الوسطية والاعتدال في تعاليم الاسلام
لدين الإسلام خصائص ومميزات عدة هي الّتي جعلته أكمل الأديان وأتمها وأصلحها للإنسان في كل الأزمنة والأمكنة ومن هذه الخصائص خاصية الوسطية وهي خاصية يحتاج استقراؤها وبيان مختلف مظاهرها إلى تضافر جهود الباحثين والدّارسين لأنها وسطية يلاحظها المتتبع بتمعن في كل ما دعا إليه الإسلام ونزل به من عند الله القرآن وبينته سنة وسيرة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ولا يمكن لمن يتطرق بالبحث في خاصّية الوسطية المميّزة لدين الإسلام وأمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام أن لا يكون منطلق حديثه وتأسيسه لنظريّة الوسطية الإسلامية الآية الكريمة التي يقول فيها المولى سبحانه وتعالى (وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) الآية سورة البقرة ودون الإغراق في التّأويل المتعسف ودون الادعاء بأنّ هذه الآية الكريمة لا تعني أنّها لا تفيد غير ما سنبيّنه فذلك أمر لا ندعيه لأنّ كلام الله العزيز لا يمكن الإحاطة به وصدق الله العظيم حين يقول (ولا يحيطون بشيء من علمه ولا بما شاء) وفي الحديث الشريف (هذا القرآن ياتي يوم القيامة وهو بكر) أي كأن العلماء والمفسرين لم يمسوه ولم يستخرجوا منه شيئا رغم أنّ التفاسير في الدّنيا بلا عدد كما قيل وقد ورد في الأثر أنّ (الآية الواحدة من القرآن الكريم تحتوي من المعنى إلى الخمسمائة معنى لا يضيق المعنى بالمعنى). فالقرآن الكريم هو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولكي لا نستطرد نعود إلى الآية الكريمة التي أردنا أن نتّخذها منطلقا لحديثنا عن خاصّية الوسطية المميزة لدين الإسلام وأمة الإسلام، فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجّه إلى الأمة الإسلامية وهذه الأمة هي التي تسلم لله بالوحدانيّة وتقر لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وهذه الأمة الإسلامية أمة واحدة لا تتجزّأ ولا تنقسم (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون) الآية سورة الأنبياء وأفراد هذه الأمة جسد واحد وبنيان مرصوص (تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم) والجاعل لهذه الأمة الإسلامية أمة وسطا هو ربّها وخالقها سبحانه وتعالى الممتن عليها بالنعم والتي أعلاها وأرقاها نعمة الإسلام والهداية إلى هذا الدّين العظيم، وهذه الآية عنوان لمضمون ينبغي على المسلمين أن يبحثوا عنه في كتاب الله العزيز وسنة النبيّ الكريم وسيرته عليه الصّلاة والسلام. إن الوسطية المعلنة في هذه الآية منبئة عن مضمون متكامل لا يعذر علماء الإسلام في التأخّر عن تبيين تفاصيله وجزئياته حتى يتعرّف عليها المسلمون وغير المسلمين أيضاً، وحتى يتوجّه صوبها المسلمون ليلتزموا بها في كلّ تصرّفاتهم وفي كلّ إقدام وإحجام وحتى تقوم الحجة البالغة على غير المسلمين، وهي حجة نظريّة عقلية مقنعة، وحجّة سلوكية تطبيقية تكون مثلا يحتذى به ونموذجا يتبع، وإذا ما وقع الاكتفاء من طرف المسلمين بالجانب النّظري أو بطرف منه دون التّجسيم العملي لها فإنّ الإقامة للحجة والشّهادة على الغير لا يمكن أن تكون قائمة فالتّنظير وحده غير كاف بل إنّه كثيرا ما يعتبر من قبيل الازدواج وتغلب الممارسات الفعلية على المثل والقيم، وتتّخذ هذه الممارسات العملية حجة على أصحابها وعلى الدّين الذي يعتنقونه وتلك كانت في أغلب العصور الصّورة التي احتفظ بها وتبنّاها غير المسلمين على المسلمين!! ولا ينبغي على المسلمين أن يلوموا هؤلاء على هذا الخلط المتعمّد أو غير المتعمّد، كيف نلوم غير المسلمين على التحامل على الإسلام وتحميله تبعات تصرّفات المسلمين والحال أنّهم يرون المسلمين في سائر أحوالهم المعيشية: في علاقاتهم ببعضهم وبسواهم أبعد ما يكونون عن تعاليم الإسلام، إنهم يرون في ديار الإسلام جهلا وأمية وفقرا وإجراما وتخلفا وصراعات دمويّة وتحجرا وانغلاقا وغطرسة وأنانية ومعارضة سلوكية صارخة لكل القيم المدنية والحضارية، إنّ قولنا لغير المسلمين صباح مساء إنّ الإسلام شيء والمسلمين شيء آخر لن يقنعهم وسيظلون متمسكين بأنّ الإسلام هو ما يرونه في تصرّفات وسلوكيات أفراد المسلمين وتجمعاتهم وستزيد هذه السلوكيات والتصرفات الّتي يأتيها المسلمون غير المسلمين ابتعادا ونفورا من الإسلام والمسلمين. الآية الكريمة (وكذلك جعلناكم امة وسطا..) تنبّه المسلمين بأنّ إقامة الشّهادة على الناس في أنّ دين الله قد بلغ لهم إنّما يكون بتجسيم الوسطية في الواقع المعيش، فهذا التجسيم للوسطية هو وحده التبليغ المغني عن الخطب الرنانة والمحاضرات المستفيضة وكما يؤكّد رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بأنّ التديّن الصحيح إنما يتجلّى في المعاملة والسلوك والأخلاق والمخالطة للغير: بيعا وشراء وعملا وتأجيرا (فالدّين المعاملة) و(لدّين النّصيحة) وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا (ليتمّم مكارم الأخلاق) ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الظّهور في أحسن مظهر وعلى سلوك أقوم السّبل لقد كان عليه الصلاة والسلام (خلقه القرآن) كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها، لقد كان قرآنا يمشي على الأرض، (أدبه ربه فأحسن تأديبه) واستحقّ بأن يكون حجة الله على عباده، انه الأسوة الحسنة والقدوة لجميع المسلمين وبذلك كان الرسول عليه الصلاة والسّلام على الامة شهيدا، بلغ الرسالة وأدّى الأمانة وحق له أن يردّد على مسامع حجاج بيت الله الحرام في حجة الوداع (ألا هل بلغت اللهم فاشهد) فالحجة قد أقيمت علينا معاشر المسلمين وما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى