التصوف عند اهل العلم من سيدي عبد القادر الجيلاني إلى الامير عبد القادر الجزائري
بسم الله الرحمان الرحيم وصل اللهم على من منه انشقت الاسرار وانفلقت الانوار وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فاعجز الخلائق وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة وحياض الجبروت بفيض انواره متدفقة ولا شيء إلا وهو به منوط اذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط صلاة تليق بك منك إليك كما هو اهله ونسالك اللهم ايمانا يصلح للعرض عليك وايقانا نقف به في القيامة بين يديك وعصمة تنقذنا بها من ورطات الذنوب ورحمة تطهرنا بها من دنس العيوب وعلما نفقه به اوامرك ونواهيك وفهما نعلم به كيف نناجيك واجعلنا في الدنيا والآخرة من اهل ولايتك واملا قلوبنا بنور معرفتك. وبعد فالشكر واجب للجزائر وولاة امرها وللاتحاد الوطني للزوايا الجزائرية الذي دعا إلى هذا الملتقى الدولي الثاني الموسوم: بالتصوف عند اهل العلم من سيدي عبد القادر الجيلاني إلى الامير عبد القادري الجزائري ولا غرابة في الامر فارض الجزائر من اقصاها إلى ادناها ارتوت بدماء الشهداء الابرار والزوايا ظلت عامرة برهبان الليل وفرسان النهار في تلازم بين الجهاد والمجاهدة: جهاد افضى إلى تحرير البلاد من ربقة الاستعمار الغاشم ومجاهدة ركيزتها الاساسية المحافظة على خصوصية هذا الجناح الغربي للعالم الاسلامي التي عبر عنها ادق تعبير ابن عاشر رحمه الله في متنه المبارك حين قال (في عقد الاشعري ووفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك). * والتصوف عند اهل العلم من سيدي عبد القادر الجيلاني إلى الامير عبد القادر الجزائري محور هذا الملتقى الدولي الثاني هو قضية الساعة بحق ولكان الداعين ارادوامن مجمعنا العلمي هذا أن يجيب عن اسئلة محددة هي اولا ما هي الاسس الشرعية للتصوف؟ وما مدى تطابقه مع اصول الدين واسسه؟ ثم ما هو موقف علماء الامة من السلف الصالح من التصوف؟ واي دور للتصوف اليوم خصوصا في هذه المرحلة من تاريخ البشرية التي تشهد ازمة اخلاقية وروحية تبدو واضحة جلية انقلبت فيها الموازين وانتهكت المواثيق والقيم واستبيحت الحرمات وسفكت الدماء واصبح الانسان الذي استخلفه الله في الارض ليعمرها ويعبد فيها ربه عدوا لدودا لنفسه ولاخيه الانسان. ودعنا ننطلق من التساؤل الاخير لنقول انه ومنذ منتصف القرن الماضي تعالت اصوات الكثير من المفكرين محذرة ومنبهة من طغيان المادية ومخاطرها الجسيمة على مصير الانسانية فقد قال اندري مالرو (إن القرن الحادي والعشرين إما أن يكون غيبيا روحيا أو لا يكون) في رد على من قالوا إن شمس الاديان قد غربت بعد أن قالوا قبل ذلك انها افيون وفعلا فقد شهدنا في العقود الاخيرة اهتماما بالدين وعودة إليه لم تقتصر على عامة الناس من مختلف الفئات بل تجاوزتهم إلى فلاسفة ومفكرين ودارسين لا يمكن اتهامهم بالسطحية من امثال رني قنون وميشال فالسان وماري شميل وروجي قارودي وشارل اندري جيليس ودنيس قريل ودومينك بنو وميشال باربو وايريك جوفروا وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم فلقد شدتهم روحانية الاسلام القوية وبهرت عقولهم وغمرت ارواحهم وقضى كثير منهم اعمارهم منكبين على آثار واعمال كبار رجال التصوف وشيوخه من امثال الإمام الغزالي والشيخ الاكبر محي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والامير عبد القادر والشيخ احمد العلاوي ولهؤلاء وغيرهم من شيوخ التصوف والتربية الروحية تلاميذ ومريدون هناك في اروبا والامريكتين وحول اعمالهم العلمية وتجاربهم الصوفية تعد الاطروحات الجامعية وتعقد الندوات العلمية، لقد اكتشفوا فيهم ولديهم ما يبحثون عنه ويحتاجون إليه مما يحقق للانسان توازنه الذي كاد يفقده وسعادته التي كاد يياس من بلوغها. إن ذلك هو ما تحتاج إليه كل المجتمعات البشرية التي ارهقتها المادية المجحفة التي لا خلاق لها والتي لم يقتصر طغيان مخاطرها على المجتمعات الغربية بل تجاوزتها إلى كل المجتمعات التي سارت على نهجها: اختيارا أو مكرهة، فالازمة الاخلاقية والاجتماعية والروحية في