السماحة والتسامح في الإسلام بين النظرية والممارسة (القسم الثاني)
الفتوحات الإسلامية: سماحة ورفق: كما أن حركة الفتح والجهاد وإبلاغ رسالة الإسلام التي أرسل بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة حكمتها ضوابط جنبتها كل زيغ أو إنحراف فقد أعلن الإسلام الحرية الدينية وحرم الإكراه على الدخول في دين الإسلام وقد خوطب بهذه الأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده يقول جل من قائل: “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”؟! “فإن اعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ” الشورى48 “فهل على الرسل إلا البلاغ المبين” النحل35 “لا إكراه في الدين” البقرة256 “انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء” “لكم دينكم ولي دين”ولقد عرض الفاتحون على الشعوب: إما الدخول في الإسلام ولهم ما لنا وعليهم ما علينا أو البقاء على أديانهم ودفع الجزية لبيت مال المسلمين على غرار ما يدفعه المسلمون من زكاة. أو القتال في ساحات القتال قتالا شريفا لم تعرف له البشرية نظيرا في السماحة وحسن المعاملة وعدم الظلم والغدر والعدوان.ذلك ما جسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل غزواته وفي فتح مكة عندما أعلن عليه الصلاة والسلام العفو عن قريش قائلا لهم “اذهبوا فانتم الطلقاء” لقد دخل عليه الصلاة والسلام مسبحا ومستغفرا مطاطا رأسه وعلى منواله سار من بعده خلفاؤه رضي الله عنهم فهذا أبو بكر رضي الله عنه يودع الجيش الخارج للفتح بقيادة أسامة بن زيد يقول: "يا أيها الناس قفوا أوصيكم بوصايا أحفظوها عنى لا تخونوا ولا تغلوا (الأغلال: الخيانة والسرقة الخفية) ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا نخلا (قطع رأسها) ولا تقطعوا شجرا مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له“وعندما فتح المسلمون بيت المقدس سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رضي الله عنه ليشهد هذا الحدث بنفسه في تلك الأرض المباركة وقد أعطى أهل إيليا أمانا.”أعطاهم أمانا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم".وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين. وشهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمان ابن عوف ومعاوية ابن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشره. وقد أدركت الصلاة في هذه الرحلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رضي الله عنه وهو في إحدى الكنائس وقد هم بالصلاة ولكنه تراجع مخافة أن يتخذ المسلمون من بعده عمله ذريعة لافتكاك كنائس النصاري وليس ذلك من دين الإسلام. ومضى عمر رضي الله عنه في هذا النهج من السماحة يلتزم بها في كل تصرفاته ومعاملاته مع أهل الذمة من أهل الكتاب ويكتب بذلك إلى ولاته فها هو ذا يكتب لسعد ابن وقاص. “ونحّ منازلهم وجنودك عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه فلا يرزأ أحد من أهلها شيئا فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها”. ويروي أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رضي الله عنه مر على قوم قد أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام فقال: وما شأن هؤلاء؟ فقيل له: إنهم أقيموا في الجزية فكره ذلك وقال “هم وما يعتذرون به قالوا” يقولون لا نجد قال: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ثم أمر بهم فخلي سبيلهم. وحدث أن مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسال وكان شيخا ضرير البصر فضرب عمر عضده وقال له: من أي أهل الكتب أنت؟ فقال: يهوديقال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن فاخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده ثم أرسل به إلى خازن بيت المال وقال له انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين والفقراء هم فقراء المسلمين وهذا من المساكين من أهل الكتاب ثم وضع عنه الجزية. وروى يحي بن آدم في كتاب الخراج: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما تدانى اجله أوصى من بعده وهو على فراش الموت بقوله: “أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا وان يوفي لهم بعهدهم وان يقاتل من ورائهم وان لا يكلفهم فوق طاقتهم” وهذا هو النهج الذي سار عليه كل الولاة والأمراء فهذا عمرو بن العاص يبرم معاهدة مع أهل مصر “هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم” وقد صالح عبد الله بن أبي سرح ملك النوبة وتقرر بينهما في الصلح أمان وهدنة جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة. واخذ النوبيون على أنفسهم العهد بحماية من نزل ببلدهم أو طلاقه من مسلم أو معاهد. وقد تقرر أن أهل الذمة إذا أخذت منهم الجزية فلا شيء عليهم جاء في بدائع الصنائع “إن قبول الجزية تثبت معه عصمة الأنفس والأموال”. كما قرر الفقهاء (أن يضمن المسلم قيمة خمره الذمي) وخنزيره إذا أتلفه وعموما فإنه يجب كف الأذى عن الذمي وتحرم غيبته كالمسلم وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإمام الحسن البصري مستفتيا: ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هو عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير؟ فأجاب الحسن البصري: إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدون وإنما أنت متبع لا مبتدع والسلام. وقد شهد بهذه المعاملة السمحة لأهل الذمة من طرف المسلمين العديد من الباحثين الدارسين الغربيين نذكر منهم السير توماس أرنولد صاحب كتاب الدعوة إلى الإسلام والمستشرقة الايطالية لورا فاغليري في كتابها دفاع عن الإسلام. يقول توماس أرنولد “تحول البدو المسيحيون إلى الإسلام بالتسامح” “إن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة وان العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على التسامح” ص70 * "ففي مصر لم يقع يد عمرو بن العاص على شيء من ممتلكات الكنائس ولم يرتكب عملا من أعمال السلب والنهب. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتدادهم عن دينهم القديم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعا إلى الاضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم المدنيين بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح" الدعوة إلى الإسلام ص175. ويذكر دوزي تسامح العرب في اسبانيا فيعتبره مظهرا لرحمة الفاتحين ويسر الضرائب التي فرضت والتي كانوا يدفعون أضعافها مضاعفة" الدعوة إلى الإسلام 175. وفي السند “أعطى الأمان للصناع والتجار وعوام الناس وتركوا بعضا من أسراهم وتشكلت محكمة لرد المظالم ثم نودي على العوام المتضررين بالحرب والذين نهبت أموالهم أثناء القتال من عوام الناس والصناع والتجار والكسبة الصغار وتقرر إعطاء كل منهم اثني عشر درهما ثم أعطيت الحرية الدينية لسكان المدن التي فتحت” فتح السند أبو المظفر. وفي القسطنطينية فإن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الفاتح بعد سقوط القسطنطينية وإعادة إقرار النظام أن يضمن ولاء المسيحين فحرم اضطهاد المسيحين تحريما قاطعا ومنح البطريق الجديد مرسوما يضمن له ولأتباعه ولمرؤوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة والموارد و الهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق“الدعوة إلى الإسلام ص170 و171.”ولقد لقي الفاتحون في بقاع كثيرة من المملكة البيزنطية ترحيبا من جانب الإغريق فقد عدوهم مخلّصين لهم من الحكم المستبدّ، حكم الفرنجة وأهل البندقية وقد صيروا الشعب في حالة من العبودية يرثى لها"(1) الدعوة إلى الإسلام ص172. وقد أورد البلاذري في فتوح البلدان نصا يشبه ما أورده صاحب كتاب الدعوة إلى الإسلام “وقال أهل حمص يا معشر المسلمين انتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم أي الروم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا” فتوح البلدان للبلاذري ص137. وهذه شهادة المستشرقة الايطالية لورا فاغليري في كتابها دفاع عن الإسلام. "إن الحكمة الإلهية التي اقتضت أن يكون محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وسجلت إلى الآن رسالة عامة إلى الناس أجمعين بغير تمييز بين جنس وجنس. لقد كان محمد كثير التسامح وبخاصة مع أهل الكتاب كما انه اخذ غير المسلمين بالكثير من الصبر والأناة لأنه كان يتوقع هدايتهم مع الزمن وكما كان النبي يعقد المعاهدات مع خصومه المغلوبين على أمرهم فكذلك فعل خلفاؤه. ولما كانت تعاليم النبي وخلفاؤه الأوائل تعتبر بمثابة قانون للمسلمين فإنه يمكن القول بحق أن الإسلام لم يقتصر على التوصية بالتسامح بل انه قد ادمجها في قانونه السماوي بحيث صارت قاعدة أصيلة من أصول الدين. ولقد كان محمد (كرسول يدعو إلى الله) رجلا رحيما لين الجانب