ترميم معلمي: الشيخ ابن أبي زيد القيرواني والإمام محمد بن عرفة تكريما لهما
تم الإعلان عن القيام بترميم المعلمين الدينيين اللذين يضمان رفاة كل من الشيخ عبد الله ابن أبي زيد القيرواني والإمام محمد بن عرفة رحمهما الله وأجزل مثوبتهما وجازاهما عن الأمة ودينها خير الجزاء. * علمان بارزان من أعلام تونس القيروان وتونس الزيتونة. وتونس العمق العلمي والثراء الفكري المتميز بخصوصيات هذه الربوع الطيبة (افريقية) التي فتحها وبلغ لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم رضوان الله لأهلها هذا الدين الحنيف كما تلقوه من صاحب الرسالة المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. وكان لعلماء تونس الأعلام القدم الراسخ في نشر العلم وتجذيره وإقامة الحجج العقلية عليه. كان ذلك في الأولين من هذه الصفوة الذين هم بحق نجوم في سماء تونس ظلت بهم محصنة ومشعة على ما وراءها في الغرب الإسلامي وإفريقيا ما وراء الصحراء، جعل هؤلاء من تونس في القيروان والمهدية وغيرها كعبة لطلاب العلم يأتون إليها من كل صوب وحدب. وكان من هؤلاء في الأولين أسد ابن الفرات والإمام سحنون وابنه محمد وأبو الحسن القابسي وعبد الله بن أبي زيد القيرواني الذي يلقب بمالك الصغير صاحب “الرسالة” أوسع كتب الفقه المالكي انتشارا وأكثرها قبولا ليس فقط عند المالكية حيثما كانوا ولكن -على الأقل في منهج التأليف لهذا الكتاب- عند كل المهتمين بالثقافة الإسلامية في مختلف مجالاتها وبالخصوص في مادة الفقه الميسر المدلل المعبر عن خاصية الشمولية في هذا الدين الخاتم... ولئن اشتهر لابن أبي زيد كتاب الرسالة إلا أن له مؤلفات ظلت لقرون طويلة لا تصل إليها أيدي الدارسين والباحثين إلى أن تكفل بتحقيقها وإخراجها للناس ثلة من الباحثين بعضهم من تونس والبعض الآخر من المغرب وحتى من خارج العالمين العربي والإسلامي (ولابن أبي زيد موسوعة فقهية تحمل عنوان: النوادر والزيادات) أصدرتها في السنوات الأخيرة دار الغرب الإسلامي لصاحبها الحاج الحبيب اللمسي وغيرها من النفائس التي دلت الدلالة القطعية أن ابن أبي زيد هو بحق مالك الصغير، وهو علامة جليل وان آثاره التي تدل عليه هي خير ما تفاخر به هذه الربوع وخير ما تقدمه للأمة الإسلامية جمعاء من هدي قويم يشفي الغليل وتطمئن به قلوب المؤمنين اطمئنانا تنتفي معه كل فتنة وفرقة وتعصب وتطرف ولا ترتضي بغير هدي الإسلام السليم القويم بديلا. * فابن أبي زيد القيرواني هو في هذا المجال احد اكبر رواد المدرسة الفقهية المالكية التونسية، بل هو المؤسس والمبلور لخصوصياتها المتميزة، ولأن الرجل مثله مثل كل علماء الأمة الصادقين قد اخلص لله قصده في ما كتبه وبثه بين الناس في حياته فقد كتب الله دائم الذكر ولآثاره أن تنتشر حيثما رحلت وسافرت في ديار الإسلام وخارجها. * أما الإمام محمد بن عرفة رحمه الله فحدث عن رسوخ قدمه وعلو همته وتفانيه في تحصيل العلوم ولا حرج، لقد طلب للعلم وسهر الليالي لم يعرف الكلل والملل، يؤثر عنه أن زوجته سألته ذات مرة: لماذا لا تنام؟ فأجابها كيف أنام وأنا بين أسدين الأبي بنقله والبرزلي بعقله؟، انه درس يعطيه ابن عرفة لكل من يظن انه بلغ إلى درجة من العلم ليس في حاجة معها إلى المزيد وغير ملتزم بالهدي الإلهي الذي يقول (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (وقل رب زدني علما) إذ (فوق كي ذي علم عليم)، ذلك هو الإمام ابن عرفة صاحب (الحدود) تلك التعريفات الدقيقة التي انكب على شرحها وبيانها العلماء قديما وحديثا، وصاحب المختصر الذي لم يكتب له بعد التحقيق والنشر، وصاحب التفسير الذي اتخذ أجزاء منه بعض طلبة الدراسات العليا في الجامعة مواضيع لأطروحاتهم ولم يشهد الطبع إلا الجزء الذي حققه الأستاذ حسن المناعي ونشرته له الكلية الزيتونية. * وقد اعتنى العلماء قديما وحديثا بابن عرفة واعد حوله الأستاذ سعد غراب رحمه الله أطروحة في جامعة “السوربون” فضلا عن نشره في سلسلة (موافقات) بعض أبحاثه حول ابن عرفة. لقد كان ابن عرفة عالما جليلا وكان إماما لمدة خمسين سنة كاملة لجامع الزيتونة المعمور وكان أيضا رجلا صالحا سالكا فقد كان والده رحمه الله وهو مجاور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يناول العصا لإمام المسجد النبوي الشريف ويطلب منه الدعاء لابنه محمد بن عرفة واستجاب الله لهذا الدعاء فكان ابن عرفة في عصره إمام المذهب وشيخ الجماعة سلم له بذلك من أحبه وكذلك من حسده (وقديما كان في الناس الحسد). وقيّد ابن عرفة نعمة الله عليه بالشكر فنفع الأمة بعلمه وألزم نفسه الإخلاص فكان يستلهم من الله التوفيق والسداد والفتح لما استغلق عليه وكان يؤثر عليه المواظبة على زيارة المغارة الشاذلية حيث يعتكف فيها لله وجازاه ربّه أحسن الجزاء فرفع ذكره وأعلى مقامه، ولأن الرجل يعمل بالأثر القائل (من رزق من باب لزمه) فظلّ للمغارة من المراودين وبحلقاتها القرآنية المشعة من المنتفعين سواء كان ذلك في قائم حياته أو كان ذلك بعد وفاته ببركة دعاء الختم الذي يتلى حاليا عند الانتهاء من كل سلكة للقرآن هو من صياغة هذا العالم الجليل الذي لا شك أن قبره القريب من المغارة ينور كل مرة يدعى فيها بدعائه اللطيف المبارك وهذان المعلمان وغيرهما يقصدان للزيارة ترحما وتبركا من طرف تونسيين ومن طرف أشقائهم من العلماء الكبار من مختلف البلاد العربية والإسلامية وسيجد هؤلاء هذين المعلمين في هيئة جميلة تليق بمنزلتهما.