أين المسلمون مما يدعوهم إليه دينهم ويرشدهم إليه نبيهم عليه الصلاة والسلام

أين المسلمون مما يدعوهم إليه دينهم ويرشدهم إليه نبيهم عليه الصلاة والسلام


حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلم على تجسيم صفة الرّحمة بفعله قبل قوله وبسلوكه وسيرته قبل الدعوة إليها بلسانه ولا شك أن مظهر الرحمة في الرسالة المحمدية يبدو جليا واضحا لا عناء في كشفه واستعراضه وكيف لا يكون الأمر كذلك والله سبحانه وتعالى يقول لنبيه الكريم عليه الصّلاة والسلام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فهو عليه الصّلاة والسلام الرحمة المهداة إلى عباد الله أجمعين بالإمهال للجميع وعدم التعجيل لهم بالعذاب والعقاب إن هم تنكبوا الجادة والطريق المستقيم وقد كان الله في ما مضى قبل بعثه سيد الأنام يعجل للنّاس بالعذاب إذا طغوا واستكبروا وينزل بهم شديد عقابه في هذه الحياة الدنيا والقرآن الكريم حافل بأخبار أقوام بغوا وأفسدوا في الأرض فأصبحوا بين عشية وضحاها أثرا بعد عين من أمثال عاد وثمود وغيرهم كثير. وببعثة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم أمهل الكافرون بالله كما أمهل العصاة والمذنبون لعلهم ينيبون ويتوبون فيجدون الله غفورا رحيما وهذا الإمهال يمتد إلى آخر لحظة في عمر الإنسان. كما فتح الله ببعثة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم باب الرجاء على مصراعيه وهو رجاء لا قنوط معه من رحمة الله الواسعة هذه الرحمة التي وسعت كل شيء، وأحب عباد الله إلى الله من عرفهم برحمة الله بهم وحبه لهم ولا شك أن لفت أنظار عباد الله إلى ما يتمرغون فيه من نعم تغمرهم في كل أحوالهم: ظاهرا وباطنا في حالات إقبالهم وإدبارهم من شأن ذلك في أغلب الأحيان أن يعيد الوعي إلى الكثير منهم فيندمون على ما قدمت أيديهم ويعترفون بظلمهم لأنفسهم ويرددون قول ربهم (سبحانك إني كنت من الظالمين) وأعلى درجات الظلم هو الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وسواه وقواه ولهذا اعتبر الله سبحانه وتعالى الشّرك ظلما عظيما حيث قال في كتابه العزيز (إن الشرك لظلم عظيم) لقمان الآية 18. ولم يقبل الله سبحانه وتعالى مع الشرك عملا ولم يقبل من المشرك صرفا وعدلا وقال سبحانه وتعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النّساء الآية 48. ورحمة من الله لعباده وتجنيبا لهم أن يكفروا بالذي خلقهم وسواهم وهبهم العقول القادرة على التمييز والتفكير وأرسل لهم الرسل والأنبياء وأنزل لهم الكتب والصحف وقال (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء الآية 15. ولابد مع ذلك من الإبلاغ وإقامة الشّهادة ولأجل ذلك ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يردد بين كل فقرة وفقرة من خطبته العصماء في حجة الوداع (ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) وما ذلك إلا لأنه عليه الصّلاة والسلام جعله الله شاهدا ومبلغا وجعل أمته شاهدة ومبلغة (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الر سول عليكم شهيدا) وقد اعتبر العلماء إقامة الحجة مرتبطة ببلوغ الدعوة فمن بلغته الدعوة قامت عليه الشهادة ومن لم تبلغه الدعوة لم تقم عليه الشهادة. والتّساؤل الذي يفرض نفسه: هو هل نعتبر بلوغ الدعوة بمجرد السماع ببعثة محمد عليه الصّلاة والسلام بدين الإسلام مهما كانت الكيفية التي تتم بها ومهما كانت الملابسات التي تصاحب هذا السّماع أم أنه لابد أن يبلغ إلى أسماع الناس وعلمهم بأن الله بعث نبيه محمدا عليه الصّلاة والسّلام وأوحى إليه بالدين الخاتم دين الإسلام الذي يدعو إلى توحيد الله وعدم الشرك به والقيام بعبادته سبحانه وتعالى واجتناب ما حرم من الفواحش كل ذلك مصحوبا بتبيين مقاصده وغاياته والتي من أهمها درء المفاسد عن الإنسان وجلب المصالح له والتيسير عليه في كل أموره وشؤونه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة الآية185. وهذه الكيفية من الإبلاغ وإقامة الحجة على العباد ليؤمن من يؤمن على بينة ويكفر من يكفر على بينة هي الأنسب والأقرب. وفي هذه الحالة يصبح القليل من الناس ومن الأمم والأقوام هم الذين بلغتهم الدعوة