عصر العولمة وزوال الحدود حيث اصبح العالم قرية عمت الجميع وبدون استثناء بما في ذلك البلدان الإسلامية وما نراه على امتداد الساحة الإسلامية من هرج ومرج وفووضى واضطراب بلغ درجة الاقتتال وسفك الدماء وقتل الابرياء ليس إلا نتيجة لفراغ روحي واضطراب نفسي وانقطاع للسند العلمي الذي ظل لقرون طويلة صمام امان يتمثل في ورثة الانبياء من علماء الامة الاعلام الذين كانوا نجوما في سماء الاسلام ينيرون الظلام وينقذون من الضلال ويدعون إلى الله على بصيرة، انهم العلماء الربانيون اهل الله العارفون الذين جمعوا بين الشريعة التي كانوا فيها متبحرين ومجتهدين والحقيقة التي كانوا لها سالكين ومجرد استعراض عناوين مؤلفاتهم يكفي للبرهنة والدلالة على انهم رضي الله عنهم جمعوا بين العلم والعمل الخالص لوجه الله وذلك ما خلد ذكرهم، إن عناوين مصنفاتهم فضلا عن مضامينها دليل على تصوفهم وسلوكهم: انها احياء علوم الدين وقوت القلوب ورياض الصالحين ومدارح السالكين والتحرير والتنوير وغيرها وغيرها تلك هي العناوين فما بالك بمضامين تلك التآليف التي يصدق فيها قول سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام لما حضر مجلس سيدي ابي الحسن الشاذلي: اسمعوا هذا الكلام القريب العهد من الله لقد سار على نهج السلف الصالح علماء الامة على تعاقب اجيالهم وهو نهج قويم سليم تتكامل فيه الشريعة مع الحقيقة في تلازم لا ينفك ولا ينبغي له امتثالا لقوله جل من قائل (اتقوا الله ويعلمكم الله) لقد اراد بهم ربهم خيرا ففقههم في الدين ففهموه حق الفهم وعبر عن ذلك من قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي/ فارشدني إلى ترك المعاصي/ قال لي علم الله نور/ ونور الله لا يهدي لعاص. * ولم يكن شيوخ الزيتونة والازهر والقرويين والمعاهد والحواضر والمحاضر يستنكفون أو يستكبرون عن الانخراط في سلك المريدين لمشائخ التربية والسلوك بل يعلنون ذلك ويعتزون في درس عملي وقدوة واسوة لعامة الأمة كي يجمعوا إلى العلم الصحيح الدقيق المتين العمل الخالص اذ بههما وبهما معا تتحقق مرضاة الله سبحانه وتعالى * لقد ادرك علماء الامة الاعلام وهم من قالوا (لا مشاحة في الاصطلاح) أن لا تضارب ولا تعارض بين التصوف الصحيح وبين الشريعة في اصليها: الكتاب العزيز والسنة النبوية الطاهرة * فالتصوف الصافي النقي، التصوف العلمي العملي هو لب الاسلام وهو الدرجة الثالثة من درجات الاسلام التي عليها انبنى، انه مقام الاحسان (أن تعبد الله كانك تراه) وهل تدرك هذه المرتبة الرفيعة والدرجة العالية إلا بمجاهدة نصت عليها وارشدت اليها الآية الكريمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) والوقوف عند درجتي الإيمان والاسلام وقوف (عند ويل للمصلين). * لقد قيض الله للتصوف الحقيقي الخالص علماء اعلاما اقاموا الحجة النقلية والعقلية على شرعيته وجعلوا من سلوكهم واخلاقهم وسيرهم القدوة والاسوة فكانوا زينة مجالس الذكر وتلاوة القرآن يشهدون اختامه واختام الصحيحين وكتاب الشفا للقاضي عياض وشمائل الترمذي وكانوا لا يغيبون عن مجالس انشاد الهمزية والبردة، ويحفظون عن ظهر قلب احزاب سيدي عبد القادر والامام الشاذلي والإمام النووي وغيرها من الاوراد والصلوات على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلام بمختلف صيغها امتثالا للامر المطلق غير المقيد الوارد في قوله جل من قائل (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين ىمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) عاملين بالقاعدة الاصولية (اذا استوى التقييد وعدم التقييد فعدم التقييد اولى) * أما التعلق بسيد الاولين والآخرين عليه افضل الصلاة وازكى التسليم والتعبير عن محبته الشديدة واغتنام كل مناسبة خصوصا ذكرى يوم مولده الشريف والفرحة به عليه الصلاة والسلام فذلك ما رغب الناس فيه ودفعوهم إليه، بل والفوا فيه من ذلك إن شيخيْ زمانهما ومن انتهت اليهما الرئاسة العلمية في جامع الزيتونة سيدي ابراهيم الرياحي وسماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمهما الله حيث خص كل واحد منهما