الواقعية والشمول والعموم خاصيّة تعاليم الإسلام
إنّ الناظر بتعقّل وتمعّن في أصول الإسلام من كتاب وسنّة يستطيع الخروج بمجموعة من الخصائص والمميّزات لهذا الدين الحنيف لعلّ أهمّها: *مسايرة تعاليم الإسلام للفطرة: تعتبر مسايرة تعاليم الإسلام للفطرة من أهمّ هذه الخصائص ومعنى هذه الخاصية هي الاعتراف بانسانية الانسان وذلك بتقدير النواحي التي خلقت فيه وجبل عليها فالانسان في الإسلام لا يطلب منه التحرّر من بشريّته والبلوغ إلى درجة الملائكة. إنّنا بذلك نطالبه بما ليس في قدرته مهما حاول وجاهد. ولو اراد الله تبارك وتعالى من عبده أن يغفل هذه الجوانب المادية لما كان خلقها فيه ووهبها له. وقيمة الانسان إنما تتجلّى وتظهر في تحكّمه وتنظيمه لمطالب جسمه وغرائزه لا في إماتتها وقهرها.وعند تساؤل الملائكة باستغراب عن السرّ في استخلاف الانسان من طرف المولى سبحانه وتعالى (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) البقرة الآية30، أجابهم جلّ وعلا العليم الخبير (إني أعلم ما لا تعلمون) فالله تبارك وتعالى هو الأعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والانسان في الإسلام كائن متوازن وطبيعيّ يعطي الرّوح حظّها فلا يتناساها ويعطي للجسم متطلّباته فلا يهملها وإذا كانت أديان أخرى طُلب من أتباعها أن يطلّقوا الدنيا ليفوزوا بالآخرة ويهملوا الجسم لتسمو الرّوح فابتدع رهبانها صنوفا من التبتّل والتزهّد ما كتبها الله عليهم والتزموا أخذ أنفسهم بالتضييق والتشديد والترهيب فإن الإسلام على عكس ذلك تماما يتعامل بواقعيّة منقطعة النظير ويراعي ما خلق الله في الانسان. فالله تبارك وتعالى هو الذي فطر الانسان وخلقه على ما هو عليه واعتبر ذلك أحسن تقويم (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين لاقيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم الآية30 وهذه الدنيا في نظر الاسلام مزرعة الآخرة وتناسيها وتجاهلها وعدم الأخذ منها بنصيب في ذلك مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام السمحة (وابتغ في ما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) القصص الآية 77 وفي هذا الإطار يمكننا أن ندرج الأثر الاسلامي المعروف (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) والدنيا الحلال السائرة في إطار الشرع الحنيف تنقلب إلى عبادة وطاعة وقربة إلى الله سبحانه وتعالى إذا ما اقترنت بنيّة ولو كانت شهوة تؤتى (في الحلال) أو طعاما يؤكل أو لباسا يرتدى أو مسؤولية يتولاها المسلم. ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة بفعله وقوله حيث عاش عيشة طبيعية لا إفراط فيها ولا تفريط ولا تغليب فيها لجانب على حساب جانب آخر. ألم يصحح رسول الله صلى الله عليه وسلم الفهم لنفر من الصحابة ظنوا ان الإحراز على مرضاة الله لا يكون إلا بالتزهّد والترهّب والانقطاع عن الناس فقال لهم عليه الصلاة والسلام “أنا محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله غفر لي ربّي ما تقدّم وتأخّر من ذنبي أصوم وأفطر وأتزوّج النساء وأمشي في الأسواق فمن رغب عن سنّتي فليس منّي” وقد ذهب عليه الصلاة والسلام إلى أبعد من ذلك عندما قال: “إنّ في بضع أحدكم صدقة قالوا : أيأتي أحدنا شهوته يا رسول الله ويؤجر عليها؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف لو فعل ذلك في الحرام أعليه وزر؟ قالوا: نعم قال: كذلك إذا فعله في الحلال فله أجر” فالاسلام يمكن أتباعه المؤمنين به من الإكثار من الحسنات والطاعات بمختلف الوسائل والأساليب بما فيها ما يبدو ظاهرا بعيدا كل البعد عن الطاعة والقربة، لهذا لا يستقذر الاسلام ما في الانسان من غرائز وشهوات ولم يعتبرها شرّا إنما نظمها وهذّبها حتى لا يكون ما يترتب عن تلبيتها ضررا وفسادا. ولذلك جعل الإسلام الاستجابة لهذه الغرائز تكون في إطار شرعي بواسطة زواج يتكامل فيه الطرفان المكوّنان له وتتحقّق لهما به المودّة والسكينة والقرب الذي ما بعده قرب، قرب اللباس من الجسد (هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ) البقرة 187 وأباح الإسلام للمسلم أن يبدي