إلاّ بعد أن كمل الدّين وتمّ. لقد تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المسلمين إعلان كمال الدين وتمامه الذي تضمنه قول الله سبحانه وتعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ومن ذلك اليوم تحمل المسلمون أعباء أمانة الإبلاغ للناس وإقامة الحجة عليهم حتى تبر ذمّتهم أمام الله ولن تقوم هذه الحجّة ولن يتمّ الإبلاغ بالشعارات أو بالتمنّي والتحلّي بل تقوم الحجة ويقع الإبلاغ بالإيمان الرّاسخ الذي يصدقه العمل وهو التصرّف الذي يأتيه المسلم: معتقدا وتعبدا ومعاملة وسلوكا وتوجها، والأفراد والمجتمعات والأمم في حاجة ماسّة إلى رؤية المثل والقيم مجسّمة في سلوك الأفراد والمجتمعات وذلك لكي يقع الاقتداء والإتباع والغالبية العظمى من الأفراد والتجمعات ترغب في المنهج الوسط الذي (لا إفراط فيه ولا تفريط) ولا شذوذ فيه. هذه الوسطية تقبل عليها الأنفس القويمة السّليمة الخالية من العقد والمركبات وتلك والحمد لله هي حالة الغالبية العظمى من عباد الله. ولكن الميل ذات اليمين وذات الشمال والزّيغ عن المنهج الوسط الذي هو منهج الاعتدال إنّما يقع عندما تختفي معالم المنهج الوسط والمسلك القويم وعندما يغيب عن الأعين التّجسيم العملي له في حياة الناس هنالك تبرز وتظهر دعوات التطرف والتزمت والمغالاة والتميع والانحلال والكفر والضّلال وتجد هذه النّزعات المغالية المتطرّفة المجانية للصّواب الذي هو الوسط اتباعا لها بين الناس توجّههم حيث تشاء، وقد التزم الاسلام هذه الوسطية في كل شيء وراعى ما ركب الله في الأنفس البشريّة من رغبات مشروعة وحقّق للمسلمين في دين الإسلام المعادلة التي تبدو صعبة أو مستحيلة. فالمسلم هو في نظر الإسلام كائن حيّ مركب من جسد وروح ولكلّ منهما غذاؤه وحرام على المسلم أن يهمل الرّوح كما أنّه حرام عليه أن يهمل الجسد وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين وجّه المسلم إلى الحقوق التي عليه (إنّ لربّك عليك حقا ولنفسك عليك حقّا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حقّ حقّه) وبمثل ما حارب الإسلام إتباع الهوى والشّهوة وطغيان المادة وافتتان الإنسان بها وإخلاده إلى الأرض ونسيانه للمعاد والمآل فإنّه حارب الانقطاع والتبتل والترهب فقال عليه الصلاة والسلام (لا رهبانية في الإسلام) وقال (إنّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى). لقد اعتبر الإسلام الدّنيا معبرا وجسرا لابدّ من عبوره للوصول إلى الدّار الآخرة، (فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضّعيف واليد العليا خير من اليد السّفلى). والسّعي بجد في الأرض يعتبر مما يدخل في سبيل الله. وأخذ الزينة عند كلّ مسجد واظهار أثر نعمة الله على العبد مما وجّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وكلّ هذه المعاني يعبر عنها أجلى تعبير قوله تعالى (وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) الآية سورة القصص وقوله (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصة يوم القيامة) الآية سورة الأعراف. ولكنّ هذا الأخذ بالأسباب والاستمتاع بما أفاء الله على الإنسان لا ينبغي أن يصل إلى درجة الافتتان الذي يجعل من صاحب الدّنيا يقول لسانه وحاله (ما أظنّ أن تبيد هذه) إنّ شعار المسلم هو ذلك الأثر (اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا) فإلى الله المسعى وإليه المنتهى في الدّار الآخرة (تلك الدّار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين) الآية سورة القصص. والمنهي عنه في دين الإسلام هو العلو في الأرض طغيانا وجبروتا وظلما وعجبا وخيلاء وفسادا أمّا سلوك المسلك الوسط فهو الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه وأمّته من بعدهم حيث قال (أنا محمد بن عبد الله غفر لي ربي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر أمشي في الأسواق وأتزوّج النّساء وأصوم وأفطر وأصلّي وأنام فمن رغب عن سنتي فليس مني). فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي المنهج الوسط المحقّق لسعادة الدّارين ومرضاة ربّ العالمين. إنّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم هي المحقّقة لتطلعات ورغبات الرّوح والجسد والحقوق المشروعة لكلّ طرف في المجتمع. * بهذه الوسطية الجامعة للخيرين (خيري الدنيا والآخرة) نرضي الله ورسوله. * وبهذه الوسطية نجنب الفرد والمجتمع كلّ فوضى وارتباك واهتزاز. * وبهذه الوسطية يندحر التطرّف والتزمّت والتعصّب والإرهاب وينتفي التميّع والتحلّل والكفر والضلال والطّغيان فيسعد كمسلمون ويهنأ عيشنا ونقيم الحجة على سوانا من الأمم والشعوب لينجو من ينجو عن بيّنة ويهلك من يهلك عن بيّنة وتلك هي المعادلة الصّعبة التي ينبغي يتوجّه صوب تحقيقها المسلمون يقودهم في هذا التوجّه علماؤهم الأعلام الّذين تعين عليهم في هذا الظّرف أن يشمروا على السّواعد قبل أن يفوت الأوان فهم ورثة الأنبياء وهم الموقعون عن ربّ العالمين. وهذه الحقبة من تاريخ الأمة الإسلامية في كل مجتمعاتها وبدون استثناء حقبة صعبة حيث يتهدد مصير المجتمعات الإسلامية خطر التعصب والتزمت والتطرف والإرهاب وكل هذه الكلمات عناوين لتصرفات تجاوزت المشاعر والأقوال إلى الأفعال التي يستغرب من يتابعها ويشاهدها عن كثب كيف تصدر عن وعي أو عن غير وعي عن أفراد أو جماعات تنتسب إلى الدين وتتكرر وتتجدد هنا وهناك وهي متعارضة تعارضا صارخا مع نصوص الإسلام من كتاب وسنة ومع مقاصدهما!! ولا يمكن لمن تصدر عنهم هذه المواقف والآراء والتصرفات أن يقنعوا إلا أمثالهم ممن يغتنمون خلو