في رياض السنة: النيّة وأثرها في الثّواب والعقاب
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح ابن عدي ابن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه”، متفق على صحته رواه إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه الجعفي البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رضي الله عنهما في كتابيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة. موضوع النية هي أساس كل عمل يريد من ورائه القائم به الحصول على الثواب والجزاء من عند الله. فالنية ركن أساسي في كل العبادات والطاعات وبدون النية تكون الطقوس مجرد حركات لا ينتظر القائم بها ثوابا من الله سبحانه وتعالى. والنية هي العزم والقصد ومحلها القلب ويمكن للسان أن يعبر عن هذه النية ولكن العبرة بالقلب وما يضمر وهذا الحديث (إنما الأعمال بالنيات) افتتح به الإمام البخاري صحيحه ورواه الإمام مسلم كما رواه غيرهما من أئمة الحديث. وابتداء الإمام البخاري لصحيحه بهذا الحديث (إنما الأعمال بالنيات) لا يخفى ما فيه من الإشارة الصريحة إلى أن عمله الجليل يروم به جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم محققة مدققة وحفظها للأمة كي تعلم أمر دينها باعتبار أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صنو القرآن أو المبينة لما فيه من هدي وأحكام وهي مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصريح نص القرآن (لتبين للناس ما نزل إليهم) وقد بين عليه الصلاة والسلام ما نزل عليه بأقواله وأفعاله وإقراراته فهذه الخدمة الجليلة التي أسداها الإمام البخاري لدين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها من غاية وهدف إلا الإحراز على مرضاة الله لا يبغي من وراء ذلك لا جزاء ولا شكورا. وحديث النية (إنما الأعمال بالنيات) هو الحديث الذي يستدل به ويعتمد عليه في التأكد الشديد على الإخلاص لله في الأعمال والأقوال وهو الذي شددت على أهميته وضرورة توفره الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة والتي نذكر منها قوله جل من قائل (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وقوله تعالى (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقوله تعالى (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نية المرء خير من عمله) وقال (يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله). فالنية بمعنى الإخلاص لله سبحانه وتعالى فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يخلص فيها بأن عمله يرد عليه يوم القيامة من ذلك ما جاء في الحديث القدسي إن الله تبارك وتعالى يقول لمن لم يخلص في عمله (اذهب إلى من أشركته بي فليجازيك اليوم أنا أغنى الشركاء) كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يوقف بين يديه عالما وغنيا وشهيدا ويسأل كل واحد منهم عما فعل العالم بعلمه وعما فعل صاحب المال بماله وعما فعل صاحب الشجاعة بشجاعته فيقول العالم علمت ويقول صاحب المال تصدقت ويقول الشهيد جاهدت إلى أن استشهدت فيقال لهم فعلتم ليقال للعالم ما أعلمه وللغني ما أسخاه وللشهيد ما أشجعه وقد قيل ذلك ثم يؤمر بهم إلى نار جهنم. إن الله تبارك لا يقبل من العمل إلا أخلصه وما يقابل الإخلاص هو الرياء والتظاهر وابتغاء الشكر والثناء من الناس اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الخفي وكثيرا ما يترك الإنسان الشرك الظاهر ويأتي الشرك الخفي وهو الجري وراء الثناء والشكر من الناس. راوي حديث (إنما الأعمال بالنيات) هو سيدنا عمر رضي الله عنه وهو حديث عمل به الفاروق فكان شديد المحاسبة لنفسه شديد الخشية لربه كثير الحذر من أن يقع في الرياء وما كان يرتاح إلى ثناء الناس وشكرهم وهذه الحال من الوقوف بالمرصاد للنفس الأمارة بالسوء كانت الغالبة على عمر بن الخطاب الذي استحضر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكيس من دان نفسه) فكان يحاسب نفسه وكان شديدا في ذلك كان يؤثر عليه قوله (ليت عمر كان تبنة ليت أمه لم تلده) وقوله (لو نادى مناد كل الناس يدخلون الجنة إلا رجلا لقلت ويحك انك أنت يا ابن الخطاب). • (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) أي لا عمل إلا بنية، والله تبارك وتعالى يحاسب عباده بناء على نواياهم التي هو بها عليم فهو سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور) فنية المرء خير من عمله فإذا كانت نيته مرضاة الله وثوابه فسيجد ذلك وسيجازيه ربه أحسن الجزاء وأتمه وإذا كانت نيته غير ذلك فلا ينتظر إلا العقاب والعذاب ورد عمله عليه. ثم يفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدم الأمثلة على النية الخالصة لله فيقول عليه الصلاة والسلام (فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) أي من خرج من مكة المكرمة وقد كانت قبل الفتح دارا للكفر مهاجرا في سبيل الله امتثالا لأمره ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى يكتب له هذه الهجرة بما فيها من معاناة وتضحية في صحائفه وسيجازيه عليها الجزاء الأوفى والأوفر أما من يهاجر جريا وراء الدنيا ونعيمها وابتغاء لها ولحظوظها والتي منها الزواج بامرأة أحبها وتعلق بها فإن هذا المهاجر لا ينتظر ثوابا على هذه الهجرة. والعبرة في هذا الحديث مثل غيره هو بالعموم لا بالخصوص إذ المقصود هو تمحيص العمل لوجه الله وحده ولتكن الدنيا حاصلا غير مقصود أما المقصود أولا وأخيرا فهو رضا الله والله لا يقبل من العمل إلا أخلصه وأصوبه ولقد جعل السلف الصالح هذا الحديث وما هو في معناه من الأحاديث الأخرى وكذلك الآيات القرآنية العديدة نصب أعينهم فراقبوا الله في الصغيرة والكبيرة واخلصوا العمل لوجه الله يقول جل من قائل (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). والهجرة من الهجر لما يغضب الله وهو مطلوب من المسلم أما الهجرة بمعنى الانتقال من مكة إلى المدينة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح) أي بعد فتح مكة التي بشر بها الله رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام حيث قال جل من قائل (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) وقوله سبحانه وتعالى (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا) قال أرباب الإشارات من العارفين “إنما الأعمال بالنيات” يتعلق بما وقع في القلوب من أنوار الغيوب والنية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له وألا يسنح في السر ذكر غيره والناس فيما يعشقون مذاهب فيهم العوام في طلب الأعراض مع نسيان الفضل ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس ونية العلماء إقامة الطاعات لحرمة ناصبها لا لحرمتها ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات ونية أهل الحقيقة ربوبية تولد عبودية (وإنما لكل امرئ ما نوى) من مطالب السعداء وهي الخلاص عن الدركات السفلى والفوز بالدرجات العليا وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعة والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والغناء عن أنانيته بهويته أو من مقاصد الأشقياء وهي ما يبعد عن الحق (فمن كانت هجرته) أي خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلا من منازل النفس (إلى الله) لتحصيل مراضيه (ورسوله) بإتباع أمره وأخلاقه (فهجرته إلى الله ورسوله) فتخرجهم العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء (ومن كانت هجرته إلى دنيا) أي لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه والخيلاء وغيرها فيبقى مهجورا عن الحق في أوطان الغربة لم نار الفرقة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا الجلد ولا تخلص إلى القلب (انظر الصفحة 44 و45 من الجزء الأول من كتاب دليل الصالحين لطرق رياض الصالحين).