“اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة”
يقول الله تعالى: “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم”. صدق الله العظيم الآيات 30 و31 و32 من سورة فصلت هذه الآيات من سورة فصلت وقد جاء في سبب نزولها عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله فلم يستقيموا قال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله فاستقام. وفي الترمذي عن انس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام قال: حديث غريب. ويروى في هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي معنى (استقاموا) في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا اسأل عنه أحدا بعدك، وفي رواية غيرك قال: قل آمنت بالله ثم استقم) زاد الترمذي قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال فاخذ بلسان نفسه وقال: هذا. وروي عن أبي بكر رضي الله عنه انه قال (ثم استقاموا) لم يشركوا بالله شيئا. وروى عن الأسود بن هلال انه قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) و(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة فقال أبو بكر: لقد حملتموها على غير المحمل (قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فلم يلتفتوا إلى اله غيره (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) بشرك (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). وروي عن عمر رضي الله عنه انه قال على المنبر وهو يخطب (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فقال: استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يرغوا روغان الثعالب وقال عثمان رضي الله عنه: ثم اخلصوا العمل لله، وقال علي رضي الله عنه: ثم أدوا الفرائض وقال زيد وقتادة: استقاموا على الطاعة، وقال الحسن: استقاموا على ما أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا، وقال سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الربيع: اعرضوا عما سوى الله، وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقيل: استقاموا اسرارا كما استقاموا اقرارا، وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا، وقال انس لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم هم: أمتي ورب الكعبة، وقال الإمام ابن فورك: السين طلب مثل استسقى أي سألوا من الله أن يثبتهم على الدين، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة، وعقب القرطبي على كل هذه الأحاديث والآثار والأقوال للصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من العلماء الأعلام بقوله (قلت وهذه الأقوال وان تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا وداوموا على ذلك) انظر الصفحة 358 من الجزء الخامس من تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي وقد أوردتها كما جاءت تعميما للفائدة وباعتبار انه لا يجوز أن يفسر القرآن دون معرفة أسباب النزول وما جاء في معاني آيات الكتاب من أقوال السلف الصالح: الصحابة أولا وهم الذين شهدوا نزول الوحي وعاشوا أحداثه وكانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ما نقله عنهم من تبعهم من السلف الصالح وقد اثر عن سيدنا أبي بكر قوله (أي سماء تظلني وأي ارض تقلني إن أنا قلت في القرآن برأي) وعلم أسباب النزول هو احد أساسيات التفسير لكتاب الله وهذا لا يعني أن الآيات المرتبطة بأسباب نزول لا تتعلق إلا بتلك الحالات فقد قيل (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وذهب فضيلة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله انه يمكن التعبير عن أسباب النزول بمناسبات النزول.وهذه الآيات (إن الذين قالوا ربنا الله..) تتعرض إلى مجال هام جدا من الدين هو لب الدين وصميمه فكل الأوامر والنواهي لا تهدف إلا إلى الوصول بالمؤمن إلى هذه المرتبة العالية إلا وهي سلوك الطريق المستقيم وهو ذلك الوارد في سورة الفاتحة التي يرددها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته المفروضة وغير المفروضة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) يقول جل من قائل على لسان عبده المؤمن الواقف بين يديه (اهدنا الصراط المستقيم) والذي هو الاستقامة. هؤلاء الذين استقاموا جزاؤهم من ربهم ما جاء في قوله تعالى (تتنزل عليهم الملائكة) قال ابن زيد ومجاهد عند الموت وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث وقال ابن عباس: وهي بشرى تكون لهم من الملائكة في الآخرة وقال وكيع وابن زيد: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث (ألا تخافوا) قال مجاهد: لا تخافوا الموت (ولا تحزنوا) على أولادكم فان الله خليفتكم عليهم وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد ثوابكم فانه مقبول ولا تحزنوا على ذنوبكم فاني اغفر لكم وقال عكرمة ولا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ذنوبكم (وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) ذلك وعد من الله لن يخلفه ويزيد الله لعباده من فضله (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) أورد القرطبي أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة (نحن أولياؤكم) قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قالوا: لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة) وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأوليائكم في الآخرة ويعقب القرطبي على ذلك بقوله: ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى والله ولي المؤمنين ومولاهم انظر الصفحة 359 من الجزء الخامس عشر من تفسير الجامع لأحكام القرآن. وقوله تعالى (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) من كل ما لذ وطاب (ولكم فيها ما تدعون) ما تسألونه وما تتمنونه (نزلا من غفور رحيم) قال القرطبي رزقا وضيافة وقيل لكم ما تدعون نازلين كل ذلك من عند رب غفور رحيم وما أجمله ختم الآية بصفتي الغفران والرحمة نسأل الله أن يجعلنا من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا انه سبحانه وتعالى سميع مجيب.