديق به علماء وأحبار بني إسرائيل لأنهم أكثر منكم علما ومعرفة بالكتب السماوية وأسرارها ... غير أن قبول شيء ما لا يتوقف أبدا على مجرد معرفة المرء بذلك الشيء بل يجب مع ذلك أن يكون المرء جادا تمام الجدية تجاه ذلك الشيء ... أما اليهود فقد انتهى بهم الأمر الى إدخال عدد لا يحصى من التغييرات فيما عندهم من الأسفار والكتب التي كانوا يعتقدون أنها كتب سماوية ... فكلما عثروا في ثنايا كتبهم المقدسة على شيء يخالف أهواءهم تأولوه على غير تأويله أو حرفوه عن مواضعه كي يتفق وما تهواه أنفسهم ... إنهم استتبعوا دينهم لمصالحهم الدنيوية التافهة ... فالذين تكشف أعمالهم وتصرفاتهم عن هذا النوع من إنعدام الجدية ترى كيف يرضون بالإعتراف بالحق حين يظهر خارج ذواتهم ... إن المرء إذا أراد أن يتخذ موقف الجحود والإنكار إزاء شيء ما فإنه مهما كان ذلك الشيء مبنيا على الحق يمكنه بأي حال أن يتعسف تأويلا يبرر به موقفه السلبي ... وهذا التأويل عندما يبرز في شكله النهائي يسمى " التحريف " ... والنتيجة الحتمية التي تترتب عن مثل هذا الموقف هي فقدان المرء تلقائيا الإحساس بمدى خطورة الأمر المتصل بالله ... فهو بعد أن يستمع الى بعض أحكام الله تعالى يبقى قانعا مطمئنا بما كان عليه سابقا معتمدا على أي تأويل لفظي يجعله خارج دائرة ذلك الحكم الإلهي ... أي أنه يتمتع بصفة إستثنائية ... فقد يدعي الإيمان بالله تعالى مع أن قسوته القلبية تجعله يتجاسر على ارتكاب أنواع من الأمور العظام ما لا يتجاسر على ارتكابه إلا من لا يؤمن بالله مطلقا والذي لا يعلم أن الله ربه بصير بكل أفعاله وتصرفاته وسميع لسائر أقواله وأحاديثه ...
من الأية 78 الى الأية 82 من سورة البقرة
الأماني ... هي ما كان قد وضعه أحبار اليهود من القصص والآساطير الخرافية حول دينهم ... والتي كانت بسبب بهرجتها الظاهرية وبريقها الخادع قد حظيت بقبول ورواج كبير بين عامة الناس ... وروي عن ابن عباس قوله : أنها أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد . ( البحر المحيط ) ... وكانت هذه الحكايات التي تنطوي على مزاعم وأقوال عزيت كذبا وافتراء الى شيوخهم وأنبياءهم السابقين توكد أن نار الجحيم ليست لليهود وانما هي لمن دونهم من الأمم والشعوب ... وأن بني إسرائيل هم أبناء الله وأحباءه ... وأن الدين الذي يؤمنون به هو دين يتمتع بخصائص ومواصفات طلسمية تجعل شيئا عاديا وبسيطا منه يكفي لخلاص المرء من نار جهنم وايصاله الى جنات النعيم ... وبالطبع فقد كانت تلك الوصفات المقدسة لأحراز النجاة الرخيصة تمتلك قوة جذب كبيرة للعوام الذين وجدوا فيها تصديقا وسندا لآمالهم الفارغة التي كانوا يعيشون على أساسها ... وتتلخص تلك الآمال في أن الوصول الى الجنة لا يستلزم بالضرورة أن يضعوا حدا لحياتهم المنحرفة والمتخلية عن كل التبعات والمسؤوليات ... فالبركات التي يحصلون عليها بالرقي والعزائم هي وحدها كفيلة بأن توصلهم الى الجنة بدون عمل ولا حساب ... ومن هنا فقد تلقى الناس علماء اليهود الذين كانوا يتغنون بمثل هذه الحكايات ويبشرون بها مسندينها الى الشيوخ بغاية من الحفاوة والتقدير ... إن عملهم على التخفيف من شدة أمر الآخرة