الإمام سُحنون ملامح من سيرته وتعريف بموسوعته (المدونة) في إصدارها الجديد
المحتويات ولايته للقضاء مدونة الإمام سحنون في طبعة (...) يجدر بنا ونحن نعرف بهذا العلم الإفريقي ان نبدأ بذكر بعض شهادات كبار العلماء فيه واعترافهم له بسعة العلم وسديد الفهم وصادق التقوى، إذ تجمع آراؤهم على الاعتراف له بالسبق والفضل. * فهذا سليمان بن سلام يقول عن مجالس سحنون: دخلت مصر فرأيت فيها العلماء متوافرين: بني عبد الحكم بن مسكين وأبا طاهر وأبا إسحاق البرقي وغيرهم ودخلت المدينة وبها أبو مصعب والفروري ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثا ودخلت غيرها من البلدان ولقيت علماءها ومحدثيها فما رأيت بعيني مثل سحنون وابنه بعده. * ويرى عيسى بن مسكين ان سحنون هو راهب هذه الأمة ولم يكن بين مالك وسحنون افقه من سحنون. * أما سعيد بن الحداد فيقول بعد مجالسة العلماء ومناظرتهم: جالست المتكلمين وكل من لقيت من أهل العلم فما رأيت منهم اصح غريزة من سحنون وكان وقورا مهيبا. * ان سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته على حد تعبير أبو علي البصيري. * ويذهب الشيرازي إلى الجزم والتأكيد بان الرئاسة في العلم بالمغرب انتهت إلى سحنون وعلى قوله المعول صنف المدونة وعليها يعتمد أهل القيروان وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك وعنه انتشر علم مالك في المغرب. تلك بعض الشهادات اتخذناها فاتحة للتعريف بهذا العلم الإفريقي البارز الذي ترك بصمات لا تمحى في الثقافة الإسلامية خصوصا في هذه الربوع الإفريقية فدعم بعلمه الغزير وعمله الجليل ومواقفه الرائعة أصول الإسلام الصحيحة وثبتها في هذه التربة المباركة حتى رسخت وأصبحت لا تؤثر فيها العواصف الهوجاء من دعوات أصحاب النحل والأهواء انه أبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي لقب بسحنون واسمه عبد السلام. قدم أبوه سعيد في جند حمص، كان مولده بالقيروان سنة واحد وستين بعد المائة الأولى للهجرة تتلمذ بالقيروان عاصمة افريقية والغرب الإسلامي على كبار شيوخها مثل: أبو خارجة وبهلول وعلي بن زياد وابن أبي حسان وغير هؤلاء ثم رحل إلى مصر والتقى بابن القاسم. سمع سحنون في مصر والحجاز من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وطيب بن كامل وعبد الله بن عبد الحكم وشعيب ابن الليث ويوسف بن عمر وسفيان بن عيينة ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي وحفص بن غياث وأبي داود الطيالسي ويزيد بن هارون والوليد بن مسلم وابن نافع الصائغ ومهن بن عيسى وأبي ظمرة وابن الماجشون ومطرف. يقول سحنون “لما حججت كنت أزامل ابن وهب وكان أشهب يزامله وابن القاسم يزامله ابنه موسى وكنت إذا نزلت وسالت ابن القاسم وكنا نمشي بالنهار ونلتقي المسائل فإذا كان الليل قام كل واحد إلى حزبه من الصلاة فيقول ابن وهب: الا ترون هذا المغربي يلقي بالنهار ولا يدرس بالليل فيقول ابن القاسم: هو نور يجعله الله في القلوب”. لقد كان سحنون يجمع بين العلم الذي حرص على الاستزادة منه بالرحلة من اجل تلقيه على العلماء الأعلام في مصر والحجاز ممن شهدت لهم الأمة