حتى مع أعدائه الشخصيين وبذلك اجتمعت فيه فضيلتان كلتاهما اكبر الفضائل التي يصبو لها العقل البشري وهما الرحمة والعدالة. وتقول في رسالتها: أما المرأة فقد أعطاها الإسلام حقوقا وكرمها تكريما وإذ كانت المرأة في أوروبا بلغت شأوا في السنين الأخيرة فإن مركزها قانونيا كان إلى وقت قريب في كثير من البلاد أقل استقلالا من مركز المرأة المسلمة في العالم الإسلامي. فإن المرأة المسلمة فضلا عن تمتعها بحق مشاركة إخوتها في الميراث ولو بنسبة أقل وعدم زواجها بغير رضاها وعدم إكراهها على معاشرة زوج يسيء معاملتها فإن لها الحق في قبض مهرها من زوجها وان يقوم الزوج بالإنفاق عليها حتى ولو كانت موسرة وان تتمتع بكامل استقلالها وحريتها في داره بممتلكاتها...(2) سنظل مصرين على تجسيم السماحة مع الآخرين: إن النصوص الموثقة التي أوردناها والحوادث التي ذكرناها وشهادات الإنصاف التي أتينا بالبعض منها تجعل المسلمين يمضون أوفياء لخصوصياتهم التي هي من صميم هدي دينهم لن تثنيهم الأصوات الناعقة المشعلة لنيران الحرب والمعلنة لحتمية صدام الحضارات من مثل ما ورد في مقال صمويل هنتنجتون الذي كتبه في صائفة 1993 في مجلة (الفورين إفايرز) حيث يقول (سوف يتمحور الانقسام الأساسي داخل المجموعة البشرية حول العوامل الثقافية التي ستصبح المصدر الرئيسي للصدام، فصدام الحضارات حسب رأيه سيحتل مركز الصدارة من السياسة العالمية، وهذا الصدام حسب رأيه سيكون بين الحضارة الغربية من ناحية والحضارات الأخرى وبالخصوص الحضارتين الإسلامية والكنفوشيوسية، إن خطورة هذه الآراء إنما يتمثل في تزامنها مع نهاية الحرب الباردة وبروز فكرة النظام العالمي الجديد وفكرة نهاية التاريخ التي أعلنها فوكايوما ولذلك فإن صمويل هنتنجتون يدعو إلى الدخول فعليا في هذا الصدام واستغلال الخلافات والصراعات بين الدول الإسلامية ومساندة الجماعات الموالية للغرب والمتعاطفة مع قيمه ومصالحه، إنه دق لطبول الحرب وإذكاء لنار الفتنة وإحياء لأحقاد نعتقد انه في الإمكان إذا ما توفرت النوايا الطيبة أن نتجاوزها ونحل محلها مشاعر ود وحب بين مختلف الشعوب والأمم. لعله حلم اقرب إلى الشعر والخيال منه إلى الواقع ولكن دعونا نتخيل الأمن والوئام والحب والسلام دعونا نقول مع أمير الشعراء احمد شوقي وهو يحي ذكرى إنشاء جمعيتي الصليب والهلال: جبريل أنت هدى السماء * وأنـت برهـان العنايـة ابسـط جناحيـك الذيـن * هما الطهـارة والهدايـة لم بخلق الرحمـان أكثـر * منهمـا فـي البرّ رأيـه الأحمران عن الدم الغالي * وحـرمـتـه كـنـايـه الـغـاديـان لـنـجـدة * الرائحـان إلـى الوقايـة يقفـان في جنب الدمـاء * كالعذر في جنب الجنايـة لـو خيمـا في كربـلاء * لم يمنع السبط السقايـة أو أدركـا يوم المسيـح * لعـاونـاه على النكايـة دعونا نردد مع الشاعر المارتينيكي ايمي سيزار إن عمل الإنسان ما زال في بدايته فما زال عليه أن يقهر كل هذا العنف الكامن في طيات شهواته فليس بمقدور جنس واحد احتكار الجمال أو الذكاء أو القوة وهناك متسع للجميع في ملتقى النصر(3) اليونسكو ونشر ثقافة التسامح: ولعل هذا هو الذي تحاول القيام به مؤسسات دولية وشخصيات معروفة بجهودها في ميدان نشر ثقافة السلام والتسامح حيث أصدرت إعلان مبادئ الثمانية والعشرين بتاريخ 16 في نوفمبر 1995 نورد منه بعض الفقرات: إننا إذ نعقد العزم على اتخاذ كل التدابير الايجابية اللازمة لتعزيز التسامح في مجتمعاتنا لان التسامح ليس مبدأ يعتز به فحسب ولكنه أيضا ضروري للسلام وللتقدم الاقتصادي والاجتماعي لكل الشعوب وتحقيق لهذا الغرض نعلن ما يلي: إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد انه الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا والتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام ويسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.إن التسامح لا يعني المساومة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شيء اتخاذ موقف ايجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الإنسانية المعترف بها عالميا ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول. (1) انظر الصفحات 59، 60، 61، 62 من كتاب تسامح الإسلام وتعصب خصومه للدكتور شوقي أبو خليل. (2)انظر: الصفحة 106 من كتاب دفاع عن الإسلام للكاتبة الايطالية لورا فيثيافاغيلري. (3) انظر: الكرمل العدد53 الصفحة63.