وتهوينه على الناس هو بمثابة سلم الى تجارة دنيوية عظيمة الشأن جعل حشودا كبيرة من الناس تلتف حولهم وتنهال عليهم الهبات والنذور من كل صوب ... فعندما كانوا يدلون الناس مجانا على أقرب وأيسر الطرق المؤدية الى الجنة كافئهم الناس بذلك ووفروا لهم مجانا أيضا كل ما أمكن توفيره بجهدهم من عروض الدنيا ومتاعها !!!... ذلك هو الداء العضال الذي ما برح يصيب الأمم الأمينة على الكتاب الإلهي في كل الأزمنة والعصور ... إن الذين يمارسون حياتهم على أساس هذا النوع من الأحلام اللذيذة ... والذين يظنون أن ما ألقيت عليهم من الأعباء والمسؤوليات إنما ينحصر ذلك كله في إطار بضعة أعمال ومراسم شكلية فقط ... والذين تراودهم الأمنية الحالمة بأن جميع حقوقهم قد صارت محفوظة عند الله الى أبد الآبدين ... على أمثال هؤلاء القوم تكون الدعوة الى الدين الخالص أشق ما يكون ... فهم يرون أن ذلك يؤرقهم ويقض مضاجعهم وينغص عليهم طعم العيش ولذته ... لأن ذلك بلا ريب مما يرغمهم على المثول بين يدي حقائق الحياة وهي سافرة مكشوفة لا يحول دونها حائل.
الأية 83 من سورة البقرة
أول ما يجب على الإنسان نحو الله ربه هو أن يأخذ نفسه بعبادة الله تعالى وحده ولا يشرك به أحدا ... والواجب الثاني هو الإلتزام بحسن السلوك والمعاملة مع عباد الله أجمعين ... ويبتدئ هذا السلوك الحسن أول الأمر بإحسان الإنسان الى أبويه ثم يمر على الأقارب والجيران حتى ينتهي الى كل إنسان يصادفه ويتعامل معه في مختلف ميادين الحياة العملية ... فكلما ثارت قضية من قضايا الحياة بين إنسان وإنسان آخر فليس هناك إلا موقف سلوكي واحد يتحتم على الإنسان نفسه أن يتخذه تجاه أخيه ... وهذا الموقف هو الذي يكون مبنيا على مبدء العدل والنصح له بالمعروف ... لهذا يكون الإختبار الحقيقي للإنسان على مستوى " اليتامى والمساكين " أو بلفظ آخر على مستوى ‘‘ الضعفاء ’’ بصفة خاصة لأن قوة القوي في ذاتها كفيلة بدفع الناس الى التصرف الجميل معه... أما الضعيف فلا يجتمع له دافع إضافي كهذا مما يبعث الآخرين على الإحسان إليه ... ولذا فالموطن الذي أشد ما يكون الإنسان فيه مطالبا بالتزام السلوك الحسن هو حين يتم التعامل مع الضعفاء ... والحقيقة تبرز حيث ينعدم ويتلاشى كل شيء ولا يبقى هناك إلا الله ... إذ أنه لن يعامل مثل هذا الرجل معاملة جميلة إلا من كان يبتغي بذلك حقا وجه الله تعالى فلا يوجد هناك دافع آخر ما عدا أبتغاء وجه الله تعالى .. وحين يتم التعامل مع الرجل الضعيف قد تنطفئ عاطفة الإحسان إليه لعوامل شتى منها : أن الرجل الضعيف هو من يقدم إليه العطاء والمعونة ... الأمر الذي يجعل المعطي يشعر بشيء من الترفع وسمو الذات بالنظر الى الفرد الآخذ وهذه النفسية قد تحول دون مراعاة أنفة الضعيف وكرامته الشخصية ... كما أن الرجل الضعيف إذا لم يتلطف في السؤال أو لم يبالغ في إبداء حاجته على النحو الذي قد ينتظر منه عد فورا ممن لا يستحق العون والعطاء ... ويتجلى ذلك في مختلف صور الإيذاء النفسي أو المادي خلال التعامل معه ... فقد يقدم إليه العون مرة أو مرتين ... ثم يبدأ المعطي يفكر : ما أفعل حتى لا يصير هذا الرجل ملاصقا لي على الدوام ... ولذا يستثقل ظله