برسوخ القدم وعلو الدرجة ثم يضيف إلى ذلك الاجتهاد في العبادة والتقوى والاستقامة. يقول سليم بن عمران: إذا سالت سحنون أجابني من بحر عميق ومعنى جوابه: زد في سؤالك وكان العلم في صدر سحنون كسورة من القرآن لمن حفظه وكان سحنون رجلا صالحا. ويقول سحنون محدثا بنعمة الله عليه وفضله: إني حفظت هذه الكتب. لقد جمع سحنون بين العلم الغزير والعمل الصالح المخلص والخلق الرضي واجتمعت على حبه القلوب وقصده طلاب العلم من كل صوب وكان يأخذ نفسه بمذهب أهل المدينة في كل شيء حتى في العيش وكان يعتبر ان أكل أموال الناس بالمسكنة والصدقة خير من أكلها بالعلم والقرآن، اكتفى بالقليل ورضي باليسير ويعمل ويكد ويتعب ولا يسال الناس ولا يقبل هداياهم ويفضل على ذلك أكل خبز الشعير والزيت دخل بعض أصحابه في مرض وفاته فلم يجدوا في بيته إلا الحصير. ولايته للقضاء: تولى سحنون القضاء سنة مائتين وأربع وثلاثين وكانت ولايته استجابة من الله لدعوة دعاها على سلفه القاضي ابن أبي الجواد وكان هذا القاضي معروفا بالجور والظلم والانحراف عن المنهج القويم والتسلط على الضعاف من خلق الله وقد تبرم بسلوكه الخاص والعام فقد مر سحنون ذات يوم بابن أبي الجواد فرأى منه ظلما فقال سحنون “اللهم لا تمتني حتى أراه بين يدي قاض عدل... يحكم فيه بالحق” وما درى سحنون ان هذه الدعوة قد وافقت ساعة إجابة وان هذا القاضي العدل إنما هو سحنون. ولم يكن سحنون راغبا في تولي هذه الخطة الخطيرة وما كان يرى نفسه أهلا لها ولكن الامير محمد ابن الأغلب بعد ان استشار الفقهاء وجدهم يكادون يجمعون على أهليته وأهلية سليمان بن عمران ولكن هذا الامير قال بكل تجرد: “ما ظننت انه يشاور في سحنون فرأيت أهل مصر يتمنون كونه بين اظهرهم وما يستحق احد القضاء وسحنون حي”. ولما اعلم سحنون بالقرار والاختيار عليه تمنع وتملص وقال انه لا يقوى على تولي القضاء فأغلظ عليه محمد بن الأغلب اشد الغلظة وحلف عليه بأشد الإيمان. أذعن سحنون للأمر لما علم ان لا مفر منه واشترط على الامير شروطا أراد بها ان يعفي نفسه يقول سحنون: "لم أكن أرى قبول ذلك الأمر حتى كان من الامير معنيان احدهما إعطاء كل ذي حق حقه وأطلق يدي في كل ما رغبت حتى إني قلت: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك فان قبلهم ظلامات للناس وأموالا لهم منذ زمان طويل إذ لم يجترئ عليهم من كان قبلي. فقال لي : نعم لا تبدأ إلا بهم واجر الحق على مفرق رأسي. فقلت له : الله ! قال لي : الله ثلاثا. وجاءني من عزمه مع هذا ما يخاف المرء على نفسه وفكرت فلم أجد أحدا يستحق هذا الأمر ولم أجد نفسي سعة في رده". وبلغ به الغم والحزن لعظم الأمر عليه إن أحدا من الناس لم يتجرأ ان يهنيه واكتفى بان قال لابنته خديجة وهي امرأة فاضلة تقية لما دخل عليها بعد توليته ( اليوم ذبح أبوك بغير سكين ) والتزم سحنون بان يقوم بهذا الهمل لوجه الله ورفض ان يأخذ لنفسه رزقا أو عطية من السلطان. التزم سحنون بإقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أصحابها فكان لا يتردد عن ضرب الخصوم إذا أذى بعضهم بعضا بكلام وكان يمكن من أصابه رعب من مجلس القضاء من فرصة