السلوك الحميد واجب ديني ومدني
الإنسان كائن اجتماعي خلق ليتعامل ويتعايش مع غيره من الناس يحتاج إليهم ويحتاجون إليه. ولقد اهتدى الانسان إلى إدراك هذه الحقيقة منذ أقدم العصور وعبّر عن هذه النتيجة التي وقع الانتهاء إليها الحكماء والفلاسفة والشعراء فقيل: الانسان مدني بطبعه وقيل: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم وإذا كان ذلك في أمر المعاش وكسب الرّزق وتحصيل القوت وكل ما يحتاج إليه الانسان لتستمرّ حياته فإنّ هذا الجانب الاجتماعي في حياة الانسان يتجاوز المادّي المعيشيّ إلى المعنويّ الأخلاقيّ من حياة الأفراد والمجتمعات. وطالما أن الانسان الطبيعي قبل بمبدأ التعايش مع غيره فإنّ ذلك يوجب عليه الواجبات مثلما يستحقّ به الحقوق وتتكيّف حريته لتنتقل من الحريّة المطلقة إلى حريّة مقيّدة بحيث تنتهي عند بداية حقوق الآخرين. ولقد اعتنت الأديان السماوية والدعوات الإصلاحية في حياة الشعوب والمجتمعات بالجانب السلوكي من حياة الأفراد فأولته ما يستحقّ من العناية والاهتمام وذلك باعتبار ان الفرد هو حجر الزاوية في الصرح الذي يرتجى بناؤه والهدف الذي يؤمل في بلوغه. وسلوك الانسان وكيفية تعامله مع محيطه بكلّ مكوناته مجال واسع وفسيح يشتمل على الكلمة والحركة والتصرّف وحتى المظهر. وإنما يقاس تحضّر وتمدن الأفراد والمجتمعات بمدى انضباطها والتزامها بما هو متسام بالانسان عن النزول إلى درك التسيب والإفساد والإضرار بالغير وبما في المحيط. والمصطلحات التي يعبّر بها عن السلوك القويم متعددة متنوعة ولكنّها في مضمونها تكاد تكون متطابقة فهي المواطنة وهي التمدّن والتحضّر وهي الخلق الكريم والمعاملة الحسنة والأدب الرّفيع. والعناية بهذه الجوانب من حياة الانسان لا يقلّ الاهتمام بها عن العناية بشؤونه المادية الحياتية وهذا التلازم والترابط إنما يمليهما الحذر من حصول الخلل إذ بيّن الجانبين تفاعل وتأثّر وتأثير. وليس من قبيل الصدفة أن يقع التذكير باستمرار بضرورة العناية بالسلوك الحميد للأفراد الذين يتكوّن منهم المجتمع وتغتنم للقيام بمثل هذه الحملات التحسيسيّة التوعوية المناسبات التي تتكثف فيها الصلات بين الناس بمختلف فئاتهم وأجيالهم وذلك عندما يعود الموظفون إلى أعمالهم والتلاميذ الىى مدارسهم ومعاهدهم وتستأنف الحياة الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية مسارها الذي قوامه وأعمدته هؤلاء الأفراد متكاملين متعاونين مع بعضهم البعض متعاملين فيما بينهم تعاملا حضاريا إذ من شأن ذلك أن يجعل علاقاتهم ببعضهم يسودها الاحترام المتبادل وقيام كلّ طرف بواجبه ووقوفه عند حدود حقوقه لا يتجاوزها ولا يتعدّاها إلى حقوق غيره. وإذا ما تظافرت الجهود وتكاملت الأسرة وهي الخليّة الأساسية في المجتمع مع المدرسة والمعهد ومع البيئة الثالثة بكلّ هياكل الإحاطة والتوجيه فيها ممثلة في المنبر الإعلامي والجمعية والمنظمة والمسجد فضلا عن هياكل التسيير والتنفيذ ممثلة في السلط بمختلف درجاتها وأنواعها فإن السلوك الحميد والحضاري يصبح واقعا معيشا في حياة الفرد والمجتمع. وحتى لا نضخم المصطلحات نقول أن المراد بالسلوك الحميد والحضاري المطلوب تحقيقه وتجسيمه في حيّز الواقع إنما هي الكلمة الطيّبة يلتزم بها الفرد فيحفظ لسانه ولا يقول إلا خيرا مجتنبا لكلّ لغو وفحش وسبّ وشتم مما يتنافى مع الذوق السليم والتربية الأصيلة. *والسلوك الحميد والحضاري هو مظهر لائق يحرص عليه الفرد ذكرا أو أنثى ينأى بهما عن كلّ إثارة وتميّع وتسيّب. *والسلوك الحميد والحضاري رفق ولين ولطف حتى في المشي على الأرض عملا بقوله تعالى: وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا. والسلوك الحميد والحضاري اجتناب لكلّ إضرار بالغير أو بالمحيط بكلّ ما فيه من منطلق حبّ الخير للغير وعملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يكون أحدكم مؤمنا حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه) والسلوك الحميد والحضاري اجتناب لكلّ منكر من الفعل والعمل من أجل إزالته ودفعه بعيدا عن سبيل الناس وقد اعتبر الإسلام مثل هذا الصنيع من علامات الإيمان حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وستّون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان) فالمؤمن الحقّ هو ذلك الذي لا يؤذي غيره وهو الذي يسعى إلى إماطة كلّ صنوف الأذى التي يمكن أن يراها ومما يمكن أن يتسبب في ضرر له أو لغيره من بقيّة أفراد المجتمع. ولا يمكن أن يصدر عن مؤمن صادق الإيمان ومواطن صالح متحضّر متمدّن يتعايش مع غيره أي تصرّف طائش، ولا يتصوّر منه تخريب وتحطيم وإفساد لما يملكه