وربما يتخذ أسلوبا غير شريف ولا مهذب في إبعاده والتخلص منه .. الخ. قول الخير هو خلاصة الأعمال وجوهرها على الإطلاق ... وإن كلمة نصح حقيقي لهي من أصعب الأشياء دوما على الإنسان ... فالمرء يلقي الخطب الرنانة بكل شغف وسخاء غير أنه أبخل ما يكون في النطق بكلمة واحدة جميلة عندما تكون تلك الكلمة تعني عمليا الإعتراف بإنسان آخر سواه ... وعندما يكون في الطرف المقابل رجلا ليس على جانب من القوة والعزة أو يأوي الى ركن شديد فهو عندئذ لا يرى نفسه في حاجة الى استخدام كلمات مهذبة كريمة في الحديث معه ... وإذا أساء إليه أحد ما أو أغضبه مرة فهو لا يرى من بأس في استثناءه من كل حكم إلهي بشأن رعاية مبدأ العدل والإنصاف في المعاملات البشرية جمعاء ...
من الأية 84 الى الأية 86 من سورة البقرة
كانت هناك ثلاث قبائل يهودية تقطن نواحي يثرب (المدينة القديمة) ... وهي بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع .. وكان هؤلاء جميعا يؤمنون بالشريعة الموسوية غير أن العصبية الجاهلية جعلتهم يفرقوا دينهم فكانوا شيعا وأحزابا مختلفة بعضها مع بعض ... ومن أجل الحفاظ على مصالحهم السياسية انضموا الى جيرانهم المشركين بالمدينة أنذاك قبيلتي الأوس والخزرج ... فانضوت بنو النظير وبنو قريظة تحت لواء الأوس بينما حالف بنو قينقاع الخزرج ... ونتيجة انقسامهم وفرقتهم على هذا النحو كانت تنشب بينهم الكثير من الحروب والمعارك الدامية ... ووقعة بعاث هي أحد تلك الحروب التي حدثة قبل الهجرة النبوية بخمسة أعوام ... فكان اليهود في هذه الحروب يقفون في جبهتين بانحياز كل منهما الى حلفائهم من المشركين وبالتالي كان اليهود من هذه الجبهة يقتلون أبناء دينهم من الجبهة الأخرى ويخرجونهم من ديارهم ... وبعد أن تضع الحرب أوزارها يقومون بمناشدة إخوانهم في الدين ويطلبون منهم التبرعات والمعونة المالية كي يفادوا من أسر من بني جلدتهم وينقذوهم من أيدي القبائل الوثنية ... إنهم مع مخالفتهم الحكم الإلهي فيما يتصل برعاية حرمة النفس والمال يتظاهرون بهذا النوع من التعاطف الكاذب مع من راح ضحية سياستهم العدوانية الظالمة كي يزعموا أنهم على جانب عظيم من التدين... إن هذا التصرف بمثابة أن يقتل رجلا بغير حق ثم تقام له صلاة الجنازة وفق الحكم الشرعي !.. ولما كانت أحكام الشريعة الأصلية والأساسية تفرض على المرء أن يتخلى عن الحياة الجاهلية كما أنها تخالف ما تميل إليه نفسه من الأهواء والشهوات وتضع كذلك حدا لسياسته العملية القائمة على المنافع الدنيوية وحدها ... فإن المرء بسبب ذلك لا يلقي الى هذه الأحكام بالا ولا يرضى أن يقيد نفسه بأعباء التدين الحقيقي ... لكنه ربما يتظاهر بإقامة بعض الطقوس والمراسم الشكلية العادية على مرأى ومسمع من الناس لكي يزعم أنه محافظة على دين الله متمسك بأهدابه ... إن هذه الصنيع هو بمثابة إعداد نسخة مصطنعة زائفة لدين الله ... إنه التغاضي وصرف النظر عن الجانب الأخروي للدين وإظهار بطولة التدين في العديد من تلك الجوانب الدينية التي تتمتع بشيء من التألق والظهور الدنيوي ... إن مثل هذا الإجتراء على الدين يجعل المرء مستحقا الغضب الإلهي وليس الإنعام الإلهي أبدا...