الاستئناس بالإعراض عنه وهون عليه ثم قال له “ليس معي سوط ولا عصا ولا عليك باس إذا ما علمت ودع ما لا تعلم”. وكان سحنون يقاوم كل المنكرات فيؤدب على الأيمان التي لا تجوز كالطلاق وحتى لا يحلف الناس بغير الله ويراقب مظاهر الناس في ملابسهم وينهاهم عما يخالف حسن الحال وجمع سحنون إلى القضاء الحسبة فلاحق المنكرات في الشوارع والأسواق وأماكن اجتماع الناس فنظر في الغش في السلع والبضائع ونصب أمناء للأسواق وتولى تأديب من يستحق ذلك. وكانت لسحنون مواقف حازمة مع أصحاب البدع والأهواء من الطوائف والفرق الخارجة على مذهب أهل السنة. ففرق أهل البدع وأخرجهم من الجامع وشرد الفرق الضالة وكانوا قبل ولاية سحنون للقضاء ينشرون بين الناس ضلالاتهم وزيفهم ويفسدون على العامة دينهم ويحرفون لهم عقيدتهم الصافية النقية وكان ذلك يقع منهم في المساجد بدون تخف ولا تستر. وكان هذا الموقف من سحنون شجاعا ذلك ان أمراء الدولة الأغلبية في ذلك الوقت كانوا متجاوبين مع بعض هذه الدعوات مقربين لرؤسائها ودعاتها ولم يكن مع سحنون في هذا المنهج الذي ارتضاه لنفسه إلا التجاوب الشعبي والتعلق المخلص والصادق بمذهب أهل السنة والجماعة. منع سحنون دعاة الفرق والطوائف والمذاهب والنحل من تولي المهام الدينية والعلمية كأن يكونوا أئمة أو مؤذنين أو مؤدبين حتى لا تتعدى شرورهم إلى غيرهم من عموم الناس وكان يؤدب من خالف أوامره ويطوف بهم الشوارع تأديبا لهم وترهيبا لسواهم ممن قد تحدثهم أنفسهم بإتباع منهاجهم وكثيرا ما دفع مثل هذا التعزير من بقيت في نفسه بقية من إيمان إلى التوبة النصوح. وكان سحنون يضرب بدرته من استحق التأديب ويقيم الحدود على من استوجبت إقامتها عليه. ولم يكن سحنون ليغفل عن بسائط الأمور ومستصغرها فينقل من يسوء سلوكهم إلى جوار قوم صالحين وكان يأمر بمنع كل ما يمكن ان يلحق ضررا بالمجموعة وبلغ به الأمر إلى حد الأمر بقتل الكلاب. ولم يكن سحنون يخشى في الله لومة لائم وما كان يعظم في عينه أي عظيم. قال أبو العرب : كان لا يهاب سلطانا في حق يقيمه عليه ولما أكثر من رد الظلامات من رجال ابن الأغلب وأبى ان يقبل منهم الوكلاء على الخصومة الا بأنفسهم وجه إليه الامير وقد شكوه إليه بأنه يغلظ عليهم فأرسل إليه ابن الأغلب وقال : أنهم فيهم غلظة وقد شكوك ورأيت معافاتك من شرهم فلا تنظر في أمرهم. فقال سحنون للرسول : ليس هذا الذي بيني وبينه قل له خذلتني خذلك الله. فلما أنهى الرسول الرسالة إلى الامير قال له ما نعمل ؟ إنما أراد الله وقال ابن الحارث: قيل لسحنون: هذا منصور دخل تونس بالحرائر فركب وانتزع منه ما بيده فدخل منصور على ابن الأغلب وقد شق ثوبه وشكا إليه ما نزل فأرسل ابن الأغلب إلى سحنون ان تصرفهم على منصور، مرة وثانية وثالثة. فقال : لا افعل. واقبل ابن الأغلب حتى دنا من موضع سحنون وضربت له قبة نزل فيها وقد استشاط غيظا لمصادمته إياه على منصور ودعا فتى فقال له اذهب إلى سحنون فقل له اردد السبي على منصور وإلا فائتني برأسه. فجاء الفتى إلى سحنون يبكي ويتضرع ويقول : أمرت فيك بعظيم. فاخذ سحنون رقا فكتب بعد الاسم “ويا قوم مالي ادعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار” الآية ودفع الكتاب للفتى ثم قال: ادفعه لابن الأغلب فلما قرأه أمر برفع مضربه واحتجب ثلاثا ثم قال لمنصور: سلني عما شئت من جوابك واعرض عن خبر سحنون. وكان ابن الأغلب يقول في قضيته مع سحنون. ان سحنون لم يركب لنا دابة ولا أثقل كمه بصرة فهو لا يخافنا. وكان لهذه المواقف الجسورة في الحق أثارها على حساده الذين سعوا بكل جهودهم من اجل الوقيعة بينه وبين الأمراء وكان على رأس هؤلاء ابن أبي الجواد المعتزلي القائل بخلق القرآن وبلغ المكر والكيد بابن أبي الجواد إلى درجة أوغر بها صدر الامير زيادة الله الا غلبي الذي دعا عامله على القيروان إلى ضرب سحنون بخمسمائة سوط وحلق رأسه ولحيته لولا ان وزيره علي بن حميد حذره من مغبة الإهلاك نظير مع وقع للعكي عندما ضرب البهلول بن راشد. وكان سحنون يرى في ذلك المنة والفضل لله وحده الذي سخر من يشاء من عباده لصرف الشر والضرر عن أوليائه. وامتحن سحنون عند تولي احمد بن الأغلب الإمارة وإلزام الناس بالقول بخلق القرآن وأرسل من يلاحق سحنون عند عبد الرحيم الزاهد واختار لذلك رجلا يبغض سحنون ويكرهه وهو ابن سلطان الذي تغير موقفه من سحنون بمجرد أن وصله وعبر عن استعداده لبذل دمه فداء لسحنون فأبى سحنون وشكره ثم رافقه إلى الأمير وسط دعوات أصحاب سحنون وتلاميذه بالهلاك على هذا الأمير الظالم. وسئل سحنون عن القرآن فأجاب بحضور رؤوس الاعتزال الذين كانون محيطين بالأمير ( أما شيء أبتديه من نفسي فلا ولكني سمعت من تعلمت منه وأخذت عنه كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق ). فقال ابن أبي الجواد: كفر فاقتله ودمه في عنقي وقال غيره مثله وقال آخرون: يقطع أربعا ويجعل كل ربع بموضع من المدينة ويقال هذا جزاء من لم يقل بكذا. ورأى بعض أصحاب السلطان من رجال السنة أن يلزم داره فلا يفتي ولا يسمع أحدا فوقع الاتفاق على ذلك. وتعرض سحنون وهو في طريقه إلى قصر الأمير إلى محاولات مبيتة لقتله بطرق مختلفة ولكن الله نجاه منها. لقد كان سحنون ورعا تقيا عالما عازفا عن الحياة الدنيا وبهارجها مؤثرا ما بين يدي الله قال حمديس: دخلت عليه يوما وهو يأكل خبزا يبلله في الماء ويغطسه في الملح فقال: أما إني لم أكله زهادة في الدنيا ولكن لئلا احتاج إلى هؤلاء فأهون عليهم ثم صاح بجارية فاتت بصرة فيها عشرون دينارا فقال: ادفعه لثلاثة رجال صالحين ممن يسكن عندهم فان لم تجد فإلى اثنين فان لم تجدهما فإلى واحد. ولو نحن واصلنا استعراض مواقفه لاستغرق ذلك منا الحيز الواسع لكننا لن ننهي الكلام دون أن نذكر ان سحنون يرجع إليه الفضل في هذه الديار الإفريقية إلى توحيد وتركيز مذهب الإمام مالك ونشره في هذه الربوع بعد ان تلقاه عن تلاميذ الإمام. إذ ان الفقر هو الذي أقعده عن إدراك الإمام مالك. وضمنه في موسوعته الخالدة المدونة الكبرى أساس المذهب المالكي وعموده الفقري واللائحة المبينة والمفصلة للموطأ أول كتاب دون بعد كتاب الله العزيز والإمام سحنون يرجع إليه الفضل في تكوين من تخرج من القيروان وافريقية وما وراءهما من علماء أعلام نشروا الإسلام وحافظوا على أصوله وأناروا للأمة الطريق