زينته ويلبس أجمل وأحسن ما عنده بل ندبه إلى ذلك حين قال جلّ من قائل (خذوا زينتكم عند كلّ مسجد) الأعراف الآية31، وما دامت الأرض كلّها مسجدا بالنسبة للمسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) فإن المسلم يكون دائما وفي كلّ أحواله في أجمل مظهر وأحسنه وحالة المسلم هذه هي مظهر من مظاهر الشّكر لله سبحانه وتعالى المنعم المتكرّم على بعده يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده) وتشربا من حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لهذا المعنى العميق قال معتذرا لمن تأخر في الخروج له قال وهو يتصبّب ماء وطيبا (إنهن يحببن أن نتزيّن لهن (يعني زوجاتنا) كما نحبّ أن يتزيّن لنا) وقد كان الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يلبس أحسن اللباس وأجملها ويركب أحسن المراكب ويقول لمريديه: لا تشربوا الماء الحارّ فإنكم إذا قلتم وأنتم تشربون الماء البارد: الحمد لله قالت مع ألسنتكم سائر أعضائكم الحمد لله، أما إذا شربتم الماء الحار وقلتم الحمد لله فإن هذا الحمد لا يتجاوز اللسان وشتان بين شكر الحال وشكر اللسان . وقد عاتب أحدهم أخاله في ارتداء اللباس الجميل الجديد فأجاب هذا الأخير: إن حالي تقول الحمد لله وحالك تقول: أعطوني لله وشتّان بين الحالتين فحالة إبداء النعمة والحمد عليها أفضل ولا شكّ عند المولى سبحانه وتعالى ومسايرة الفطرة التي فطر الله الناس عليها تتجلى أيضا فيما أباحه الله تبارك وتعالى للانسان من كسب حلال وتنمية مشروعة لما يحصل عليه من أموال عن طريق العمل الذي اعتبره الاسلام شرفا يصل إلى درجة العبادة، مارسه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام تتغيّر به حال القائم به من الحاجة والفاقة إلى الكفاية والزيادة لتصبح يده عليا وليصبح قويّا عملا بالحديث النبويّ الشريف الذي اعتبر “المؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف واليد العليا خير من اليد السفلى” وفضلا عن كلّ ذلك جعل الاسلام التفاني في العمل وإتقانه والإخلاص فيه سببا لتكفير الذنوب والسيّئات ورفع الدرجات وفي ذلك آثار عديدة. كما أحلّ الإسلام البيع والشراء شريطة أن يكونا بطريقة شرعية لا غشّ فيهما ولا تطفيف ولا مغالطة فيهما ولا غُبن ولا احتكار فيهما ولا تغرير آنئذ يكونان سبيلا لتحريك الدورة الاقتصادية وجرّ النفع إلى أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع فإذا ما ترتّب عن هذا السعي (بيعا وشراء) ربح فهو ربح مشروع طالما أنّ المصدر مشروع كلّ ما يطلب حينئذ من صاحب المال هو إخراج الزكاة على ذلك المال الذي اجتمع بين يديه إذا حال عليه الحول وبلغ النصاب فالزكاة حقّ معلوم للسائل والمحروم وهي غير الصدقة ومصارفها محددة مبينة في كتاب الله وإخراجها من طرف صاحب المال تأمين وتطهير وتزكية لبقيّة ماله فإن هو امتنع عن أدائها وأنكر وجوبها أنكر معلوما من الدين بالضرورة ثم هو أيضا يعرّض ماله للهلاك والإتلاف والفساد يقول عليه الصلاة والسلام (ما بقيت الزكاة في مال أحد إلا أفسدته) شمول الاسلام أما الخاصيّة الثانية التي تميّز بها الاسلام وتبدو جليّة واضحة في تعاليمه فهي إحاطته وشموله لكلّ مناحي حياة الانسان الخاصة والعامة الفردية والاجتماعية العاجلة والآجلة الروحية والجسدية ففي الاسلام عقيدة وفي الاسلام عبادة وفي الاسلام معاملة وأخلاق. وفي الإسلام هدي قرآنيّ ونبوي ينظم علاقة الناس ببعضهم البعض سواء كانوا أزواجا أو أبناء وآباء أو أجوار أو شركاء. في القرآن الكريم وفي السنّة النبويّة الطاهرة أحكام للبيع والشراء وكتابة الدين والشهادة والميراث والحدود والعقوبات، في الكتاب والسنّة تبيان لكيفيّة التعامل مع الآخر في السّلم والحرب، وفي الاسلام مكارم أخلاق وفضائل أعمال وإحسان ورفق ولين ليس فقط في التعامل مع المسلم أو مع الانسان بصفة عامة بل مع الحيوان والنبات والجماد وسائر ما وهب الله للانسان وما سخّر له في هذا الكون (وعباد الرّحمان الذين يمشون على الأرض هونا) الفرقان الآية63 . فكلّ أوجه تعامل الانسان وتصرّفاته يحكمها هدي ربّاني