أذهانهم وفراغ عقولهم وقلوبهم من كل زاد معرفي صحيح وسليم، وللأسف الشديد فان أعداد هؤلاء كبيرة وكبيرة جدا وهم لقمة سائغة لمنظري التشدد ينقضون عليهم ويحيطون بهم من كل جانب حيث يغلقون عليهم منافذ الوعي ويحكمون هذا الإغلاق حتى لا تبقى معه بالنسبة لهؤلاء الأغرار أدنى مرجعية: لا عائلية أسرية ولا علمية ثقافية وهذا الوضع غير الطبيعي والذي يتسبب في المخاطر التي لا تحمد عقباها يحتاج إلى التنبيه إليه وتشخيصه والتفكير في معالجته المعالجة الصحيحة التي ترجع الأوضاع إلى طبيعتها. ولا شك أن البداية لا يمكن أن تكون إلا بفك هذا الارتباط والتلازم الوهمي وغير الصحيح بين التديّن والتطرف وهو تلازم لا يمت إلى الحقيقة والواقع بصلة فالأديان السماوية بصفة عامة (باعتبار وحدة مصدرها واتحاد غاياتها) والإسلام وهو ختامها والممثل لتمام صرحها وكماله تأبى تعاليمه في نصوصه كلها من كتاب وسنة وآثار صحيحة أن تبرر أي رأي أو مذهب أو تصرف أيّ من الآراء والمذاهب والتصرفات التي تفاجئنا بها وسائل الاتصال والإعلام: مكتوبة ومسموعة ومرئية ومبثوثة على ألسنة أسماء لم تنتسب في يوم من الأيام إلى العلم وأهله وهيآته وحواضره ومعاهده العريقة. وبمفعول السلطة الرابعة (الإعلام) هذه الآلة الرهيبة يصبح هؤلاء أعلاما ومنظرين تسري آراؤهم وفتاواهم سريان النار في الهشيم في حين نشهد تراجعا وتضاؤلا في حيز الاهتمام وشد الانتباه لآراء أهل الذكر والاختصاص أصحاب الفكر الرصين المعتدل والمستنير!! وقد لفت هذا الوضع الانتباه في كل البلدان وعلى كل الأصعدة واشتد في الآونة الأخيرة الإلحاح على ضرورة اعادة التذكير بأهم خصائص الإسلام ومميزاته التي يلاحظها ويهتدي إليها كل عاقل ولا تحتاج إلى مجهود كبير للإقناع بها وإقامة الحجج والبراهين عليها واعني بذلك خاصية: الاعتدال والتوسط. ولعل ما يزيد في الاقتناع والتمسك بخاصية الاعتدال والتوسط أن علماء الأمة الأعلام ممن عرفوا بالتحرير والتحقيق والتدقيق والتنوير والتبصير بادروا منذ عقود من السنين إلى بيان القول الفصل في هذه القضية وبلورتها وتوضيحها وتجليتها تتوضح الرؤية وينتفي الخلط المقصود أو غير المقصود. وممن كتب في هذه المسألة وأجاد وأفاد كالمعتاد سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) حيث عقد رحمه الله فصلا اختار له عنوانا: (الاعتدال والتوسط) نورده تعميما للفائدة ونشرا للفكر المستنير إذ عسى أن تجد فيه الجهات والأطراف القائمة بمبادرات والداعية إلى ندوات وملتقيات لنشر وترسيخ خاصيتي الوسطية والاعتدال ما يمكن أن يساعدها على تحقيق هذه الغاية النبيلة وهذا الهدف المنشود والمرجو من طرف الجميع. يقول سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: (لقد تصفحت كلام فلاسفتنا وأساتذتهم الذين عنوا برصد أحوال العقول وأهواء النفوس فاضلها ودنيّها وانتساب بعضها من بعض فكانت خلاصة أبحاثهم وفذلكة حسابهم أن قوام الصفات الفاضلة والفطرة السليمة هو الاعتدال في الأمور، وأن النزوع إلى طرفي الغلو والتقصير أو الإفراط والتفريط إنما ينشأ عن انحراف عن الفطرة يحدو إليه الهوى المحذر منه فتتكلف النفس الانحراف تكلفا يحسّنه إليها الهوى أو عادة الهوى وتلذ به لما تأمل من جراء أخرياته من نفع عاجل حاصل أو غير حاصل وكل ذلك ينشا عن ابتكار أو تقليد. * فالغلو في الغالب يبتكره قادة الناس ذوو النفوس الطامحة إلى السيادة أو القيادة بحسن نية أو بضده إفراطا في الأمور وذلك إما بداعي التظاهر بالقدوة وحب الإغراب لإبهات نفوس الإتباع وتحبيذ الانقياد مثال ذلك ما سنه عمرو بن لحي من عبادة الأصنام ومن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي(1). * وإما بداعية إرضاء ما في نفس المبتكر أو نفوس من حوله من حب تقليد الغير أو حب الإكثار والزيادة والترفيع في الأمور المستحسنة لديهم فإن النهم في المحبوب من نزعات النفوس قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام حين مرورهم على بلاد الكنعانيين (قالوا يا موسى اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) سورة الأعراف: 138-139 فقمعهم وأقنعهم قليلا حتى إذا استقروا حول طور سيناء وصعد موسى لمناجاة ربه نبض لهم العرق القديم في حب التقليد لأحوال الغير فاغتنم السامري ذلك تحببا إليهم فصنع لهم عجلا من ذهب وفضة له خوار. * ورام فريق من المسلمين الوصال في الصوم فنهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل ما صنع القلمس وهو حديقة الفقيمي الكناني من احداث النسيء في الأشهر الحرم في الجاهلية وقد سماه الله تعالى زيادة فقال (إنما النسيء زيادة في الكفر) سورة التوبة: 37. والتقصير في الغالب من شيم الاتباع المنقادين أهل النفوس الضئيلة وهو من التفريط في المهم عن تكاسل أو عن حب تخفيف أو جهل بما في حدود الأشياء من المنافع حتى يخالوا المقدار الواجب منها ليس بلازم. فقد قالت بنو إسرائيل لرسولهم موسى عليه السلام (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) سورة المائدة: 24 وقال المنافقون (لا تنفروا في الحر) سورة التوبة: 81. فالاعتدال (إذن هو: الكمال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص). وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه ومعرفة حدودها وغاياتها ومنافعها وهو الحكمة المنوّه بها في قوله تعالى (يؤتي الحكمة من يشاء) سورة البقرة:269. ويعبر عن الاعتدال بالتوسط، وكون التوسط من أوصاف الإسلام وأحكام نظائرها في الشرائع السالفة وقد نبه الله تعالى على هذه الصفة بقوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) سورة البقرة: 143. روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوسط هو العدل أي بين الإفراط والتفريط. وبذلك جزم المحققون من المفسرين في تفسير هذه الآية لأن الوسط بفتح السين في أصل اللغة اسم الشيء المتوسط بين شيئين. والملاحظة الاسمية فيه قبل الوصفية استوى في الوصف بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه بمنزلة المصدر واعرق منه في الجمود ولذلك جرى وصفا للأمة في الآية دون علامة تأنيث قال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم أي عدول حكماء وبه فسر أيضا قوله تعالى (قال أوسطهم) سورة القلم: 28 أي أعلمهم وأعدلهم. وورد في الأثر (خير الأمور أوساطها) وقد ذم الله تعالى ما خالف العدل والتوسط فقال (قل ما أسألكم عليه من اجرا وما أنا من المتكلفين) سورة ص: 86 يعني في حالة الرسالة في ذم التكلف بمعنى تجاوز الحد والتعمق في الأمور كما تشعر به مادة الفعل فلا يرد أن أصل التشريع كلفة ولذلك سمي بالتكليف. وقد علمت من شواهد ما مضي أن النزوع الى الإفراط من التكلف فصار النزوع إلى الإفراط منفيا في الإسلام وقال (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) سورة المائدة: 77. وإنما خص بالتحذير التكلف والغلو دون التقصير لأن الغلو مظنة الالتباس بالأمور المحدودة لاعتقاد أنه زيادة في الخير وأما التقصير والتفريط فهما داخلان في الذم العام للمفرطين في الشرائع كقوله تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) سورة البقرة: 85 وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وان يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) سورة النور: 46-47 انظر أصول النظام الاجتماعي في الإسلام الصفحات 23 و24 و25. ان الناظر في تعاليم الإسلام، في عقائده وعباداته ومعاملاته يخرج بسمات بارزة واضحة هي التوازن والاعتدال والوسطية والواقعية في كل ما وقع الأمر به والنهي عنه وما ذلك إلا التطبيق العملي لمقولة (الإسلام صالح لكل زمان ومكان) والتجسيم الفعلي لقول الله تبارك وتعالى في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آية. فلكي تقام الحجة على عباد الله بحيث لا يقبل منهم دين آخر غير دين الإسلام لابد ان تكون تعاليم هذا الدين داعية إلى الواقعية والتيسير والمرونة والعموم والاستجابة لما في النفس البشرية من رغبات وتطلعات حتى لا يتعلل متعلل بعد ذلك بالعسر والصعوبة وعدم الإمكان قال الله تبارك وتعالى في حق امة الإسلام (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فهي الأمة الشاهدة الوارثة المتحملة لمسؤولية إقامة الشهادة على الأمم الأخرى قال الله في حقها (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ولقد ربط أغلب الكاتبين بين الاعتدال والوسطية إذ بينهما علاقة متينة واضحة وجلية. * علاقة العبد بربه: وإذا أردنا ان ننظر بتعمق في ما كنا نسوقه لنقيم الأدلة والبراهين عليه نقول أن ذلك يتجلى في كل جوانب ومكونات الإسلام. انها علاقة أساسها الاعتدال والتكليف بما يطاق وعدم تحميل الإنسان ما لا يستطيعه وإذا كانت التوبة لا تقبل من التائبين قبل بعثة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام إلا بعد ان يقتص الواحد من نفسه ولا يخفي ما في ذلك من العسر والمشقة على الناس فإنهم بمجيء دين الرحمة ودين التيسير ودين الوسطية فتح لهم باب الإنابة والتوبة إلى الله في أية لحظة يريدون فيها العودة إلى الله وان ذنوبهم وخطاياهم مهما تكاثرت وتعاظمت ما لم تصل إلى درجة الشرك بالله فهي قابلة للغفران (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) وان من ارجي آيات القرآن قول الله تبارك وتعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم). وأحب العباد إلى الله في دين الإسلام هو ذلك الذي يبين لهم سعة رحمة الله وذلك والذي ييسر عليهم ولا يشدد عملا بالتوصية النبوية للصحابيين الذين أرسلهما إلى اليمن حيث قال لهما (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) ولو توسعنا في هذا المجال لأتينا بالكثير ولما تركنا بعد ذلك لأي عبد مهما اقترف من الذنوب مجالا لليأس والقنوط ألم يقل المولى سبحانه وتعالى في الحديث القدسي (إذا تقرب إلي عبدي شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا آتاني ماشيا أتيته هرولة) ولله المثل الأعلى وإنما استعمل الشبر والذراع والباع والهرولة لتقريب المعنى المراد من الأذهان فقط ولبيان مدى إقبال المولى سبحانه وتعالى في دين الإسلام على عباده ان هم اقبلوا عليه. وفي سبيل تعميق ذلك وتيسيره أزال الله تبارك وتعالى بينه وبين العباد كل وساطة أو كهانة أو صكوك غفران وقال لهم في كتابه العزيز (وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) وقال (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) وبذلك تبدو في دين الإسلام فسحة وتيسير ويبدو في هذا المجال المتعلق بعلاقة العبد بربه اعتدال فلا هو إطلاق للعنان بحيث يعتقد الإنسان أنها أرحام تدفع وارض تبلع، وانه لم يخلق لغاية وهدف ولا هو أيضا ييأس فيقنط فلا يجد ملجأ ولا مرجعا يرجع إليه. يبتغي الإسلام بين ذلك سبيلا وسطا أساسه لا يأس ولا طمأنينة وأمان يجعله يتواكل ويتكاسل ولا يفعل شيئا. فإذا نزلنا بعد ذلك إلى مستوى التكاليف الشرعية التي هي حق الله على عباده (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقد رسخ الاسلام في ذهن المسلم حقيقة وهي ان كل ما يأتيه المسلم من طاعات وما يصدر عنه من سيئات فلا يمكن ان تزيد الطاعات في ملك الله شيئا كما ان السيآت لا يمكن ان تنقص من ملك الله شيئا. وذلك مصداقا