ابن زياد وابن عرفة عنوان المدرسة الزيتونية: ضرورة الاستلهام منها والمضي فيها اليوم
جامع الزيتونة هو كعبة الشمال الافريقي العلمية اتصل فيه السند العلمي منذ القرن الثاني للهجرة بدون انقطاع يُذكر، فقد ظل يتخرج منه العلماء الأعلام الذين يملؤون السمع والبصر وينتهي عندهم كل جدل تحققت لهم عن جدارة وراثة النبوة و(العلماء ورثة الأنبياء) • والعلماء في الاسلام ليسوا رجال دين يوزعون صكوك الغفران ويتقمصون دور الوساطة بين الله وعباده !! إنهم فئة من فئات الأمة تفقهوا في الدين فهم أهل الذكر الذين أمرنا الله أن نسألهم عما لا نعلمه (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) • والعلماء هم صمام الأمان ينفون عن الدين غلو الغلاة ويحفظونه من جهل الجهلة • وتونس تعتز بعراقة جامعها الأعظم وتعتزّ بمن تخرجوا منه من العلماء الأعلام الذين حفظ التاريخ ذكرهم ولا تزال آثارهم تشهد على رسوخ أقدامهم وتحريرهم وتنويرهم الذي انعكس ايجابا على محيطهم المتمثل في هذه الأجيال المتعاقبة من فئات المجتمع المجسمة لقيم السماحة والوسطية والاعتدال والمنزع الواضح الجلي نحو التسامح والتعايش في وئام وسلام بين كل مكونات المجتمع: مسلمين وغير مسلمين • والإمامان: علي بن زياد ومحمد بن عرفة رحمهما الله واجزل مثوبتهما هما عنوان المدرسة العلمية الزيتونية بكل خصوصياتها السنية المالكية والأشعرية الجنيدية • علي بن زياد يقول عنه الشيخ الفاصل بن عاشور رحمه الله " دخل علي بن زياد تونس بهدي الهي ساقه ليحمل الأمانة النورانية ...وسطع بأفق تونس نجم علي بن زياد في خيره وعبادته وعلو كعبه في الفقه... رجع الى تونس في حدود سنة 250 هـ فكان أول من أدخل اليها الموطأ انتصب يدرس الفقه ويفسر أقوال مالك بالتوجيه والتأصيل فطار صيته في البلاد الافريقية ...وأقبل الناشؤون من طلبة العلم بالقيروان يشدون الرحلة الى تونس للأخذ عن علي بن زياد يسمعون الموطأ ويتفقهون على مذهب الإمام مالك بن أنس وطريقته فكان من الذين رووا الموطأ عن علي بن زياد عن مالك أسد بن الفرات وموسى بن معاوية وسحنون الذي قال (ما أنجبت افريقية مثل علي بن زياد) انظر أعلام الفكر وأركان النهضة بالمغرب العربي صفحة53 • وقد حقق قطعة من موطأ ابن زياد فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر رحمه الله وقدم لها بمقدمة ضافية تضمنت تعريفا بابن زياد وبالموطأ وبالمدرسة التونسية الزيتونية التي يعد ابن زياد المؤسس لها، وضع لبناتها وأقام قواعدها • وخصه الأستاذ الدكتور محمد مسعود جبران بمؤلف اختار له عنوانا: علي بن زياد الطرابلسي ودوره في نشر المذهب المالكي في القرن الثاني للهجرة ويعدّ هذا المؤلف الأول اشتمل الى جانب قسم البحث في مائة وسبعين صفحة على ملاحق تضمنت قطوفا من موطأ ابن زياد ومشاهد من مدينة طرابلس التي وُلد فيها ابن زياد وترعرع وكبر ورمس ابن زياد (قبره) في مهجره بتونس • أما العالم الثاني الذي اقترن اسمه بالزيتونة فهو الإمام محمد بن عرفة الورغمي الذي اعتبره الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله مجدد القرن الثامن فهو مولود سنة 716 أصله من قبيلة ورغمة المستوطنة بالجنوب الشرقي، نشأ بالعاصمة التونسية وتخرج على عظماء أساتذتها في عامة فروع الثقافة حتى تكون تكوينا صحيحا جامعا بين الملكات، راسخ القدم في المناهج بين شرعية أدبية وعقلية ورياضية ) انظر الصفحة 102 من كتاب أعلام الفكر وأركان النهضة • تولى