المصدر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إما بالتنصيص والتعيين أو بالإرشاد إلى الخطوط العامة والتوجّهات البعيدة المدى العميقة الأبعاد والمقاصد وهي كلها مبنية على نفي المشقّة ورفع الحرج وإزالة الضرر ودرء المفسدة وجلب المصلحة سواء نصت على هذه المصلحة الآيات والأحاديث أم سكتت (فحيثما وجدت المصلحة فثمّ شرع الله) والنصوص من الآيات والأحاديث النبوية والآثار الصحيحة والقواعد الفقهية عديدة لا تُحصى منها على سبيل الذّكر لا الحصر (يُريد الله بكم اليُسر ولا يُريد بكم العُسر) البقرة الآية185، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحجّ الآية78، (لا يُكلّف الله نفسًا إلا وُسعها) البقرة الآية286(لا ضرر ولا ضرار) (الضرورات تُبيح المحظورات ) ، (يسّروا ولا تُعسّروا وبشّروا ولا تُنفّروا) إلى غير ذلك من عشرات النصوص المؤكدة والملحة على ما أشرنا إليه آنفا وكل هذه النصوص المؤكدة والملحة على ما أشرنا إليه آنفا وكل هذه النصوص وغيرها تؤكد تلك المقولة التي كثيرا ما تتردّد على الألسنة وهي أن دين الاسلام صالح لكلّ زمان ومكان. ولا شكّ أن المسلمين مدعوون إلى إقامة الحجة والبرهان على ذلك باجتهاداتهم واستنباطاتهم ومواكبتهم لمستجدّات العصر ومستحدثاته ولعلّ شيئا من هذا ما تقوم به المجامع الفقهية والمجالس العلمية التي ظهرت في السنوات الأخيرة والتي عرضت عليها عدة قضايا شائكة تشغل الأمّة بمختلف أجيالها وفئاتها فقدمت لهم هذه المجامع والمجالس اجتهادات جماعية توخّت في الغالب تلك الخصائص الآنفة الذكر التي تميّز بها دين الاسلام خصائص الرفق والتيسير والسماحة ونفي الحرج على المسلمين. *دعوة الإسلام عامّة: لقد ختم الله تبارك وتعالى الأديان بدين الإسلام فقال جلّ من قائل (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال (إن الدين عند الله الإسلام) وجاء بهذا الدين خاتم الأنبياء والمُرسلين سيّدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام للناس كافة ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين) الأحزاب الآية40، فطبيعي أيضا أن يكون هذا النبي الخاتم مبعوثا للناس أجمعين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء الآية107 ، لأجل ذلك توجهت دعوة هذا النبيّ للعربيّ والأعجميّ وللأسود والأبيض على حدّ السّواء فالكلّ عباد الله وهو سبحانه وتعالى الذي خلقهم وسوّاهم وهو الذي جعلهم شُعوبًا وقبائل (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات الآية13 لقد توجهت دعوة الإسلام من اليوم الأوّل إلى جميع الناس مكونة منهم أمّة واحدةً (وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون) المؤمنون الآية52، وهذه الأمة هي خير أمة لا باعتبار الأصل أو النسب أو الحسب أو اللون أو المركز الاجتماعيّ بل باعتبار المبدأ قال جلّ من قائل (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المُنكر وتؤمنون بالله) آل عمران الآية110، وأفراد هذه الأمة أخوة (إنما المؤمنون أخوة) الحجرات الآية10، وهم سواسية كأسنان المشط لا تميّز بينهم إلا بالتقوى التي لا يعلمها إلا الله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات الآية13، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم محلّ التقوى عندما أشار إلى صدره وقال (التقوى ههنا التقوى ههنا) وما في الصدر لا يعلمه من العبد إلا العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور وبهذا التوجّه الأصيل في تعاليم الإسلام انصهر العربيّ مع العجمي والأسود مع الأبيض ليكونوا جميعا أمة الإسلام ومجتمع الإسلام الذي هو كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص وقدم المسلمون الأوائل من السلف الصالح من أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله عليهم نموذجا للتمازج والتآخي والتحابب والتضامن والتآزر لا عهد للبشريّة به من قبل. وكان الإسلام بذلك سبّاقا إلى الدعوة إلى القيم الكونية النبيلة بل جسّمها في حيّز الواقع المسلمون مجتثين من أنفسهم ومن كلّ تصرّفاتهم وتعاملاتهم ما كانوا عليه من ظلم وعدوان وتفاخر وتمييز عنصريّ مقيت بغيض.