خطبة جمعية ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع بمقرين العليا حول أسباب فلاح المؤمنين (2)
الحمد لله حمدا يليق بمقامه وأشهد أن لا إله إلا الله رب كريم بالمؤمنين رؤوف رحيم وأشهد ان سيدنا محمدا عبده ورسوله جاء بالحق بشيرا ونذيرا أخرج به الله الناس من الظلمات الى النور وأيقظهم من غفلتهم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الى يوم الدين أما بعد أيها المسلمون نواصل العيش مع معاني سورة المؤمنون، نعيش لحظات قصيرة مع المؤمنين المفلحين الذين عدد المولى سبحانه وتعالى صفاتهم في أوائل السورة، ذكر خصالهم وما أعد لهم من جنات النعيم سينزلهم ربهم مقامات عالية جزاء لما قدموا في هذه الحياة الدنيا فلقد بدأت السورة كما رأينا بقوله تبارك وتعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون) انتهينا عند هذا الحد ورأينا ان الشرطين الأولين تحققا في سلفنا الصالح رضي الله عنهم فقد كانوا خاشعين في صلاتهم وكانوا معرضين عن اللغو فخشوعهم في صلاتهم ناتج عن تقديرهم لحقيقة هذه الوقفة فهم عندما يكبرون يستشعرون مباشرة أنهم بين يدي رب الأرباب، بين يدي من يمهل ولا يهمل، بين يدي من إذا أخذ أخذ أخْذ عزيز مقتدر لذلك قدروا هذه الوقفة حق قدرها وناجوا ربهم واعترفوا له بتقصيرهم وضعفهم وخاطبوه بقلوبهم قبل ألسنتهم وباحوالهم قبل مظاهرهم، لقد خشع فيهم كل شيء، اللسان والقلب وكل الجوارح ولهذا روى لنا التاريخ ان كثيرا منهم تدركه المنية وهو بين ركعة وسجدة ويلاقي ربه باكيا خائفا من أهوال مشاهد يوم القيامة وحكت كتب التاريخ أن من السلف الصالح من يبقى طول الليل قائما يردد آية واحدة لعظم ما رآه وأبصره قلبه من دروس وعبر لا يعرفها ولا يدركها إلا الخاشعون في صلاتهم ومن أنعم الله عليه بنعمة الخشوع، وقليل منا من يخشع، من ينعم الله عليه بهذه النعمة يحرز على السعادتين في هذه الدار وفي الدار الآخرة، وأي سعادة تساوي لذة وحلاوة مناجاة رب العالمين لذلك قال احد العارفين الصالحين (لو أدرك الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه) وما فيه الصالحون ليس إلا حلاوة الإيمان ولذة المناجاة والدعاء، إنها لذة لا تساويها أية لذة ونعمة لا تساويها أية نعمة. فمن انعم الله عليه بالخشوع في الصلاة صار مستجاب الدعاء محقق الآمال إذا أراد شيئا حققه له مولاه، ان من خشع في صلاته سيصل في النهاية الى تلك المرتبة السامية التي يقول عنها ربنا في الحديث القدسي (لا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ورجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه) ولقد أدرك السلف الصالح هذه المرتبة السامية بخشوعهم في صلواتهم ولم يتحقق لنا ما نامل ولا ما نرجو ولم يستجب لنا الدعاء ولم يرفع عنا البلاء لأننا فقدنا الخشوع في صلواتنا وليس لنا منها إلا الرسوم والطقوس والمظاهر ومن خشع قلبه في الصلاة لا يمكن ان ينزل الى الحضيض والسفاسف وهي اللغو، لا شك ان الشرط الثاني الذي اشترطه ربنا للفلاح ناتج عن الشرط الأول فمن تحقق فيه الشرط الأول فلا شك ان الشرط الثاني وهو الإعراض عن اللغو والابتعاد عنه وترك مجالسه سيكون سهلا ويسيرا عليه وما فائدة اللغو؟ لا ربح يجنى منه بل خسارة فادحة فالذي يسمح لنفسه باللغو وحتى سماعه أفقد نفسه مهابتها وجلالها ونورها وتأثيرها ونزل بها الى الترهات والسفاسف ولا يلومن الا نفسه التي اوردته موارد التهلكة وجرته الى العواقب الوخيمة في هذه الدار وفي الدار الآخرة. إن عقلاء الناس فضلا عن المؤمنين الخاشعين المعتبرين يصدون عن مجالس اللغو والفجور لأنها أماكن السفهاء الفلتاء أما العقلاء الأتقياء الأنقياء فإنهم ينزهون أسماعهم وأبصارهم وأشخاصهم بصفة عامة عن هذه المستويات المنحطة بعد هذه التوطئة الضرورية نأتي الى الصفة الثالثة التي اشترطها ربنا لفلاح المؤمنين وصلاحهم وإحرازهم على رضوان ربهم ونعيمه والفوز بجنانه يوم الفزع الأكبر والخلود في تلك الجنان جزاء بما صبروا وما لاقوا في سبيل ايمانهم من تضييق وتشديد من طرف الجاهلين المعرضين عن ربهم قال جل من قائل (والذين هم للزكاة فاعلون) والزكاة في اللغة من زكا يزكو بمعنى نما ينمو وهي في الشرع القيمة التي فرضها ربنا في أموال الأغنياء يؤدونها للفقراء في مختلف أصناف المال: من تجارة وأموال وزروع *والزكاة هي التزكية والتطهير ومنها قوله تبارك وتعالى (قد أفلح من زكاها) بمعنى طهرها من الشرك والدنس، والزكاة من أركان الاسلام ولقد حارب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وقال (والله لا أفرق بين أمرين جمعهما الله (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وبذلك حافظ على وحدة الاسلام إذ لو تساهل لما بقي اليوم من الاسلام ركن واحد ولكنه رضي الله علم ان الزكاة من حق الاسلام ولذلك قاتل مانعيها وقضى على أطماعهم الخبيثة ومراميهم الجهنمية. *والزكاة في هذه الآية (والذين هم للزكاة فاعلون)مطلقة يجب ان لا تقيد فليس المقصود فقط المقدار الواجب تأديته من أموال الأغنياء بل تدل على هذا وعلى المعنى الواسع للتزكية الواجبة على كل مؤمن غني أو فقير فعلى كل مسلم ان يفعل هذه الزكاة التي هي بمعنى التطهير والتنظيف للنفس من كل امراضها، اننا ننظف أجسادنا ولباسنا ونحرص على الظهور في مظهر جميل وجذاب ولكننا لا نحاول ان نزكي أنفسنا ونطهرها من امراضها الكثيرة، لا نفعل ذلك بسبب ضعف ايماننا فمظاهرنا يراها الناس وبواطننا يراها من لا تخفى عليه خافية، من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقد امرنا بتطهير وتنظيف قلوبنا من الحسد والنفاق والرياء والبغضاء وكل أمراض النفس وكل هذه الأمراض تنخر قلوبنا من الداخل وتحبط اعمالنا وتجعلها مردودة علينا لا ننتفع بها قال صلى الله عليه وسلم ( إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر العمل ألا وهي القلب) فالتزكية واجبة والتطهير للقلب واجب أما الجانب الثاني من الزكاة وهو الذي يتبادر الى الذهن فهو المقدار الذي أوجبه ربنا على أغنياء المسلمين يؤدونه الى فقرائهم.والزكاة ليست صدقة ولا هدية ولا عطية بل هي حق واجب الآداء قال تعالى (الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وهذا الحق لن يتلف الأموال الباقية ولن يهلكها بل سيزكيها وينميها ويطهرها سيجعلها مباركة إن هذا المقدار الضئيل الذي يؤديه الغني من ماله سيحقق به عدة غايات دنيوية واخروية أما الدنيوية فإنه سيطفئ ما في نفس الفقير مما عسى ان يحدث من كراهية وبغضاء، فالزكاة تطفئ هذه المشاعر الشريرة في نفس الفقير وتشعره بأنه اخ للغني لا فرق بينهما الا بالتقوى وان ما يعطيه المزكي واجب وليس صدقة حق للأمة يأخذه الحاكم ليرده على الفقراء ولذلك فإن من شروط الزكاة ان تسلم للساعي وهو العامل عليها حتى لا يشعر الفقير حال تسلمه بأي حرج ولا مركب وكذلك لا يشعر المؤدي للزكاة باستعلاء والمال الذي تخالطه الزكاة، المال الذي لم تؤد عنه الزكاة هذا المال يقول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما خالطت الزكاة مالا إلا أهلكته) ان من لم يؤد الزكاة من ماله وآثر بقاء مال الزكاة مع بقية المال يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ذلك الصنيع سيهلك وسيتلف وسيهلك صاحبه في الدنيا وفي الآخرة والزكاة اذا أداها الغني بات مطمئنا راضيا فرحا بما وفقه الله اليه فقد تغلب على نزواته وشهواته ونفسه الأمارة بالسوء واقتطع جزءا من ماله وأعطاه بدون مقابل وقد سهر الليالي من أجل جمعه. إن المزكي يفعل ذلك عن طيب خاطر وطواعية نفس وإخلاص لا يقصد من وراء ذلك الا جزاء المولى اذا فعل ذلك فانه يكون من الذين أفلحوا والذين سيدخلون الجنة ويخلدون فيها والزكاة عبادة فهي عبادة مالية ذات نفع اجتماعي كبير، الزكاة تقضي على الفقر والحاجة في المجتمع الاسلامي والمقدار الذي فرضه الله على الأغنياء كاف للايفاء بحاجة الفقراء والمحتاجين وغير مضر بأموال الأغنياء لأنه مقدار ضئيل ففي الزكاة مصلحة المؤدي لها والمجتمع الذي ستؤدى فيه وعندما طبق المجتمع الاسلامي الأول الزكاة لم يبق في المجتمع فقير ولا محتاج حتى ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكلف من ينادي في الناس هل من عاجز عن الزواج فنزوجه من بيت مال المسلمين؟ هل من عابر سبيل فنعطيه ونؤويه؟وكذلك في عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز فإن التاريخ يروي ان الفرسان المحملة بأموال الزكاة تسير أياما ولا تجد فقيرا تعطيه الزكاة فترجعها الى بيت مال المسلمين و عاش المجتمع الاسلامي الأول في رغد عيش وطمأنينة وعدالة اجتماعية لم يشهد التاريخ لها نظيرا ويعيش المسلمون اليوم في فقر وحاجة وفاقة لأنهم ابتعدوا عن منهج الصلاح والفلاح عن شريعة الاسلام الخالدة التي كانت سبب عزتهم وقوتهم ونهضتهم ان تطبيق نظام الزكاة كفيل بالقضاء على الفقر في المجتمع الاسلامي والزكاة كفيلة بالقضاء على ما قد يحدث من صراع طبقي وتنافر اجتماعي وتناحر بين الأغنياء والفقراء لقد اعترف بذلك غير المسلمين فلقد كتبت صحيفة انقليزية تقول (ان الذي يكفل بحل مشاكل المجتمع الانقليزي هو تطبيق ما يسمى عند المسلمين بفريضة الزكاة) فإذا كان الانقليز يرون الزكاة تقضي على الفاقة والحاجة في المجتمع الانقليزي فما بالك بمجتمعنا الاسلامي المليء بالمساكين والفقراء والمحتاجين ولن يقع القضاء على الفقر إلا بتطبيق فريضة الزكاة *والزكاة اعتنى بها الاسلام واشترط لها شروطا منها بلوغ النصاب وحولان الحول كما حدد المولى سبحانه وتعالى مصارف الزكاة ومواطن انفاقها حتى لا يقع العبث بأموال المسلمين فقال جل من قائل (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) فالآية حددت بوضوح مصارف الزكاة وبينتها بحيث شملت كل حاجات المجتمع فلا يجوز إنفاقها إلا في هذه الوجوه ولقد توسع بعض العلماء العارفين بمقاصد الشريعة وروحها فرأوا في مصرف (سبيل الله) انه يشتمل كل وجوه البر والإحسان من بناء المستشفيات والطرق والمدارس والمساجد، فكل ذلك في سبيل الله ولا يخرج عن سبيل الله هكذا نرى ان الزكاة هذه العبادة اعتنى بها الاسلام ونظمها وأعطاها ما تستحق من الاهتمام ولذلك جعل من شروط الاحراز على مرضاة ودخول جنانه والخلود فيها أداء الزكاة (والذين هم للزكاة فاعلون) وبعد ذلك قال ربنا (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) صدق الله العظيم صفة أخرى وصف الله بها عباده المتقين وقيد بها دخولهم جنات النعيم سناتي الى تفصيل الكلام فيها ان شاء الله هذا وخير ما يختم به الكلام كلام مولانا العزيز العلام أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمان الرحيم (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللهو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون) صدق الله العظيم وأستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم انه هو الغفور الرحيم