المستقيم حتى غذت بحمد الله ولا تزال على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. رحم الله الإمام سحنون وجازاه الله عن أمته ودينه وأهل افريقية خير الجزاء. وكانت وفاة سحنون في سنة أربعين ومائتين للهجرة ودفن بالقيروان وقبره معروف هناك. مدونة الإمام سحنون في طبعة محققة مدققة: المدونة الكبرى كان مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان عقد قبل سنوات قلائل ندوة حول الإمام سحنون تم نشر أعمالها تضمنت عدة بحوث قدمها مختصون في المذهب المالكي حول هذا العلم التونسي “الإمام سحنون” رحمه الله وحول آثاره العلمية ودوره الريادي والتأسيسي للمذهب المالكي. وقد تمنى الباحثون آنذاك لو أن مركز الدراسات الإسلامية ينهض بإعداد طبعة جديدة لمدونة سحنون تكون محققة مدققة تيسر على الدارسين سبل الاستفادة من هذه الموسوعة الفقهية المالكية التي جمع الإمام سحنون مادتها وحقق مسائلها ورحل في سبيل تأليفها من القيروان إلى الحجاز ومصر حيث عرض محفوظاته ومروياته وما دونه من مضامينها على أشهر تلاميذ الإمام مالك وألصقهم به وأكثرهم الماما بمسائل مذهب إمام دار الهجرة. ومرت السنوات إلى أن نهض بهذه المهمة الجليلة وهذه الخدمة العلمية المستشار السيد علي بن السيد عبد الرحمان الهاشم وهو أحد علماء دولة الإمارات العربية المتحدة التي ينتشر فيها المذهب المالكي وتجد مدوناته الكبرى فيها العناية الكبيرة سواء كان ذلك في نشرها أو إعادة طبعها وتحقيقها في إطار خطة تهدف إلى تيسير الاستفادة منها. لقد تحقق بهذا الإصدار الجديد للمدونة من قبل السيد علي ابن السيد عبد الرحمان الهاشم مستشار الشؤون القضائية والدينية في ديوان سمو رئيس الدولة الإمارات حلم راود العلماء لعقود طويلة وحالت دونه موانع أبى الله إلا إن يذللها وأن يجعل هذا العمل يرى النور ويخرج للناس وللمهتمين بالفقه عموما والفقه المالكي خصوصا حتى يستفيدوا به ويتمكنوا من النهل من معين هذا الأصل الأصيل والركن الأساسي في صرح مدونات المذهب المالكي. وقد سبق هذا العمل “تحقيق وإخراج مدونة سحنون” إخراج كتب مالكية أخرى تعد عمدا في المذهب المالكي نذكر منها “الشرح الصغير على اقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأبي البركات سيدي أحمد الدردير، وكتاب كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني للشيخ علي بن خلف المنوفي وشرح الخريدة البهية للعلامة أبي السعود محمد السباعي على منظومة ابن عاشر، وكتاب مشروعية السدل في الفرض للشيخ مختار بن محيمدات الداودي، وكتاب الجواهر المضيئة شرح العزية للعلامة عبد السميع الآبي الأزهري وكتاب الجواهر الزكية في حل ألفاظ العشماوية للعلامة احمد بن تركي المالكي” وكل هذه الكتب هي من أمهات الفقه المالكي صدرت بإشراف ومراجعة الشيخ السيد علي الهاشمي جازاه الله خيرا. ويأتي تحقيق المدونة تتويجا لهذه الأعمال الجليلة إذ تعتبر مدونة سحنون أصل المذهب المالكي حيث فصلت ما ورد مجملا في الموطأ للإمام مالك. والإمام سحنون الذي يأتي ترتيبه الثالث في سلم المذهب بعد صاحب المذهب ومؤسسه الإمام مالك بن انس وتلميذه ابن