هو أو لما يملكه غيره أو لما هو ملك للمجموعة: فانوسا في الطريق ينير للناس السبيل أو حافلة أو قطار توصلهم إلى حاجاتهم أو مقعدا في المدرسة والمعهد يتلقّى عليه التلاميذ العلوم والمعارف. *وحسن المعاملة في كلّ مناحي الحياة هي علامة التدين وهي مقياس الخلق الكريم الذي يقرّب صاحبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أخبركم بأقربكم منّي مجالسا يوم القيامة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون) ولا شكّ أن الأخلاق الحسنة التي يقصدها الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي المعاملة في أوسع معانيها، إنها المعاملة التي تتجاوز الكلمة الطيّبة والابتسامة إلى النيّة الحسنة والسريرة البيضاء والفعل الجميل إذ ليس الإيمان بالتمنّي أو بالتحلّي بل الإيمان هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل. والله تبارك وتعالى لا ينظر إلى وجوه عباده ولا إلى صورهم ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم. والأعمال في الإسلام ينبغي أن ترتقي إلى مرتبة الإحسان، وهو إحسان ينبغي أن يكون حتى في القتل والذبح حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم أحسنوا القتلة) ويد المسلم يد مسالمة، والمسلم الحقّ من سلم الناس من لسانه و يده ، إنّ يد المسلم هي يد عطاء وبذل وبناء وتشييد وزرع للخير، إنّها يد رحمة يستحقّ صاحبها بصنيعها الحسن رحمة ربّه الذي يدعو نبيّه ورسوله عليه الصلاة والسلام المؤمنين إلى رحمة كلّ من في الأرض حيث يقول عليه الصلاة والسلام (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) و(الرّاحمون هم الذين يرحمهم الرحمان). ولا يتصوّر من مؤمن صادق الإيمان أن تلحق يده ضررا بأيّ كائن من الكائنات: انسانا كان أم حيوانا أم نباتا أم جمادا. ووصيّة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجنده الخارج إلى الفتح تعبّر أصدق تعبير عن هذا التوجه الانساني المثالي الرفيع حيث قال لجنده (لا تقتلوا الأطفال والنّساء والشيوخ، لا تحرقوا الأشجار لا تقتلوا الحيوان، ستجدون أناسا نذروا أنفسهم لعبادة الله في صوامع فاتركوهم وما نذروا أنفسهم إليه) إن دينا هذه توجيهاته لمعتنقيه في حالتي الرّخاء والشدّة وحالتي السلم والحرب لا يمكن أن يصدر عن هؤلاء إلا ما فيه الخير لأنفسهم ولمن حولهم وما حولهم. والتوعية بهذه الحقائق وتلك المميّزات للدين الإسلامي الحنيف هي التي ينبغي علينا أن لا نملّ من التذكير بها في كلّ مناسبة حتى نرتقي بسلوك المسلم حيثما وُجد إلى ما نتوقه له ونرجوه منه من استقامة كاملة. هذه الاستقامة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاصة وزبدة لمن طلب منه الوصية حيث قال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أوصني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم) وقد قيل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم (شيبتني هود وأخواتها) وما ذلك إلا لما ورد فيها من قول المولى سبحانه وتعالى لنبيه الكريم (فاستقم كما أمرت) الآية 112 سورة هود. والاستقامة ثمرة للخشية والتقوى لله سبحانه وتعالى، هذه التقوى التي لا يقبل الإسلام من المسلم أن تكون ظرفية وموسمية في أماكن معينة بل ينبغي أن تكون حالا ملازما للمسلم حيثما انتقل وفي كلّ تصرّف يأتيه عملا بالوصيّة النبويّة القائلة (اتقّ الله حيثما كنت) *وإذا كان سلوك الفرد في البيت وتعامله مع أفراد أسرته تقلّ فيه التجاوزات أو تكاد لا تذكر فإن سلوكه خارج البيت هو الذي يحتاج منه إلى مضاعفة الجهد في سبيل تقويمه وإصلاحه. إذ لا يزال التعامل وبالخصوص من طرف الأجيال الصاعدة وحتى بعض الكهول مع المحيط بما فيه ومن فيه إذ لا تلاحظ فيه روح المسؤولية وحضور الضمير إذ يعتبر أن ما في الشارع والمجتمع لا تثريب علينا إن نحن أهملناه وعرضناه للإتلاف وتسببنا في تخريبه سواء كان مقعدا في حديقة أو أشجارا في شارع أو في منتزه أو كرسيا في حافلة أو قطارا أو جدارا في إدارة أو بلورا في نافذة مدرسة أو دار شباب. وهو خطأ فادح وجرم عظيم لا ينمّ عن وعي أو ضمير ولا يعبّر عن تحضّر وايمان فالسلوك الحميد والحضاري والاستقامة الخلقية والايمان القوي الراسخ يفرض تغيير هذه العقلية المزدوجة وننتقل إلى اعتبار كلّ ما يصدر عنا في المنزل والشارع والمدرسة والإدارة مع ما نملكه نحن أو يملكه غيرنا أو مع ما هو ملك عام في نفس الدرجة وبنفس المعاملة آنئذ نرتقي إلى المستوى الحضاري المدني الذي نتوق إليه وهو المستوى الذي يحقق لنا راحة الضمير وبلوغ الآمال وجزيل الثواب والأجر من عند الله سبحانه وتعالى.