من الأية 87الى الأية 90 من سورة البقرة
التوراة هي كتاب الله المنزل على اليهود ... إلا أن التوراة فقدت اعتبارها بمضي الزمن وصارت شيئا مقدسا للتبرك أو الفخر القومي فحسب ... ومع أن اليهود مازالوا متمسكين بها كرمز للنجاة والمجد القومي إلا أنهم عزلوها عن مركزها الأصلي المتمثل في كونها " كتاب الإرشاد والهداية العملية في الحياة "... وقد بعث فيهم بين فترة وأخرى على إثر موسى عليه السلام الكثير من الأنبياء مثل النبي يوشع والنبي زكرياء والنبي يحي .. وغيرهم عليهم السلام وكان عيسى بن مريم عليه السلام هو خاتم أنبيائهم... وكان مجيء هؤلاء الأنبياء جميعا لأجل مهمة واحدة وهي نصح اليهود ووتحريضهم على ممارسة حياتهم العملية على أساس من تعاليم التوراة ... ولكنهم بالرغم من إيمانهم بقدسية التوراة لم يكن صوت أصعب احتمالا ولا أشد وطأة عليهم من هذا الصوت ... ولذ ما برحوا يكذبون أنبياء الله ويكفرون بهم حتى أنهم آخر الأمر أخذوا يقتلونهم ... وكان سبب ذلك هو أن الحياة التي كانوا يعيشونها باسم التوراة في حقيقة أمرها حياة مبنية على مجرد شهوات النفس ومنافع الدنيا إلا أنهم ألصقوا عليها رقعة تحمل اسم كتاب الله ... ومن هنا عندما كان أنبياء الله يقومون فيهم بمهمة الدعوة الى الحق النقي الخالص كانوا يتصورون أن هذه الدعوة تعمل على تجريدهم من إعتبارهم الديني وبالتالي انبعثت في نفوسهم نفسية الكبر والغرور مما جعلهم يتصدون للقضاء على وجود الأنبياء أنفسهم ناهيك عن تصديقهم والإستجابة لدعوتهم... وقد وقف اليهود في جزيرة العرب هذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فقد كانوا استنادا على ما ورد في كتبهم من صفة النبي الخاتم كثيرا ما يقولون للناس أنهم عندما يبعث " ذلك النبي " سينضووا تحت لوائه ويحققوا الغلبة والإنتصار على من يعاديهم من الكفار والمشركين ... إلا أن حديثهم هذا لم يتجاوز كونه خطابا كاذبا يرددونه لكي يزعموا أنهم أمناء الدين وحارسوه ... ولذلك وبعد أن ظهر " ذلك النبي " انكشف النقاب عن حقيقة حالهم حيث استبدت بهم العصبية الجاهلية وحالت دون اعترافهم بصدق نبي بعث في غيرهم ... وبما أنهم ظلوا عاجزين عن ابطال تلك الأدلة الواضحة التي كانت ترد في القرآن بين الفينة والأخرى لتؤكد صدق النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا يقولون إن قلوبنا في أكنة ... أي أننا لن نترك أبدا ذلك الدين الذي ورثناه عن آبائنا متأثرين بما تعرض علينا من زخرف القول وطلاوة البيان...