الأطباء الدكاترة: سليّم عمّار والمهدي بن عبود والتيجاني الهدام وجمال ماضي أبو العزائم و جهودهم في خدمة الأمة و دينها
أربعة من الأطباء الحكماء كان لهم حضور بارز في الساحة الثقافية والدينية على امتداد عقود من السنين وهؤلاء الحكماء الأربعة هم الدكاترة: سليمّ عمّار من تونس والمهدي بن عبود من المغرب والتيجاني الهدام من الجزائر وجمال ماضي أبو العزائم من مصر. لقد حرص هؤلاء الأطباء الحكماء على البذل والعطاء في ميدانهم الطبي من خلال مباشرة هذه المهنة الشريفة ومن خلال التدريس في الكليات ثم من خلال حضورهم الفاعل والنشيط في الساحة الفكرية والثقافية وذلك بما ألفوه من كتب وما ألقوه من محاضرات وما شاركوا به في ندوات ومؤتمرات في الداخل والخارج وما حرص عليه جميعهم من القيام بواجب الربط بين ما اختصوا فيه من علوم ومعارف طبية وبين موروث الأمة الديني والثقافي والحضاري فكانوا رحمهم الله رواد الأصالة ومحاربة المسخ والزيف فأنتفع بهم خلق كثير من مختلف الأجيال والفئات وبالخصوص أولئك الذين كادت تهز ثوابتهم ضراوة الهجمة الشرسة للمادية الغربية. لكل هذه الأسباب أرى لزاما علي أن أحيي ذكراهم وأؤدي بعض حقهم علينا حتى لا نجعل رحيلهم عنّا ومفارقتهم لنا تمر دون أن تترك أثرا من أسى وحسرة على فقدانهم وعبرة تتواصل بها الإضافة التي حرصوا عليها وأدوها على أحسن الوجوه وأتمها. الأستاذ سليّم عمّار رحمه الله * الأستاذ سليم عمار دكتور في الطب متخرج من كلية الطب بباريس ولد سنة 1927 بسوسة (تونس) واختير عضوا بأكاديمية الطب الفرنسية سنة 1966 عن كتابه في ذكرى الطب العربي بعض كبار الأسماء الذي نال جائزة كونت هوقو فقد اعتبر هذا أفضل عمل علمي متعلق بتاريخ العلوم الطبية أنجز في السنوات الخمس الأخيرة. * والأستاذ سليّم عمّار أول طبيب من إفريقيا الشمالية يحرز على جائزة بورقيبة المغاربية في الطب وذلك سنة 1973. * درس الأستاذ سليّم عمّار تاريخ الطب في كلية الطب بتونس (1977) والبسكيولوجيا والبسكيولوجيا السريرية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية منذ سنة 1971 وقد ترأس قسم البسكيولوجيا الطبية في جامعة تونس. * للدكتور سليم عمّار ما يزيد على مائتي دراسة بالفرنسية والعربية البعض منها ترجم إلى الإنقليزية والألمانية خصوصا ما تعلق منها بتاريخ الطب العربي. وشارك الدكتور سليّم عمّار في عديد المؤتمرات والندوات العالمية واشرف على عديد الأعداد الخاصة لمجلات تتعلق بهذه المواضيع. ومثل رسميّا وبصفة متواصلة تونس في المكتب العربي لعلوم الصحة بالكويت وهو إضافة إلى ذلك عضو قار في مجلس مجمع الآداب والفنون (بيت الحكمة) التي أوكل إليها أمر توثيق الصلة بالماضي العلمي المجيد للبلدان الإسلامية من الكتب التي ألفها باللغة الفرنسية الأطباء والطب في الإسلام. وقد كتب مقدمة هذا التأليف القيم الأستاذ بول ملياز حيث يقول: في هذه النشرة لكتابه الجميل: الأطباء والطب في الإسلام والذي أتولى تقديمه يرسم فيه الأستاذ سليّم عمّار ومسيرة الأساتذة الكبار الذين خدموا الإنسانية ففي حين كانت أوروبا تعيش في بربرية حافظ العرب المسلمون وهضموا معارف القدامى وبالخصوص تقدمت على أيديهم الكيمياء والصيدلة وكثير من المجالات الطبية. ولا نملك إلا أن ناسف على النكران لبعض الاختراعات والصبغة العالمية للإسلام أعطت للعالم درسا في التسامح، حيث لعب الفرس واليونانيون والمسيحيون واليهود دورا هاما في ميلاد وتقدم الطب. وهذا النجاح مأتاه الاستقبال واندماج رجال أجانب ومعارف جاءت من الخارج من فارس والهند والخليج اندماجا عميقا ساعدت عليه الحضارة الإسلامية... لقد كان الدكتور سليّم عمّار رائدا في تاريخ الطب العربي باعتباره كما يقول: إن تاريخ الطب مادة حيوية لأنه ينبغي أن نعرف من أين نأتي كي نعرف إلى أين نحن ذاهبون، إن ذلك يمكن من التعرف على التطورات التي امتاز بها تاريخ الطب، هنالك رجال سهروا للوصول إلى الاكتشافات الطبية ومزيد التطبيب لإنماء هذه الصناعة الجليلة التي قال فيها على بن عباس المجوسي (إن العلم بصناعة الطب لأعظم العلوم شأنا وأكبرها قدرا وأكثرها منفعة وأجلها خطرا لحاجة جميع الناس إليها). يقول الدكتور سليّم عمّار إن الأطباء المسلمين أخذوا من اليونان ثم أضافوا وابتكروا ومن ذلك أمثلة: 1) الطب السريري: الكشف والتشخيص فقد دخل الطب السريري حيز الوجود كما قال الأستاذ الفرنسي بول ميليه بفضل محمد بن زكرياء الرازي الذي كان يقوم بالمعاينات السريرية. 