وأقيمت عليهم الحجة أما البقية الباقية فهم إما لم يسمعوا تماماً ببعثة سيد الأنام عليه الصّلاة والسلام أو أنها بلغتهم مقترنة بما نعلمه ونعرفه من شبهات وافتراءات وأكاذيب حتى يصبح الإسلام عندهم وكأنه يساوي التخلف والتزمت والتعصب والإرهاب والمذلة والمهانة والانقسام والتشرذم والأمية والخرافة والشعوذة والتكاسل والتواكل وغير ذلك مما نرى له وعليه في واقع المسلمين ألف حجة وحجة فهل يعقل بعد ذلك أن تقام بمثل هذه التصرّفات والعناوين حجة من الله على عباده كلا وألف كلا. * ولا شك أن القول بأن الإسلام شيء وتصرّفات المسلمين شيء آخر قول صحيح. * وهل كل الناس يعرفون الإسلام على حقيقته من أصوله وسيرة نبيه عليه الصّلاة والسلام؟. * الجواب هو لا شك بالنفي ولهذا سيظل الحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين أفرادا وجماعات ويا ليت المسلمين على الأقل يعلنون لكل الناس وإن الإسلام شيء وتصرفاتنا وأوضاعنا شيء آخر حتى لا يظلم الإسلام ولا تحمل عليه جريرة المسلمين. * لقد كان الوعي بضرورة التطابق بين القول والفعل والشعار والتطبيق ماثلا في أذهان أسلافنا الكرام رضوان الله عليهم اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي كان إسلاما مجسما وقرآنا يمشي على الأرض وبين الناس وكم كانت ملهمة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت لمن سألها عن أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت “كان خلقه القرآن” وفعلا فإن الدارس لسيرته القارئ لها بتمعن وتدبر يجدها تتطابق تمام التطابق مع ما جاء في القرآن الكريم وما كان عليه الصّلاة والسلام ليدعو الناس إلى قيمة من القيم أو أمر من الأمور قبل أن يكون قد سبقهم إليه ليقيم عليهم الحجة فتكون حينئذ دعوته إليهم دعوة حال وليست دعوة مقال وشعار وشتان بين دعوة المقال ودعوة الحال ومما أقام عليهم الحجة ودفعهم إلى الاقتداء به عليه الصّلاة والسّلام هو أنه رسول إنسان وبشر سوي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوّج النساء فهو منهم ومن طينتهم البشرية الآدمية ولو لم يكن كذلك لتعلل الناس بأن ما يدعوهم إليه ويأمرهم به هو فوق الطّاقة والمستطاع لقد كان عليه الصّلاة والسلام صدقا وأمانة وعفوا وعفافا وكرما وإحسانا ولطفا وحسن معاشرة كل ذلك يراه منه الخاص والعام والقريب والبعيد والمسلم والكافر فلا يزداد المقترب منه إلا تقديرا وتعظيما وحبّا له. وتلك الجوانب العظيمة من شخصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي التي كانت وراء الإيمان بما جاء به ودعا الناس إليه. والنّاس يكبرون ويحترمون من يستطيع أن يحقق التطابق بين قوله وفعله في كل أموره وأحواله ما ظهر منها وما خفي وقد ضرب في ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أروع الأمثلة وسل عنه إن شئت برهانا ودليلا عائشة وأنس بن مالك وغيرهما ممن كانوا بجانبه عندما يغيب عن أعين الناس فقد عرفوه من قرب فلم يروه تغير أو تبدل ولم يروه تناقض أو تضارب وازدوج بل رأوه هو هو في كل أحواله: عسرا ويسرا وشدة ورخاء وحربا وسلما وفقرا وغنى وغضبا ورضا فشهدوا بما رأوا وهم خير من يعرف هذا الرجل لأنهم عاشروه وعايشوه من قرب فكان الغالب على أحواله الطاغي على كل تصرفاته الرفق واللين والرأفة والرحمة لقد كان عليه الصّلاة والسلام آية في ذلك وكيف لا يكون كذلك والله يقول في حقه (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم الآية4. ويقول في مورد المنة به على المؤمنين (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التّوبة الآية128. وتقول كتب السيرة أنه عليه الصّلاة والسلام ما قال لاقط وأنه ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن حراما وأنه عليه الصّلاة والسلام ما قال أف ولم يغضب قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله وأنه كان يقول إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ويقول: إن الله كتب الإحسان على كل شيء ويقول الراحمون يرحمهم الرحمان إرحم من في الأرض يرحمك من في السماء وحدث عن إشفاقه ورأفته ورفقه بالضعاف من الأيتام والأطفال والنساء والعجائز والشيوخ والمبتلين والمصابين ولا حرج فقد كان قمة اجمع على تعظيمها الجميع وكيف لا يكون كذلك والله يقول له (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) آل عمران الآية159. لقد كان كذلك يعفو عن أمته ويستغفر لها الله ويشاورها في الأمر فكانت الأيام والأحداث لا تزيده من الأمة إلا قربا وتعلقا وقد بلغ من رفقه ورحمته بأمته أنه يخفف في الصّلاة إذا استمع صراخ طفل صغير ويأمر بإهراق دلو ماء على بول أعرابي رادا عنه السيوف التي توجهت إليه مما دعا الأعرابي إلا التوجه بالدعاء إلى الله وقد كاد أن يهلك لولا رفق ورحمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم (اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا) وقد ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقول هذا الأعرابي وقال له ضيقت واسعا يا أخ العرب ورحمته عليه الصّلاة والسلام يوم الطائف ويوم فتح مكة حيث قال: اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون وقال (أذهبوا فانتم الطلقاء) خير دليل على ما نقول. * وفق هذا المنهج القويم والصراط المستقيم سار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن تبعهم من السلف الصالح الذين حرصوا على أن تتطابق أفعالهم مع أقوالهم وظواهرهم مع بواطنهم فكان مسلكهم هذا ابلغ دعوة للإسلام وبسرعة كبيرة عم نور الإسلام الآفاق البعيدة ولم نسمع بأن جيوشا للفتح وصلت إلى مجاهل أفريقيا وأقاصي آسيا ولكن الإسلام وصل إلى هناك ولا يزال يتقدم وذلك بالموعظة المجسمة والسلوك القويم والأدب الرّفيع المستمد من أدب وسلوك رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي (أدبه ربه فأحسن تأديبه). * إنّ المسلمين مدعوون إلى وقفة تأمل على مستوى كل فرد منهم للمحاسبة، والكيس هو من دان نفسه والذين يجاهدون أنفسهم هم الذين يهديهم الله إلى السّبيل القـويم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلناك) العنكبوت الآية69 ومثل هذه الوقفات للمحاسبة هي التي علينا أن نتواصى بها ويذكر بعضنا البعض بضرورتها وأهميتها وتأثيرها الكبير على مسيرتنا ومصيرنا في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة ومما يسهل علينا هذه العملية أن القدوة والنّموذج والمثل وهو رسول الله صلّى الله عليه وسل قائم بين أيدينا في القرآن الكريم والسيرة العطرة التي قدم لها ولنا السلف الصالح أجل خدمة بتنقيتها وجمعها وتبويبها. إنها بحر زاخر بالعطاء الذي لا ينتهي ولا ينضب نجد فيه جميعنا ما نبتغي من فلاح ورشاد وبالخصوص في التعامل الأمثل في ما بيننا برفق ولين ورحمة وحب وعطف لنغدو بحق جسدا واحدا وبنيانا مرصوصا وأمة واحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربك فاعبدون) الأنبياء الآية92 إنها خير أمة أخرجت للناس وهي الأمة الشاهدة والمبلغة بفعلها الحسن وسلوكها السليم وذلك لعمري ميدان عظيم الشأن جدير بالاهتمام يتنافس فيه المتنافسون ليظفروا بجوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الجنة حيث يقول عليه الصّلاة والسلام (هل أدلكم على قربكم مني مجالسا يوم القيامة؟ قالوا: بلى قال: أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون). * ولاشك أن الأخلاق المقصودة في الحديث هي السلوك العام والمعاملة في كل الحالات والمجالات بمعنى أن تكون تقوى الله وخشيته ومراقبته في الصغيرة والكبيرة هي الطاغية على حال المسلم عملا بالحديث الشريف والوصية النبوية الخالدة (أتق الله حيثما كنت) وسيرا على منهج ذلك العبد الصالح الذي اتخذ لنفسه وردا من الذكر يتمثل في قوله (الله معي الله ناظر إلى الله شاهد علي) ومن كانت هذه حاله مع نفسه ومع غيره فلن يصدر منه نحو نفسه وغيره إلا الخير والأمن والسلامة وما يقوي لحمة التآخي التي هي الشّغل الشاغل للبشرية جمعاء في مختلف محافلها ومنظماتها ومؤتمراتها. * والمسلمون أجدر النّاس بالنهل من معين دينهم وسيرة ومعاملة نبيهم عليه الصّلاة والسّلام فذلك واجب أمرهم به ربهم في كتابه العزيز (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) الأحزاب الآية 21.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.