الإمام بن عرفة الإمامة والخطابة والتدريس في الجامع الأعظم لعقود قاربت الخمسين كان فيها مثالا للعالم المحقق المدقق له مؤلفات كثيرة منها تفسيره الذي كان يمليه في دروسه وكان يتلقاه عنه أنجب طلابه الذين نذكر منهم الإمامين الأبي والبرزلي كما ان لابن عرفة كتاب المختصر الفقهي الذي ألفه في اثني عشر عاما (772/786) وهو مؤلف بديع في بابه جمع فيه ابن عرفة ما هجر من الأقوال والمصطلح (الحدود) مع الترجيح والاختيار والنقد والمقارنات والاستدلال والكشف عما ارتبطت به تلك الأقوال من اعتبارات باقية أو زائلة وما ارتبط به اختيارها وتشهيرها من اعتبار لظروف واقعية وإعمال لأصول نظرية على حد تعبير الشيخ الفاضل رحمه الله • وتقول كتب التاريخ انه لما تولى ابن عرفة إمامة الجامع الأعظم (الزيتونة) لم يتقبل إمامته أهل تونس واشترطوا عليه شروطا تقبلها منها عدم أكل التين !! ومن فضل الله عليه كما قال: لم آكله قط، وان لا يمشي حافيا في الأرض فابتكر المداس • ولم يتخلف رحمه الله عن الإمامة الى ان وافته المنية تولى الفتيا ولم يتول القضاء خشية ان تكره إمامته واشتهر رحمه الله بالتقوى والصلاح والورع وعُرف بكثرة الصيام والصلاة والذكر والصدقة وبذل المعروف وكان كثير التردد على المغارة الشاذلية يعتكف فيها الأوقات الطويلة ويسأل الله أن يفتح عليه ببركاتها، وكان والده رجلا صالحا متعبدا انتقل الى المدينة المنورة مجاورا الى ان توفي بها، وأثر عنه انه كان يدعو لابنه محمد بعد تهجده بقوله (يا نبي الله محمد بن عرفة في حماك)، كما كان يطلب من الخطيب حينما يناوله عصاه ان يدعو لابنه محمد، وقد كان الإمام بن عرفة يذكر صنيع أبيه بكل اعتزاز معتبرا ذلك من أسباب توفيق الله له وما أفاء وتكرم به عليه من علم وعمل وعلو منزلة (كثرة تآليف وطول إمامة لجامع الزيتونة (ما يقارب خمسين سنة) وسعة في الرزق وكلمة مسموعة وطول عمر) حتى قال في أخريات حياته بلغت الثمانين بل جزتها فهان على النفس صعب الحمام وآحاد عصري مضوا جملة وعادوا خيالا كطيف المنام وأرجو به نيل صدق الحديث بحب اللقاء وكره المقام وكانت حياتي بلطف جميل لسبق دعاء أبي في المقام • رحم الله الإمامين علي بن زياد و محمد بن عرفة فقد كانا عنوانين للمدرسة العلمية الزيتونية جسما كل خصوصياتها، لقد نحتا الهوية الدينية للبلاد التونسية التي صمدت في مواجهة كل الهجمات الغازية التي استهدفت شرذمة أهل تونس • والزيتونة اليوم وهي تعيش تجاذبات أبعد ما تكون عن الخصوصيات التي عرفت بها مدعوة الى الاستلهام من مسيرة ومآثر هذين العلمين الجليلين من أعلام الزيتونة الأبرار: ابن زياد وابن عرفة • الزيتونة الجامعة تحكمها أنظمة أكاديمية ينبغي ان تمضي فيها الى آخر مدى في مراجعة برامجها ومناهجها مواكبة لكل مستجد في تفاعل مع المحيط المليء بالمتغيرات • والزيتونة الجامع يمكن ان تستحدث فيه كراس علمية على غرار ما هو معمول به في القرويين والأزهر لتدريس الموطأ والصحيحين وتفسيري القرطبي والتحرير والتنوير وكذلك الأمر في اللغة والسيرة والعقيدة والفقه من متن ابن عاشر الى الرسالة والمختصر الخليلي وتكون هذه الكراسي العلمية مفتوحة للجميع • أما إمامة الصلوات الخمس والجمعة والعيدين فمن الأجدر ان تعود الى اصحابها من السادة الأشراف الكرام فأهل تونس حاضرا مثلما كان ماضيا لا يترضون بسواهم أئمة لجامعهم الأعظم عربون تعلق صادق بجدهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم