الحق حق من أي فم صدر
الأفكار السديدة والنظريات العميقة يجب أن يكون لها اعتبار في دنيا القيم كيفما كان مركز أصحابها وكيفما كان جنسهم أو لونهم أو لغتهم لأن المهم دائما هو في المقاصد والمحتويات وما سوى ذلك يجب أن ينظر إليه كعرض لا يمس الجوهر ولا ينقص من قيمته فالحق حق من أي فم صدر. والباطل باطل ولو تعلق صاحبه بأذيال القمر: هذه هي الحقيقة التي يود كل عاقل أن يراها وهي التي عناها الأثر العظيم الذي يقول (الحكمة ضالة المؤمن التقطها حيث وجدها) ولكن أين نحن من هذه الحقيقة إذ أصبح جمال أزواجنا لا يملأ عيوننا، وطعام أهلنا لا يشبع بطوننا؟ أين نحن منها إذا كان الكلام يوزن بغير موازينه الحقيقية ويسمع بالعين التي تنظر إلى القائل لا بالأذن التي تلفظ القول؟ ويصل الغباء بأهله إلى درك سحيق فيصفقون إعجابا ويرقصون طربا لفكرة أو نظرية نسبت إلى فلان صاحب المركز المرموق في دنيا الأفكار والنظريات ولا يحركون ساكنا ولا يعيرون انتباها لتلك النظرية ذاتها اذا نسبت إلى شخص آخر لم تتح له فرص الظهور والاشتهار حتى لو كانت نظريته أدق وفكرته أصح، ولم يكن هذا القلب وهذا التحريف من الأمور المستحدثة التي جاء بها عصرنا الحاضر في جملة ما جاء به من انحرافات وبدع بل هو قديم قدم الزمان والانسان ولم تستطع الانسانية ان تتخلص منه لأنه من الأوهام والخيالات التي تغذي ما في الانسان من ضعف يأبى إلا أن يبرز في شتى الصور وعديد المظاهر مهما حاول الأذكياء أن يستأصلوه أو يبالغوا في إخفائه عن عيون الناقدين والذي يسترعي الانتباه ويستوجب الأسف ليس هذا الأمر الذي عمت به البلوى وألفه الناس في كل عصر وإنما هو لون آخر يشبهه في الانحراف والقلب ويتجاوزه إلى أبعاد أخرى في الضعف وتذبذب الشخصية ويتمثل هذا في الإعراض التام عن كل انتاج محلي والاحتقار الكلي لكل ما أنتجته وتنتجه القرائح الوطنية حتى لكأنها أصيبت في نظرهم بدوام العقم والتخريف والغريب الأغرب انهم يظنون بكلمة الدوام هذه عن مستحقها الأصلي، ويدعون أنه لا يمكن لشيء ما أن يدوم أو يخلد ما دامت سنة الحياة تقتضي التطور الدائم وتقر مبدأ النشوء والارتقاء. إن هذا لهو أفدح نوع من أنواع التخلف الذهني إلا أن أصحابه كانوا من الجرأة والقوة بحيث يستطيعون أن يسموا تخلفهم تقدما وتقدم غيرهم تخلفا لأن نظرة سطحية عجلى في تحديد المفهوم الصحيح للتخلف الذهني تجعلنا نؤمن بأن أول مظهر من مظاهر التخلف هو قابلية التشكيك في القيم الشخصية والاجتماعية والاستعداد للتخلي عنها جملة وتفصيلا، والاستعداد أيضا لقبول كل جديد مستورد على علاته: انه مصدر للكمال الانساني الذي ليس وراءه زيادة لمستزيد إن الصور التي تمثل هذا الاتجاه لتكمن في كل زاوية وفي كل ركن من زوايا وأركان المجتمعات النامية، وهي كغيرها من جميع الأفكار تبدو في أول أمرها كمحاولة محتشمة فان وجدت تنشيطا أو غفلة سرت في الصغار والكبار سريان النار في الهشيم وسرعان ما تصبح عادة على قاعدة التهديم أيسر من البناء. لست في حاجة إلى الإكثار من الأمثلة لتشخيص هذا الداء الأخلاقي وبالأحرى هذا اللون من التخلف المزوق بل سأكتفي بصورة واحدة حية رأى الأساتذة والمربون من مثيلاتها العشرات ورأى المجتمع ما لا عدد له هذه الصورة هي أن أستاذا من أساتذة الفلسفة انبرى ذات يوم يحقق فلسفة اسلامية ويقيم عليها من أدلته التي اختارها ما يجعلها مستقرة في أذهان تلامذته ويشاء الأستاذ اللبق أن يتمكن درسه من نفوس أبنائه الذين سبر أغوراهم وخبر طواياهم فيقول إن هذه النظرية قال فيها الفيلسوف العظيم (افي سين) كذا وقال الفيلسوف العظيم افرواس كذا إلى آخره فإذا بتلاميذه يمتلئون حماسا وتجاوبا وقبولا، وفي آخر الحصة يسأله أحدهم عن الفيلسوف الأول فيقول انه ابن رشد وعن الثاني فيقول انه ابن سينا فإذا بالحرارة تعقبها برودة واذا بالتحمس يتلاشى ويندثر، هذه صورة من صور كثيرة تقوم كلها دليلا على أن الاذان لا تسمع إلا بعد أن ترى العين ويمتلئ القلب بهالات التقدير و الإعجاب ولسوء الحظ أصبح التقدير والإعجاب خارجيين كأن امرأتنا لم تنجب في الماضي ولا هي مستعدة للانجاب في الحاضر والواقع الذي يعترف به حتى الخصوم والأعداء أن لنا فلسفات وحكما وعلوما حواها كتابنا العزيز وكلام رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام وتفتحت عنها عبقريات رجال أفذاذ من ابائنا وجدودنا كانت وما تزال منارة يهتدي بها السارون في دنيا العلوم والمعارف وقد شهد بها البعيد فلا يضرها تنكر القريب بها ولا جهله بها فقديما قيل والحق ما شهدت به الأعداء