الهادي سعيّد رحمه الله القاضي الذي جمع بين الخلق الرضي والإشعاع العلمي
هكذا يتوالى رحيل الأحبة الواحد تلو الآخر وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، هكذا يمضي العديد منهم على عجل وسراعا تاركين أسى ولوعة شديدين لدى كل من يعرف فضلهم ويقدر علمهم، هكذا وجدتني ينتابني شعور من الحزن الشديد عندما بلغ إلى مسامعي نعي الأستاذ الجليل والحقوقي الضليع الرئيس الأول الشرفي لمحكمة التعقيب القاضي الفاضل الهادي سعيّد رحمه الله واسكنه فراديس جنانه. انه احد ثلاثة قضاة كبار عرفتهم من قرب وتشرفت أكثر من مرة بالجلوس إليهم والاستفادة منهم وشرفوني بمعية الأستاذ الصديق المحامي عبد الله بوبكر شفاه الله وعافاه بزيارة منزل الشيخ الوالد بضاحية مقرين، إنهم الأستاذ الفاضل الشيخ القاضي عبد العزيز الزغلامي والقاضي الفاضل محمد صالح العياري والقاضي الفاضل الهادي سعيّد رحمهم الله رحمة واسعة فلقد جمعوا إلى العلم الغزير والفهم الدقيق والقلم السيال الخلق الرضي والتواضع الجم والحب الصادق ولست أنا فقط من يشهد لهم بذلك وإنما يقر بما ذكرت من الخصال والخلال الرفيعة التي تحلوا بها العدد الكبير ممن عرفوهم وزاملوهم وتعاملوا معهم سواء كان ذلك في إطار القضاء بمختلف مراتبه وجهات انتصابه أو في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، والسنة الخلق أقلام البارئ. عرفت الأستاذ الهادي سعيّد رحمه الله في مقرين تلك الضاحية الجميلة الهادئة التي يطيب فيها العيش وتربط بين متساكنيها وشيجة المحبة حتى لكأنهم أسرة واحدة، وهم كذلك يغلب عليهم الحياء ويتبادلون الاحترام والتقدير ويجتمعون للأفراح والأتراح، لكأنهم أعضاء جسد واحد، قيم أصيلة أصبحت في هذا الزمن الصعب عزيزة ومع ذلك فقد ظل الحرص من طرف الجميع على تعزيزها كلما سنحت الفرص بذلك. اذكر أنني شاهدت الأستاذ الهادي سعيّد رحمه الله يجهش بالبكاء وهو يتسلم شهادة تقدير وهدية تذكارية اعترافا من أبناء مقرين بأفضاله وتقديرا منهم لعلمه ولما أسداه للمجموعة الوطنية من خلال مختلف المراكز التي تحمل فيها رفيع المسؤوليات القضائية والإدارية والتعليمية وما مثل به ارفع تمثيل البلاد التونسية في المحافل الدولة والهيآت الأممية والإقليمية، كانت عبرات الأستاذ الهادي سعيّد رحمه الله ابلغ من كل خطاب وأفصح من كل بيان، إنها التلقائية والصدق والعفوية ولم يزد رحمه الله عن أن قال: شكرا لكم لقد ذكرتمونا عندما كاد أن ينسانا الجميع!! ذلك هو الهادي سعيّد رحمه الله الصديق والزميل الملازم في كل الأحوال، في العمل وخارجه لصنوه وشبيهه الأستاذ محمد صالح العياري رحمه الله، لقد سكنا معا إلى أن غادر كل منهما هذه الحياة إلى الدار الباقية منطقة مقرين سيدي رزيق وكنت أراهما يكاد يكون كل أسبوع في الجامع الكبير بمقرين العليا الذي توليت الإمامة والخطابة فيه منذ سنة 1975 خلفا للشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله وأجزل مثوبته، كانا رحمهما الله يخرجان على عجل من مقر عملهما ليدركا صلاة الجمعة بخطبتيها وينتحي كل منهما ناحية من المسجد لينصت باهتمام وتفاعل غير متكلف لما يلقى على مسامعهما مما اعتقد انه غير مجهول بالنسبة إليهما وهما من هما علما وتحصيلا وفطنة ولكنه تواضع العلماء الذي لا يزيدهم إلا رفعة، وكم كنت اشعر بالاعتزاز المصحوب بالتهيب عندما يختار أمثال الهادي سعيّد ومحمد صالح العياري والهادي حمو رحمهم الله وعبد الكريم المراق واحمد العربي ومحي الدين قادي وعبد الله بوبكر وغيرهم الصلاة في جامع مقرين وكنت انتظر وعقب كل خطبة جمعة القيها تصحيحا يصوب خطأ أو تعليقا يلفت انتابها فما كانوا يزيدون على الشكر والدعاء بدوام التوفيق جازاهم الله خيرا عن حسن ظنهم بي. إن الهادي سعيّد رحمه الله الذي اعبر عن هذه المشاعر نحوه رجل من كبار رجالات تونس وقاض من كبار قضاتها ذاع صيته فتجاوز الحدود القريبة والبعيدة وتدرج في تعليمه من الابتدائي ببني خيار مسقط رأسه إلى الصادقية إلى المدرسة العليا للحقوق وقد أحرز على الإجازة في الحقوق التونسية والشهادة العليا للغة والآداب العربية. بدا حياته الوظيفية سنة 1942 مترجما منشئا بالمحكمة العقارية ودخل سلك القضاء سنة 1947 وعمل في عدة جهات من البلاد التونسية وهكذا تدرج في المسؤوليات والخطط القضائية إلى أن أصبح رئيسا أولا لمحكمة التعقيب وانتخب أمينا عاما ثم رئيسا لودادية القضاة كما انتخب رئيسا للاتحاد العالمي للقضاة، شارك في العديد من المؤتمرات والندوات والاجتماعات الإقليمية والدولية وكانت مشاركاته متميزة وظل رحمه الله إلى آخر أيام حياته وبعد أن ترك الوظيفة يعطي العطاء العلمي العميق تشهد على ذلك أبحاثه ودراساته المختصة التي أثرى بها المكتبة القانونية وقد جمع بعض هذه الأعمال في سفر يقع في خمسمائة صفحة لا شك انه مرجع لا غنى عنه للباحثين والدارسين الجامعيين والعاملين في مختلف درجات واختصاصات المنظومة القضائية، لقد كتب الهادي سعيّد رحمه الله عن أصل حق الملكية وتطوره والنظام العقاري والمحكمة العقارية ومقاصد التسجيل العقاري والنظام التونسي في التسجيل العقاري والقضاء الفردي وتطوره والمسؤولية الجزائية في تونس ودور أجهزة العدالة الجنائية في الوقاية من الجرائم الناجمة عن النمو الاقتصادي وطرق التنسيق بين الجهات المعنية في مكافحة الجرائم والرذائل ومقاومة التيارات الهدامة وذلك من خلال أنظمة الجوازات والهجرة والسياحة، والشريعة والعقاب، وما يضمنه القانون التونسي للمتهم في مستوى التتبع، وخواطر حول المخدرات والتشريع التونسي وحقوق الطفل والمحيط بتونس تشريعا وفقه قضاء، نظرة في مجلة التحكيم الجديدة. تلك بعض عناوين أبحاث كتبها الأستاذ الهادي سعيّد رحمه الله وهي مجرد عينة تدل على رسوخه وتضلعه في المجالات القانونية والتشريعية بمختلف تشعباتها ومواكبته للمستجدات فيها وهي لاشك رصيد علمي سيخلد ذكره ويعظم به مع مر الأيام أجره وثوابه./.