2) الاقرابلبين: جدول الأدوية وقد أنجزه سابور بن سهل في بغداد حوالي 850 ميلاديّا. 3) أمراض العيون: اكتشافات البصريات لابن الهيثم. 4) وصف الجدري والتفريق بينه وبين الحصبة بفضل الرازي. 5) الدورة الدموية الرؤية واكتشافها من طرف ابن النفيس. 6) كتاب القانون لابن سينا وتدريسه إلى غاية القرن السابع عشر ميلادي في أوروبا فقد ذكر الأستاذ البريطاني وسلر بأن كتاب القانون يردد من حيث حجم الطبع الإنجيل ووصفه بأنه إنجيل الطب. 7) تركيز المستشفيات والعلاج بالموسيقى والتوقي من الأوبئة والأمراض المعدية وضبط تراتيب الوقاية التي دونها ابن خاتمة وابن الخطيب (ق14م) ولم تدخل هذه التراتيب القانونية لأوروبا إلا بعد 3 قرون عن طريق الطبيب الايطالي فراكستوري. والطب العربي يتميز أيضا باحترامه لأخلاقيات الطب وآدابه وقيمه فقد كان أسلافنا يتحلون بالقيم الأخلاقية العالية وكانوا يعالجون الأغنياء اكتسابا والفقراء احتسابا. يمضي الأستاذ سليّم عمّار قائلا: عن قسم ابقراط بالفرنسية عربته وادخل كليات الطب التونسية منذ سنوات وقد كيفته على أساس القيم العربية الإسلامية وكذلك قيم الطب الابقراطي التي رافقت هذه المهنة النبيلة منذ القدم (400 سنة قبل الميلاد) وقد أضاف الإسلام لها قيما إنسانية فأصبحت في أعلى الرتب مثل الرحمة والتفاؤل بالخير مراعاة الغير، قداسة الجسد وحرمته، الغفران والسلوان وللرازي ومحمد الصقلي أقوال مأثورة في ذلك.." ذلك هو بعض ما نذر الدكتور سليّم عمّار حياته لتعريف العرب والمسلمين والغربيين به وكان ثمرة لهذا المجهود الجبار عشرات الكتب ومئات البحوث والدراسات باللغات العربية والفرنسية والإنقليزية والألمانية فضلا عن المشاركات الدؤوبة إلى أخر يوم في حياته في الندوات والمؤتمرات في تونس وخارجها بالإضافة إلى من تخرج على يديه من مئات الطلاب في الطب والآداب فرحم الله الدكتور سليم عمار رحمه واسعة وجازاه الله عن دينه وأمته أفضل الجزاء. الدكتور المهدي بن عبود رحمه الله * ولد الدكتور المهدي بن عبود بمدينة سلا بالمغرب سنة 1919 حيث درس التعليم الابتدائي والثانوي بسلا والرباط والتحق بكلية الطب بكل من مونبلي وباريس ونال الدكتوراه وقضى فترة من حياته الطبية في أمريكا وفرنسا 1951 أثناء فترة الكفاح الوطني وعند فتح مكتب للدعاية للقضية المغربية في الولايات المتحدة الأمريكية كان الدكتور المهدي بن عبود على رأس مكتب حزب الاستقلال وعين الدكتور المهدي بن عبود أول سفير للمغرب بواشنطن وعاد إلى المغرب حيث فتح عيادته الطبية بسلا ثم الرباط. ودرس الدكتور المهدي بن عبود الفلسفة وعلم النفس بكلية الآداب بالرباط. * وقد كانت للدكتور المهدي بن عبود مشاركات في المؤتمرات والندوات والملتقيات التي عقدت في السنوات الأخيرة بالمغرب والجزائر و ليبيا ومصر والسعودية واندونيسيا وغيرها وقد كان الدكتور المهدي بن عبود يختار لإلقاء كلمات الوفود في الندوات فيشد الأسماع ويأخذ بالألباب لما يمتاز به من عمق علمي وثقافي ونورانية وإيمان قوي فضلا على اطلاع واسع على الثقافتين العربية الإسلامية والغربية حيث يتقن اللغتين الفرنسية والإنقليزية ويحاضر بهما. * وقد نشرت له المجلات المغربية (الإيمان، والعلم، والتضامن الإسلامي) و التونسية ( جوهر الإسلام) والمشرقية ( الرابطة والمنهل) فضلا عن الجرائد والصحف مداخلاته القيمة وقد تولى بعض تلاميذه وإخوانه مشكورين الذين نذكر منهم المجاهد الأستاذ أبا بكر القادري والأستاذ محمد إبراهيم بخات جمع بعض ما نشر له من مقالات ودراسات في كتب اطلعت على ثلاثة منها هي: رصد الخاطر: أفكار ونظريات، وخواطر وعودة حي بن يقظان: الجزء الأول والجزء الثاني.