القاسم. هو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار أبي ربيعة التنوخي القيرواني الملقب بسحنون “160هـ - 240هـ” أخذ العلم من كبار علماء القيروان ثم رحل إلى تونس وخرج إلى مصر حيث سمع من عبد الرحمان بن القاسم وعبد الله بن وهب وأشهب وعبد الله بن الحكم وغيرهم. وقد قال رحمه الله، “قبح الله الفقر فلولاه لأدركنا مالكا” كان سحنون قوي الحافظة قال إني حفظت هذه الكتب حتى صارت في صدري كأم القرآن". ألزمه الأمير أبو العباس ولاية القضاء فقبلها بشروطه وعندما تولاها دخل على ابنته خديجة وكانت من الصالحات وقال لها “اليوم ذبح أبوك بغير سكين”. يعتبر الإمام سحنون وعلي بن زياد والبهلول بن راشد وابن غانم هم الذين أسسوا المدرسة المالكية في الغرب الإسلامي تونس وما وراءها. قال أشهب: ما قدم إلينا من المغرب مثله وقال ابن قاسم : ما قدم إلينا من افريقية مثله أهم آثار سحنون المدونة يقول عنها ابن رشد “فحصلت يعني-المدونة- أصل علم المالكيين وهي مقدمة على غيرها من الدواوين بعد موطأ مالك”. تمثل العمل الذي قام به السيد علي بن السيد عبد الرحمان الهاشم في إخراج هذه الموسوعة في نشرة محققة مضبوطة رسم منهجها في المقدمة الواقعة بين صفحتي 21 و45 من المجلد الأول حيث تضمنت التنويه بالعلم والفقه في الدين وتبين منزلة إمام دار الهجرة ومؤسس المذهب الإمام مالك بن انس ومكانته في عصره وإشادة العلماء به وتسليمهم له بالرئاسة العلمية وبين المحقق المصادر التي يقوم عليها فقه الإمام مالك “الكتاب والسنة والإجماع والقياس وقول الصحابة والمصادر الفرعية التي هي عمل أهل المدينة وسد الذرائع والمصالح المرسلة والعرف والاستحسان”. وعرف المحقق بأمهات كتب المذهب المالكي والتي أتى في طليعتها المدونة الكبرى للإمام سحنون والواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتبية أو المستخرجة لعبد العزيز العشي الأندلسي والموازية لابن المواز وهي كلها أمهات بعد الموطأ. ويعرف المحقق بالمؤلف “بصاحب المدونة: الإمام سحنون” ويورد شهادات العلماء فيه ويعرف بالمدونة حيث يأتي بالمعلومات والمعطيات التي ترسخ في الأذهان وتقنع الجميع بأهمية المدونة ومنزلتها وإنها المرجع الذي يعود إليه كل من يريد أن يدقق ويتوسع. ويستعرض المحقق المراحل التي تم قطعها للوصول بالمدونة إلى ما آلت إليه، ويتوقف عند من اختاره الإمام سحنون ليروي عنه المدونة ألا وهو عبد الرحمان ابن القاسم: افقه أصحاب مالك، ويستعرض المحقق المنهج الذي وقع توخيه وإتباعه من قبل ابن القاسم وسحنون في جمع وتحقيق مسائل المدونة. يقول المحقق “ولم يقف الأمر بسحنون فيما يتعلق بكتبه الموثقة المصوبة التي سماها المدونة عند هذا الحد بل رتبها وهذبها وزاد عليها ما رأى انه ضروري لكي تكون مرجعا أساسيا يعتمد عليه في فقه الإمام مالك رضي الله عنه خاصة وفقه الشريعة الإسلامية بوجه عام فزاد عليها المسائل التي اختلف فيها أصحاب مالك”. ويمضي السيد علي بن السيد عبد الرحمان الهاشم في تتبع مسيرة المدونة وما نالته من عناية واهتمام غدت به “أصل المذهب المالكي وفقهائه في القضاء والإفتاء وروايتها مرجحة على