لقول الله تعالى في الحديث القدسي (يا عبادي لو أن إنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملك الله شيئا ولو أن إنسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) فهذه العبادات لئن كانت تحقق تجسيم الآية الكريمة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد ان يطعمون) إلا أنها عندما ينظر إليها الإنسان بتعمق وتدبر يجدها (ولله المثل الأعلى) تضرب عصفورين بحجر واحد فتتحقق بها العبودية لله وتلك هي الغاية والمقصد وتتحقق بها للقائم بها عدة مصالح ولا يوقف المسلم اتيان ما أمره الله تبارك وتعالى إلى ان يتعرف على الحكمة من فرض تلك التكاليف وان كان من حقه وهو يأتي هذه العبادات ان يبحث عن حكمها وأسرارها وقد ينكشف له أكثرها بمرور والأيام وتقدم الأبحاث العلمية في مختلف المجالات مثلما وعد الله بذلك في القرآن الكريم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) من حق المسلم ان يقتدي بسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما سأل ربه ان يريه كيف يحيي الموتى قال لربه رب ارني كيف تحي الموتى قال له ربه (أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). نستطيع ان نقول ان كل ما أمر به الله تبارك وتعالى من طاعات فيها المصالح والمنافع وكل ما نها الله عنه من محرمات فيها المضار إنها الخبائث ما ظهر منها وما بطن وسنجد في النهاية إذا نحن بحثنا بتجرد وتعمق أن التكاليف ما شرعت بعد تحقيق العبودية لله إلا لدرء مفسدة أو جلب مصلحة وهذه المصلحة قد تكون فردية وقد تكون اجتماعية وقد تكون جسدية وقد تكون نفسية وقد تكون عاجلة وقد تكون آجلة إلا أنها لن تخلو من تحقيق مصلحة للإنسان ولا يخفى ما في الصلاة من نهي عن الفحشاء والمنكر وسلامة لجسد الإنسان وما في الصيام من حمية وما في الحج والزكاة من فوائد مما بحث فيه الباحثون ودرسه الدارسون وما خرج منه المجسمون لحقائق هذه العبادات من مصالح. وهذه التكاليف وسط ليست بالقليلة التي تجعل الصلة بين الله وعبده موسمية. إنها تتكرر يوميا (الصلاة) وهذا ما طالب به بعض الأفارقة (البابا) من جملة ما طلبوا منه قالوا له إننا نريد صلوات خمسا مثل المسلمين انه لا يكفينا يوم في الأسبوع نريد من الدين النصراني ان تكون فيه وقفات بين يدي الله على الأقل خمس مرات مثلما يفعل المسلمون. هذا ان دل على شيء فإنما يدل على ان الله عز وجل الخالق للنفس البشرية العليم بتقلباتها وتركيباتها هو الأدرى بما يصلح أحوالها لذلك جعل لها هذه محطات خمس في اليوم والليلة، هي وقفات بين يدي الله وجعل لها شهرا في السنة تصومه وجعل لها حجة في العمر وجعل لها الزكاة كل سنة عندما يحول الحول ويبلغ المال النصاب ذلك هو المقدار الأدنى والضروري والذي لابد منه لإصلاح عاجل الإنسان وآجله وفي ذلك تصديق لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (وما تقرب إلى عبدي بأفضل مما افترضته عليه) وبذلك أيضا يكون ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي سأله يا رسول الله ماذا فرض الله علي؟ قال خمس صلوات في اليوم والليلة قال ليس أكثر قال له ليس أكثر، قال ثم ماذا؟ قال ان تصوم شهر رمضان وان تؤدي الزكاة إذا حال على مالك الحول وبلغ النصاب وتحج إلى بيت الله الحرام ان كنت مستطيعا. وكان في كل مرة يقول: ليس أكثر من ذلك يا رسول الله والرسول يجيبه ليس أكثر هنالك قال الأعرابي: والله لا أزيد عليهن يا رسول الله ثم انصرف. علق الرسول صلى الله عليه وسلم إثر ذلك قائلا: افلح صاحبكم ان صدق. إنّ هذه العبادات لا يمكن ان تعطل لنا شأنا من شؤون الحياة التي استخلفنا الله فيها فهي كافية لتحقيق المراد المطلوب، وقد يقول بعض من يدعون الخصوص إذا كان الغرض من العبادات هو الوصول إلى الله يجوز ان نترك هذه المفروضات!! فهل هم أقرب إلى الله أم رسول الله أقرب؟ ولم نسمع عنه أنه ترك فريضة ولا ركنا من أركان الإسلام. هذه الأركان فيها تيسيرات والقاعدة تقول (المشقة تجلب التيسير) (والضرر يزال) و(لا ضرر ولا ضرار) و(الضرورات تبيح المحظورات) وهي كلها مستفادة من قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وقوله (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وقوله (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وعندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقال (ان لله قد فرض عليكم الحج فحجوا) فقام أعرابي وقال له (أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله وكان على السائل أن لا يعيد السؤال من جديد فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ وفي المرة الثالثة أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) إن هذه الأركان التي تتخلل أيام المسلم وأسبوعه وسنوات عمره هي الكفيلة بتحقيق توازنه دون ان تعطل رغباته وما طلب منه من عمران لهذا الكون. * الاعتدال في مجال المعاملة والعيش في الكون. فإذا كان بعض من سبقنا من الأمم وبعض المذاهب يرون أن الخلاص والنجاة وتحقيق مرضاة الله لا تكون إلا على حساب هذه الحياة الدنيا وعلى حساب هذا الجسد المتكون من لحم ودم وعظام والمتكون من غرائز وطلبات وحاجيات فان ديننا الإسلامي الحنيف قد أراحنا من هذا الاختيار الصعب والمر على النفس وقال لنا بكل أريحية وبكل سعة ورحمة (وابتغ في ما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك). لقد حل الإسلام الإشكال: فهذه الحياة الدنيا ليست جيفة. عبرت عن هذه الحقيقة الآيات والأحاديث (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) آية (وابتغ فيما ىتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) آية (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) آية (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير) حديث (اليد العليا خير من اليد السفلى) حديث. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوّب أفهام المسلمين التي كثيرا ما تتداخل فيظن الظان أن السعي في هذه الحياة الدنيا هو على حساب مرضاة الله وعلى حساب الدار الآخرة فبينما كان الصحابة ذات يوم جالسين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرّ أمامهم شاب مفتول الساعدين فقال أحدهم : ليت هذا في سبيل الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ان كان خرج في سبيل قوت عياله فهو في سبيل الله وغن كان خرج لكي لا يسأل الناس فهو في سبيل الله) وبذلك توسع معنى في سبيل الله لكي لا يكون الجهاد في ساحة القتال فقط والذي أسيء فهمه وحرّف عبر تاريخ المسلمين واظهر على انه حرب مقدسة!! في حين ان الدين الإسلامي يعلن صراحة بان (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي) آية (لكم دينكم ولي ديني) آية (إنك لتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) آية. إننا نستطيع ان نعلن بكل أريحية أنه ليس من مبادئ الإسلام التسلط على رقاب الغير وإلزامهم بالدين الذي نعتقد أنه الحق المحفوظ الذي لن يرض ربنا سبحانه وتعالى من عباده بسواه - رغم اعتقادنا بذلك ورغم قناعتنا بذلك لم نشن حروبا ولم تقتل أرواحا بشرية فنزهقها فذلك حرام في دين الإسلام مع غير المسلمين وحرام بين المسلمين ويكفي ان نذكر بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما قال (الأوان بلدكم هذا بلد حرام وشهركم هذا شهر حرام ألا وأنّ أموالكم ودماءكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد). ان في سبيل الله جهاد في ساحات القتال عندما يفرض القتال على المسلمين (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير) آية إن في سبيل الله كل ما هو عمل صالح إذا اقترن بنية التقرب إلى الله (قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) آية – فلا رهبانية في الإسلام (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) آية. ويأتي ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله يسألون عن عبادته وتقربه إلى الله فيقال لهم تنه يصوم إلى إن يقول أهله يكاد لا يفطر ويقوم الليل إلى أن تتفطر قدماه وهو الذي غفر له ربه ما تقدم وما تأخر من ذنبه قررهؤلاء الصحابة التبتل والتزهد والانقطاع عن الحياة الدنيا، أحدهم قرر أن لا يفطر أبدا والآخر أن لا ينام الليل أبدا والثالث ان لا يتزوج أبدا، وعندما بلغ ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم “أنا محمد بن عبد الله غفر لي ربي ما تقدم وما تأخر من ذنبي أصوم وأفطر واقوم وانام وأمشي في الأسواق وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني” أي من اختار طريقة لمرضاة الله تبارك وتعالى غير هذه الطريقة فلست منه وليس مني فقد يسّر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر ووضحه أحسن توضيح وقال لنا (إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزوجك عليك حقا ولربك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه) حديث ومن هنا جاءت تلك المقولة المأثورة (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) وفي هذا الإطار كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو ان الساعة تقوم وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها فله في ذلك أجر) حديث. فهذه الحياة الدنيا بكل ما فيها إذا اقترنت بنية نفع العباد وتفريج كروبهم وقضاء حوائجهم وتيسير أمورهم إذا اقترن كل ما يقوم به المسلم في هذه المجالات والميادين بنية التقرب إلى الله تنقلب تلك الأعمال إلى طاعات وعبادات وقربات وهي أفضل عند الله سبحانه وتعالى من نوافل الصلوات والزكاة والصيام وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام بالمسجد فوجد شابا يتعبد في غير وقت عبادة فقال (من يعول هذا؟ فقالوا: أخوه فقال أخوه أفضل منه) حديث. (ومن فرج على مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب يوم القيامة) حديث (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) حديث. والتفكير في شؤون الناس وقضاء حوائجهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ونصرة مظلومهم هي عبادات وقربات من أعظم العبادات في دين الإسلام وذلك لعمري هو التجسيم الفعلي لمبادئ الإسلام فما نصبت للمسلمين عقائد إيمانية وما فرضت عليهم أركان تعبدية إلا لكي تترك في سلوكهم ومعاملاتهم مع بعضهم البعض أثرا ايجابيا وإلا فإنها مردودة عليهم لا حاجة لله فيها (من لم تنهه صلاته فلا صلاة له) حديث (الدين النصيحة) حديث و(الدين المعاملة) حديث. (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في تركه طعامه وشرابه) حديث (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) حديث (من فطر صائما كان له أجر ذلك الصائم دون ان ينقص من اجر الصائم شيئا قالوا ليس كلنا يجد ذلك يا رسول الله ، قال يعطي الله هذا الأجر من فطر صائما على جرعة ماء على مذقة لبن على حبة تمر) حديث (اتقوا النار ولو بشقة تمرة) حديث وعندما تتحدث عن هذه الجوانب المعاملاتية من دين الإسلام وتعمل على نشرها بين الناس ونلح عليها فلأنها عين الإسلام. وعلى هذا النهج السليم الراشد الواضح ينبغي ان يسير المسلمون يجسمون إسلام الرحمة، إسلام الأخذ بالأسباب، إسلام الأخذ من نصيب الحياة الدنيا لتتجسم حقيقة وفعلا الخيرية