سماحة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور يرسم منهج الوعظ والخطابة الدينية كما بينه
"هجمت الحياة الغربية على بلاد الإسلام بالصناعة والثقافة والنظم الاجتماعية وطرائق الحكم والإدارة بعدما مني المسلمون بانحلال الوازع الديني وركود في الحضارة وجمود في الثقافة فكان لذلك اثر سيء على الحياة الدينية منذ اقبل المسلمون على الحياة الغربية يمارسون أوضاعها ويتأثرون بمذاهبها الفكرية والعلمية ويندفعون في السير عليها في أحكامهم ومعاملاتهم وآدابهم على ما في الكثير من ذلك من اختلاف عن أحكام دينهم الحنيف وبعد عما تجدهم به في المعاملات والآداب فتهافتوا على الحياة التي هجمت عليهم بلا هدى ولا كتاب منير لا يكادون يتبينون حكما شرعيا فيما يتعاطون ولا يلتزمون خلقا إسلاميا فيما يسلكون ولا يقيمون حدودا ما انزل الله فيما إليه يتحاكمون ولا ما به يحكمون حتى أصبحت سيرة الحياة متجافية عن مناهج الدين وصار الدين معزولا عما ينبغي له من سلطان على توجيه مسالك الحياة. فسادت بين المسلمين تلك الفتنة النفسية المنكرة التي أبعدتهم عن تطبيق الدين الذي به يؤمنون على أوضاع الحياة التي فيها يعيشون حتى أن كثيرا منهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصاروا هملا يسيمون في الحياة المادية كما تسيم الأنعام، وبقيت منهم قلة هي الأمثل حالا والأرجى للخير حافظت على الصلاة وتمسكت بكلمة الدين ما استطاعت وهي تلك القلة المباركة التي تغشى المساجد وتصغي إلى المواعظ وتستمع إلى التلاوة فتقشعر جلودها وتفيض عيونها وتتحرك في أنفاسها دواعي قوية للإنابة وحوافز بليغة للسير على ما يرضي الله ولكنها إذا فارقت المسجد ورجعت إلى الحياة الاجتماعية التي تحكمها المادة وتعبث بها الفتنة وتتخبطها الشهوة وجدت نفسها قاصرة عن أن تقوم المنحرفين وتهدي الضالين وتطمئن المفتونين إذ لا تكاد تعرف الطريق الذي يمكن لهداية المسجد التي ملأت نفوسها أن تصل منها إلى الحياة الاجتماعية حتى تنيرها وتصلحها. وكذلك تأخذ الفئة المرجوة للخير في الانطواء على نفسها والتراجع عن طريق دعوة الحق حتى تصبح عاجزة أمام جريان الفتنة المادية عن أن تستقيم هي بنفسها على طريق الهدى وأن تجنب نفسها مهاوي الفساد ومتاهات الضلال فتأخذ في الانزلاق شيئا فشيئا في صعيد الفتنة وقد فقدت القوة التي تثبت أقدامها ولم تجد فيما حولها ما تتوكأ عليه أو تتعلق به حتى لا تزل بها القدم في مزالق الندم. ومن هنا أدرك أهل النظر السديد من دعاة النهضة الإسلامية في أوائل هذا القرن (القرن العشرين) أن من اقرب المسائل واثبتها لبعث الإسلام معمولا به في الحياة ونشره مطبقا في أخلاق المسلمين ونظمهم ومعاملاتهم وسيلة الأخذ بيد الطائفة الخيرة التي بقيت تغشى المسجد وتستمع إلى الموعظة أخذا يثبت خطاها ويبصرها بمسالك الاتصال بين أحكام الدين ووقائع الحياة ويسدد سواعدها في حسن وضع الأحكام والآداب الدينية مواضعها من تلك المجاري وحسن توجيه تيارها إلى الانصباب في مهيع الشريعة اللاحب وسبيلها الواضح. وبذلك تتحرك المعاني الدينية التي في نفوسهم فتتولد منها عزائم العمل ويخرج الدين عن عزلته حتى يصبح ذا اثر فعال في إصلاحهم وإصلاح غيرهم ويصبحوا به مهتدين بالحق هداة إليه قائمين على الخير أدلة عليه. ذلك ما تداعى به أئمة الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي شرقا وغربا وعلى ذلك خططوا لإصلاح مناهج الخطابة الدينية وإعداد الخطيب لان يتولى بخطبته شؤون الحياة العملية بهدي الدين فكان الشيخ محمد رشيد رضا يدعو إلى إحياء الخطابة الدينية ويسعى لإنشاء دار الدعوة والإرشاد التي أوشكت أن تؤتي ثمارها لو لم تعالجها الغوائل والشيخ محمد الخضر حسين بحث على الخروج بالخطبة عن الأساليب التي عكف الخطباء عليها تقليدا في غير محل التقليد وإمام الجيل الشيخ سالم بو حاجب يضرب في خطبه المثل الأولى للصورة التي تطلع إليها المصلحون ويقضي على سبيله تلاميذه حتى شاعت هذه الدعوة في أصول التربية العلمية الإسلامية بجامع الزيتونة الأعظم في الربع الثاني من هذا القرن الهجري وتلك هي التربية التي أثمرت واعظا دينيا وخطيبا جمعيا آتاه الله من التوفيق في الخطابة والوعظ ما جعله بحمد الله مثالا ساميا في الدعوة إلى الله ومذكرا بارعا بما ينبغي أن يكون للدين عند المتمسكين به من تقويم للحياة العملية وتمكين لوسائل النجاح فيها. ذلك هو أخونا المفضال العالم المدرس الخطيب الشيخ محمد الجيلاني حمزة المهدوي كتبه الله في الهادين المهديين. فقد اخذ منذ أول ما تخرج من الكلية الزيتونية يعالج الخطابة الجمعية والمجالس التذكيرية الوعظية بروح حية يقظة وأسلوب حكيم بديع وبدا الناس شيبا وكهولا وشبانا يجدون في موعظته وتذكيره ما يقربهم من إدراك أسرار الدين ويصل بين أرواحهم وروح الحكمة الإسلامية ويرفع من أمام وجوههم الحواجز التي كانت تحول بينهم وبين مسالك إصلاح الدنيا بالدين أو كما قال الإمام الشاطبي: المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة التي إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ولقد كنت لما عملت على إنشاء شعبة الوعظ والإرشاد في الكلية الزيتونية وخططت مناهجها وتوليت طلبتها أنا وأصحابي الجلة شيوخ الكلية بالتعليم والتبصير والتدريب ألاحظ أن من الخطباء الفضلاء في بلادنا من يصلح لأن يتخذ لهم مثالا فكان الأخ الشيخ الجيلاني أول المبادرين إلى ذكري من هؤلاء لما كنت عرفت فيه من حكمة في تناول الموعظة الدينية على وجهها الصالح والمرجو حتى زفت إلي البشرى لأنه قد جمع طائفة من خطبه وهيأها للنشر ثم اكتملت عندي البهجة حين اطلعت على هذا السفر القيم الذي يضم خطبه النافعة فحمدت الله تعالى على النعمة التي أفاءها هذا الأخ الحميم ورجوت أن يكون لي منها نصيب من نوه بالخير وأثنى على فاعله فأعان على إيصال الخير إلى قلوب المؤمنين". تلك هي المقدمة الرائعة والبليغة التي كتبها سماحة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله لكتاب الإشراق الإسلامي لفضيلة الشيخ الجيلاني حمزة رحمه الله والتي أوردتها بكاملها تعميما للفائدة وتبيينا للمنهج القويم الذي درس به الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله قضية الوعظ والخطابة الدينية.