ما في سائر الأمهات وهي الأصل الثاني بعد الموطأ في الفقه المالكي...” فالمدونة عند أهل الفقه بمنزلة كتاب سيبويه عند أهل اللغة ويقف عند عناية المالكيين بالمدونة شرحا وتعليقا وجلاء للمشكلات واختصارا وتهذيبا “انظر الصفحات 35 و36 و37 و38 و39 و40 من المجلد الأول” لقد خرج المحقق الآيات والأحاديث والآثار وعرف بالأعلام وعلق بما يسمح به المقام على ما ورد في المدونة وما انتهى إليه المحققون من متاخري المالكية. ويستعرض المحقق مضامين أجزاء المدونة الستة عشر. وقد كتب مقدما لهذا العمل كل من الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي وسماحة الشيخ محمد بن الشيخ احمد ابن الشيخ حسن الخزرجي وزير العدل والشؤون الإسلامية سابقا والأستاذ الدكتور عزالدين إبراهيم المستشار الثقافي لرئيس دولة الإمارات وقد اجمعوا على التنويه بهذا العمل العلمي الجاد الذي تولاه باقتدار السيد علي بن السيد عبد الرحمان الهاشم جازاه الله خيرا. وانه لعمل جليل وإنها لإضافة تذكر فتتشكر قام بها المحقق وقد ظل يتمناها للمدونة كل من اطلع على طبعاتها ونشراتها السابقة التي ظلت تصور وتنسخ دون تحقيق المرة تلو المرة. إنه عمل سد فراغا وكمل نقصا تمنى القيام به عديد العلماء فجاء هذا الانجاز العظيم لموسوعة الفقه المالكي “المدونة” في اثني عشرة مجلدا “احد عشرة مجلدا” لمحتوى المدونة “تعليقا وتحقيقا وإحالة وضبطا للنص وشرحا لبعض المسائل” وجاء في آخرها تعريف ضاف بالإمام مالك والإمام ابن القاسم والإمام سحنون وأضواء على المدونة وتاريخ المذهب المالكي وانتشاره “علم أهل المدينة” بالإضافة إلى خاتمة تضمنت مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات المفيدة في حين اشتمل المجلد الثاني عشر على الفهارس العامة “فهرس الآيات القرآنية، فهرس الأحاديث النبوية، فهرس الآثار، فهرس الأعلام، فهرس الفرق والديانات، فهرس الأماكن والبلدان، مصادر التحقيق وفهرس الفهارس للمدونة الكبرى” ولا ينسى أن يقدم بخالص الشكر لمن كان سببا في إخراج هذه الطبعة محققة مدققة وعمم الاستفادة منها لطلبة العلم وأهل الذكر سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله رئيس دولة الإمارات المتحدة وصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان. ولا يسعنا في خاتمة هذا التعريف الموجز بهذا العمل العلمي الجاد والجليل الذي أسداه للمذهب المالكي ولمدونة الإمام سحنون السيد علي بن السيد عبد الرحمان الهاشم إلا أن نشكر لفضيلته هذا الجهد داعين الله إن يجازيه عنه خير الجزاء وآملين إن تتواصل على يديه وعلى أيدي أمثاله من العلماء مثل هذه الخدمات الجليلة للثقافة الإسلامية وللفقه عموما والفقه المالكي خصوصا إذ لا تزال الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطة تحتاج إلى مثل هذه الخدمة الميسرة ولعلنا من هنا من تونس القيروان، تونس الزيتونة، تونس موطن سحنون وابن زياد وابن أبي زيد رواد المالكية نكون الأسبق في التكريم والتنويه بمثل هذه الأعمال العلمية الرائدة التي يمكن أن تتكامل فيها الجهود بين الأشقاء سواء هنا في تونس أو هناك في دول الخليج.