الواردة في الآية الكريمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) نعم إنها خيرية قائمة بالشهادتين، خيرية إيمانية وأخلاقية، خيرية سلوكية، وخيرية حيوية بالتمكين في الأرض واكتساب القوة المادية، ولن يكون المسلمون خير أمة أخرجت للناس يقتنع بخيريتها الجميع إلا متى كانت ظروف عيشهم ومستويـاتهم في مختلف المجالات والميادين هي الأفضل والأحسن بين الأمم والشعوب وأنهم لمدعوون إلى تجسيم ذلك في حيز الواقع امتثالا للآيات القرآنية الصريحة والأحاديث الصحيحة واقتداءً بالسيرة المحمدية الزكية. يقول جل من قائل (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين) آية. ويقول (ان العزة لله ولرسوله وللمؤمنين) آية. ولم تكن امة الإسلام عبر القرون الماضية في هذا المستوى المطلوب من الخيرية المتكاملة، الخيرية الدينية المضمونة بقول الله تبارك وتعالى(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) آية، وقوله (والله متم نوره ولو كره الكافرون) آية إنها خيرية ينبغي أن يضاف إليها تمكين في الأرض وعلوّ شأن وعزة وغلبة وأخذ بالأسباب وقوة في هذه الحياة الدنيا تجعل من المسلمين بحق مثلا يقتدى ونموذجا يهتدى به. وان مما وسع به الإسلام على المسلمين انه جعل استمتاعهم بما يمكن ان يعتبر استحياء مما لا يتحدث به الناس في مجالسهم (ولا حياء في الدين) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان في بضع أحدكم صدقة! قالوا: أيأتي احدنا شهوته وله اجر؟ قال: نعم كيف لو فعل ذلك في الحرام؟ عليه وزر؟). وقد فسر المفسرون قول الله تبارك وتعالى (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) آية بأن الحسنة التي في الدنيا هي الزوجة الصالحة التي إذا نظر إليها زوجها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته) حديث وقد طرق باب عبد الله ابن العباس رضي الله عنهما ذات يوم أحد طلاب العلم يسأل عن مسألة فتأخر عبد الله بن عباس في الخروج إلى هذا الطالب وعندما خرج بعد حين كان يقطر ماء وعليه أثر من طيب وزينة قال له قبل أن يبادر الطالب بالسؤال (إنهن يحببن ان نتزين لهن كما نحب ان يتزين لنا). تلك هي قمة التعادلية في دين الإسلام الذي يجعل من لذات الحياة الدنيا ومتعها الطيبة الحلال قربة وعبادة ترضي الله وترى بها اثر نعمة الله على عبده، وقد تجادل عابدان أو سالكان احدهما-اختار لنفسه طريق التوسيع على نفسه وإظهار البحبوحة والآخر اختار سبيل التضييق فقال الذي اظهر نعمة الله على نفسه (تلومني، ان حالتك تقول أعطوني لله وحالتي تقول: الحمد لله) ومما يعجبني في هذا السياق قول أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه كان يقول لأتباعه وتلاميذه (لا تشربوا الماء الحار في اليوم الحار فإنكم إذا شربتم الماء البارد في اليوم الحار وقلتم الحمد لله لم يقلها اللسان فقط بل تقولها معه كل الأركان والأعضاء في جسد الإنسان) وكان مما يفسر به رضي الله عنه قول الله تبارك وتعالى (خذوا زينتكم عند كل مسجد) آية. الحديث النبوي (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) حديث ويستنتج من ذلك ان على المسلم ان يأخذ زينته في كل مكان مادام كل مكان من أرض الله مسجد وطهور). وتجسيما لحديث (ان لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا) حديث جاء من يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ان يتصدق بكل ماله في سبيل الله، قال: أريد أن أتصدق بكل مالي في سبيل الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (تصدق بالثلث والثلث كثير لان تترك ورثتك أغنياء أفضل من ان تتركهم فقراء يسألون الناس) حديث. وفيما يتعلق بالإنفاق والبذل لا ينبغي على المسلم ان يجعل يده مغلولة إلى عنقه وعليه ان لا يبسطها كل البسط ويدخل الإسلام في مأكل الإنسان ومشربه فيقول جل من قائل (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) آية ويبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول(إذا كان ولابد فثلث للطعام وثلث للماء وثلث للنفس بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) حديث (وما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه) حديث وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مادة غزيرة جديرة بالنشر بين الناس في مختلف الميادين والمجالات حتى تعم وتتجسم ثقافة الاعتدال والوسطية الكفيلة بدحض التطرف من ناحية والتميع من ناحية أخرى مصداقا لقول الله تبارك وتعالى(وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) صدق الله العظيم. مهما كتب في مجال تجلية حقائق الإسلام وتبيين خصائصه ومميزاته فان ذلك يظل قليلا وتظل الحاجة ماسة للمزيد في هذا المجال و ذلك نظرا لما تراكم على جوهر الإسلام ولبه من ران أظهره في الكثير من الأحيان في مظهر الشبح المخيف والمنظر المرعب والخطر المهدد الذي يستهدف الحرث والنسل. وأسباب هذا الران وتلك الشبهات عديدة بعضها يعود إلى عهود غابرة من صنيع المسلمين والبعض الآخر خارج عن نطاقهم لأجل ذلك وجب على حملة الأقلام من علماء الإسلام ودعاته ان ينبروا للتعريف بحقائق دينهم الحنيف فتلك هي رسالتهم و ذلك هو دورهم وهذه المهمة سهلة وصعبة في الآن نفسه إنها سهلة لان تعاليم الإسلام في كتاب الله العزيز وهدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام هي من الوضوح واليسر والجلاء والمرونة وهو ما يجعل القائم بهذه المهمة لا يجد عسرا ولا يتكلف رهقا وهي صعبة لأن الشبهات كثيرة والافتراءات لا حصر لها ولا عد وهي آتية من كل صوب وحدب مما يستوجب التصدي لها في عمل دائب لا يعرف