وقد شرفتني سلسة شراع التي تولت نشر كتاب: عودة حي بن يقظان حيث اقتبست بعض ما كتبته في جريدة “الحرية” حول هذا الكتاب فقد جاء في صفحة الغلاف الخارجية (الدكتور المهدي بن عبود لا يمكن تقديمه بالكلمات مهما أوتيت من البلاغة وأفضل سبيل للإغتراف من معين علمه الذي لا ينضب والذي فيه نور وطراوة مأتاه نورانيته وصلته الوثيقة بربه فالرجل عالم عامل ووطني صادق وطبيب نفساني..) رحم الله الدكتور المهدي بن عبود رحمة واسعة وأسكنه فراديس جنانه وجازاه الله عن أمته ودينه خير الجزاء. الدكتور التيجاني الهدام رحمه الله * ولد الدكتور التيجاني الهدام بتلمسان (غرب الجزائر) في سنة 1921 وهو طبيب جراح ولكنه أيضا مناضل من مناضلي ثورة التحرير الجزائرية. فالتيجاني الهدام أحد محرري أول دستور للجزائر المستقلة وقد تولى بعد الاستقلال وزاراتي الشؤون الدينية والصحة كما تولى خطة سفير للجزائر بكل من تونس 1970 والرياض 1982. * وللدكتور التيجاني الهدام إلى جانب تكوينه الطبي العلمي تكوين ديني حيث نال أعلى الشهادات العلمية الدينية في مختلف مجالات الثقافة الإسلامية من تفسير وفقه وكانت للدكتور التيجاني الهدام صلات ودّ متينة بعلماء تونس والعالم الإسلامي وله مشاركات في الندوات والملتقيات والأمسيات العلمية التي تنظمها النوادي الخاصة والعامة. لقد كان الدكتور التيجاني الهدام يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب. * وبعد أن توفي الشيخ العباس بن الشيخ الحسين مدير وإمام مسجد المنطقة الخامسة بباريس (فرنسا) أسندت هذه المهمة للدكتور التيجاني الهدام فاداها على أحسن الوجوه حيث شهدت تلك المؤسسة تحت إشراف حركية وندوات للحوار المسيحي الإسلامي وحظي الدكتور التيجاني الهدام باحترام أفراد الجالية المسلمة من مختلف الجنسيات وظل في هذه الخطة إلى إن دعي للانضمام للمجلس الأعلى للدولة في الجزائر. وفي 20 مارس 2000 التحقت روح التيجاني الهدام رحمه الله ببارئها راضية مرضية بعد حياة قضاها في خدمة دينه وأمته فجازاه الله خير الجزاء. الدكتور جمال ماضي أبو العزائم رحمه الله * عمل الدكتور جمال ماضي أبو العزائم في ميدان الطب النفسي منذ سنة 1943 وأحرز على أعلى الدرجات العلمية وهو عضو كلية للطب النفسي بلندن سنة 1972 وهو زميل الكلية منذ سنة 1976. وقد درس الدكتور جمال ماضي أبو العزائم الصحة النفسية فكتب عديد المقالات وهو من أسرة متدينة حيث حفظ القرآن الكريم واطلع على التفاسير المختلفة. * وخلال مشاركته في مؤتمرات منظمة الصحة العالمية بين رسالة القرآن العلمية وقد كانت للدكتور جمال ماضي أبو العزائم نشاطات جمعياتية حيث ترأس الإتحاد العالمي للصحة النفسية وهو رئيس الجمعية المركزية لمنع المسكرات ومكافحة المخدرات وهو رئيس اللجنة العالمية لمكافحة الإدمان ورئيس الجمعية العالمية للصحة النفسية وترأس الدكتور جمال ماضي أبو العزائم عديد المؤتمرات والندوات الدولية والإقليمية حول الطب النفسي الذي تولى تدريسه بجامعة الأزهر كما أشرف على إصدار مجلة النفس المطمئنة وصدر له كتاب القرآن والصحة النفسية. وقد تعرفت عليه من قرب وكنا ضيفين في ندوة إذاعية نظمت على هامش مؤتمر طبي ديني دعت إليه منظمة الصحة العالمية فرع الإسكندرية فرأيت فيه مثال الطبيب المسلم الذي يعمل جاهدا من أجل تبصير الأجيال الصاعدة والمثقفين بحقائق الإسلام وعطاءات القرآن الكريم وقد رغب مني أن أنظم إلى المجهود الذي يبذله في مكافحة المخدرات والمسكرات من خلال المنظمات الدولية والإقليمية التي يترأسها وقد ظل رحمه الله يعطي على كل الواجهات إلى أن لاقى ربه راضيا مرضيا فجازاه الله خير الجزاء.