المولد النبوي بقصة تاصيلا للسنة الحسنة الحميدة التي درج عليها المسلمون احتفالا بالمولد النبوي وذلك قبل أن تصاب الامة بهذه الهجمة الشرسة على كل ما فيه التعلق بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وسالكي نهجه القويم اولياء الله الصالحين. * ويكفي اهل التصوف فخرا أن يكونوا هم من اوصل رسالة الاسلام وهدي سيد الانام عليه الصلاة والسلام بواسطة الرحالة والتجار إلى مجاهل افريقيا واقصى شرقي آسيا حيث بلغوا رسالة الحب والسماحة والرفق والدعوة بالتي هي احسن. * الصوفية هم من جسموا هذه القيم ومارسوها عمليا فكانوا دعاة إلى الله باعمالهم ولم يكونوا دعاة إلى الله باقوالهم كما وجه بذلك الإمام جعفر الصادق آل البيت رضي الله عنه وعنهم وعنا معهم حيث قال (كونوا دعاة لنا بافعالكم ولا تكون دعاة لنا باقوالكم) * يكفي الصوفية فخرا انهم هم من وقفوا في وجه هجمات الغزو الصليبي وهم من كانوا السند للمجاهدين لتحرير اوطان المسلمين والتصدي لهجمات المستعمرين والشاهد على ذلك ما سطره من بطولة في العصر الحديث الامير عبد القادر اسكنه الله اعلى العليين والذي شرف في هذه الربوع الطيبة التصوف والصوفية بمواقفه البطولية الباسلة ونور القلوب بمواقفه الروحية وبسماحته ودفاعه على نصارى الشام عندما وقع التعدي عليهم من طرف بعض المسلمين فقد جمع من كانوا حوله وخطب فيهم مبتدا بقوله الحمد لله رب المسلمين (3) اعاد ذلك ثلاث مرات والذين من حوله في استغراب ودهشة قال: ما دمتم تعترفون بانه رب العالمين وهؤلاء النصارى اليسوا من العالمين فلم تعتدون عليهم؟ * ويكفي الصوفية فخرا انهم هم اليوم من يقفون في وجه من يستهدف الاستقرار الاجتماعي وينشر الفرقة والفتنة ويكفر المسلمين ويسفك دماءهم وذلك بالنهج الذي ظلوا اوفياء له لا يحيدون عنه، نهج اساسه ومرتكزه كتاب الله العزيز وسنة وسيرة الحبيب المحبوب عليه الصلاة والسلام والصادعة آياته واحاديثه بمثل قوله تعالى (وان هذه امتكم امة واحدة)، (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، (انما المؤمنون اخوة) (ولا تنازعوا فتفشلوا) (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا)، (ادفع بالتي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حض عظيم)، وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (افلا اذلكم عل شيء اذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم) (لا يكون احدكم مؤمنا حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه)... * وهل التصوف إلا السلوك، ومن فاق وسبق في السلوك فاق ووسبق في الطريق؟ وهل يمكن لسالك الطريق الموصول بالله أن يكون إلا سلما وامنا ومحبة لكل من يحيط به، انه يحب الجميع: بحب الله ويحب رسوله ويحب المؤمنين ويحب الناس أجمعين بل يحب ما خلق الله حتى الجماد (أحد يحبنا ونحبه) * يكفي الصوفية فخرا انهم من يحملون راية الحب لسيد الاولين والآخرين عليه افضل الصلاة وازكى التسليم فهم من يدعون المسلمين إلى ركوب سفينة النجاة فمثلهم مثل ذلك الصحابي الذي بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعية في الجنة ندما قال لم اعدد للساعة كثير صلاة وصيام بل اعددت لها حب الله ورسوله قال له: ابشر فانت مع من احببت، فمجالس الصوفية في سائر اوقاتهم وحيثما كانوا هي مجالس ذكر محامد وشمائل وفضائل وخصائص وكمالات وجمالات سيد الاولين والآخرين مجالس صلوات عطرة شذية طيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوات تنطلق بها السنتهم وترتفع بها حناجرهم فتخشع بها قلبوهم وتقشعر ابدانهم وتدمع خشية وخوفا لله اعينهم وشوقا ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلمان. * الصوفية هم من يحببون الناس في رسول الرحمة وكاشف الغمة على هذا الدرب يسيرون لا يغيرون ولا يبدبون وقد قيل: (عرفت فالزم) * واذا كان من رجاء نلح عليه في خاتمة هذه الكلمة هو المزيد من التقارب والتكامل والتعاون بين الاسرة الصوفية بمختلف مشائخها ومريديها وطرقها وزواياها فالامة ودينها في امس الحاجة إلى ذلك. معسكر الجزائر مارس 2014