التوقف . انه لا يكفي ان نعلن ان الإسلام دين تسامح وواقعية واعتدال ووسطية واخذ بالأسباب وتحقيق للرقي والتحضر بل لا بد ان نضيف إلى ذلك الإعلان التجسيم العملي لذلك والبرهنة وإقامة للحجة، والحجة والحمد لله موجودة في تعاليم الإسلام، إنها تجتاح من أهل الذكر من حملة الأقلام ومن العلماء والدعاة ان لا يملوا من توضيحها وتجليتها وبسطها والتعريف بها وإشاعتها بين الناس الذين تتجاذبهم في هذا الزمان الصعب موجات و تيارات متلاطمة متعارضة ومتناقضة في كثير من الأحيان. إنّ الإسلام دين الواقعية والاعتدال والوسطية : فالاعتدال ميزة وخاصية للدين الإسلامي وهي خاصية تلتقي مع إرادة الله القاضية بان يكون الإسلام الدين الوارث والخاتم والدين الكامل والدين الذي لن يرضى الله تبارك وتعالى من عباده بسواه فلا بد ان يكون لهذا الدّين من الخصائص والمميزات ما يجعل الناس لا حجة لهم في عدم اعتناقه والإيمان به. والأديان التي سبقت الإسلام ظرفية بالمعنى الزمني لا بمعنى القداسة لأننا لا نفرق بين رسل الله نؤمن بهم جميعا إذ الغاية من بعثهم هي تحقيق عبودية الإنسان لله رب العالمين. فكل نبي أو رسول من هؤلاء الأنبياء والرسل بعث في بيئة خاصة ولأقوام معينين إلا سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام فان الله تبارك وتعالى أرسله للناس كافة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فالإسلام ليس دين قوم أو جنس أو لون أو فئة ولا هو دين ظرف معين، انه دين كل الأجناس والألوان ودين كل المراحل الزمنية التي جاءت بعد بزوغ نوره والى ان يرث الله الأرض ومن عليها. والذي يلاحظ بتمعن خصائص الأديان التي سبقت رسالة الإسلام يجد فيها الفعل ورد الفعل (إذا ضربك احد على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) وهي مطالبة بالحد الأقصى للحصول على الأدنى وهو ما يتناسب مع المجتمع الذي ظهرت فيه تلك الرسالات والذي طغت عليه المادية المجحفة فناسب مخاطبة الناس ومطالبتهم بالأقصى للحصول منهم على الأدنى وليس الأدنى سوى المنهج الوسط الذي تتقبله كل الأنفس البشرية عن طواعية وطيب خاطر. وعندما ننظر في تعاليم الإسلام بعد أن تمت واكتملت وبعد أن نزل قول الله تبارك وتعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) آية فإننا نرى فيها نمطا متكاملا ونسقا لا اختلاف فيه حيث تأخذ كل حاجة من حاجات الإنسان ما تستحق من العناية و الاهتمام. وتبدو هذه الوسطية والواقعية وذلك الاعتدال بجلاء في العقيدة والعبادة، فالعقيدة هي حجر الزاوية في كل الأديان السماوية والعبادة هي المجسمة لحق الله على عباد (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد منهم أن يطعمون) آية فإننا لا نلاحظ فيها تميعا أو تسيبا أو تساهلا وكذلك لا نجد فيها تشديدا أو تعقيدا أو تعنتا. فلم يعتبر الإسلام الرهبانية أمرا محمودا رغم ان ظاهرها التفرغ لعبادة الله فقد أراد الله تبارك وتعالى من هذا الإنسان أن يكون خليفة لله في الأرض (إني جاعل في الأرض خليفة) آية ولا يستحق الإنسان هذه الخلافة بروحانية بحتة أو مادية بحتة إنما يستحق الخلافة بالجمع بين المادة و الروح ومن استطاع ان يحقق هذه التعادلية استحق ان يلقب بالخليفة ولم تستطع الملائكة تقبل ذلك وهي مخلوقات من نور غذاؤها العبادة ليس لهم غرائز ولا حاجيات ولا مطالب جسدية ولم تتقبل أن توجد مخلوقات غيرها مؤهلة لخلافة الله لذلك قالت الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) آية هنالك قال الله لها (إني أعلم ما لا تعلمون) آية لقد بين الله للملائكة وأقام عليهم الحجة وباهى بعباده المؤمنين ملائكته المقربين حيث تكاملت في الإنسان المادة والروح ولم يطغ جانب على جانب بما في ذلك ما هو في ظاهره الخير والرحمة مما هو من قبيل التخلص من الشهوات والنزوات وميل نحو الترهب، اعتبر الله تبارك وتعالى ذلك الصنيع من قبيل البدعة فقال (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) آية أي هم الذين شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فالله تبارك وتعالى يريد لعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ولم يجعل عليهم في الدين من حرج وأمرهم ان يدعوه صباح مساء بأن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به. إن حق الله في دين الإسلام على عباده: عقيدة وعبادة يتحقق القيام بهمت بمجهود يسير ومعقول لا يعطل حياة الإنسان وسائر شؤونه، ولا يجد المسلم نفسه أمام خيار صعب: إما أن يختار الدين أو يختار الدنيا! ان المسلم في حل من هذا الامتحان وهذا الاختيار الصعب، انه في إمكانه في دين الإسلام أن يحيا دينه كما تنبغي أن تكون الحياة وان يحيا دنياه كما تنبغي ان تكون الحياة دون ان يتضاربا ودون أن تتعدى إحداهما على الأخرى وليس ذلك في دين غير دين الإسلام ومن يقرأ قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون...) آية يخيل إليه ان المسلم الكامل والحقيقي والمرضي لربه هو ذلك المتعبد المتزهد غير الساعي في الأرض وغير النافع لعباد الله وغير المكتسب للمعارف والمهارات وغير القائم بدوره في المجتمع!! غير أن الأمر في الحقيقة والواقع عكس ذلك فالعبادات في الإسلام وهي مجموعة من الشعائر لا تأخذ من يوم المسلم ووقته إلا مقدارا معقولا وضئيلا فأين هو إذن الحصر الوارد في الآية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون..) آية انه في ذلك التصور الجديد للعبادة حيث وسعها الإسلام لتشمل سائر نشاطات الإنسان في الخير على حد قوله جل من قائل (قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) آية وحسب هذا ال