أمة اقرأ ووجوب القضاء على الأمية
لا شك أن التأكيد على حقيقة ان دين الاسلام هو دين العلم والتوعية بها لا يحتاج الى عناء كبير وجهد إضافي يؤدي الى التعسف والتمحل فالمسألة في غاية الوضوح والجلاء والاسلام هو دين العلم بجدارة واستحقاق ويكفيه فخرا أن أول ما نزل رسول الله وهو في غار حراء يتعبد في أول لقاء بينه وبين جبريل عليه السلام هو الأمر الإلهي بالقراءة ولا يخفى ما في ذلك من المغازي والعبر فهي واضحة لا تحتاج الى بيان فأمة محمد عليه الصلاة والسلام هي أمة اقرأ وهو أمر والأمر يقتضي الوجوب أو على الأقل الندب والاستحباب والأمر بالقراءة قدم في دين الاسلام على الأمر بالعبادة لأن القراءة مؤدية الى العبادة دافعة اليها في الغالب ولكن العبادة غير مؤدية بالضرورة الى القراءة ولعل في الأمر بالقراءة إشارة وتلميح الى ان القراءة محققة لأرقى درجات العبودية لله سبحانه وتعالى وبالطبع غير قائمة مقام ما افترضه الله سبحانه وتعالى على عباده (وما تقرب الى عبدي بأفضل مما افترضته عليه) ولكن القراءة محققة ولا شك لأرقى وأصدق وأخلص مظاهر العبودية لله سبحانه وتعالى ولأجل ذلك قال جل من قائل (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر وإنما أداة حصر تفيد في الآية الخشية الحقيقية والتامة لله سبحانه وتعالى هي خشية العلماء الذين يعرفون ظواهر الأمور وبواطنها ويعرفون جزئياتها وتفاصيلها والتي تتظافر كلها مع بعضها البعض على التأكيد على قدرة الله وعظمته وخفي لطفه بعباده فالعالمون هم الذين يستطيعون أن يقولوا بملئ أفواههم وقلوبهم وعقولهم وجوارحهم سبحانك ما خلقت هذا باطلا وهم الذين يمكن ان يصدر عنهم التأكيد القائل وفي كل شيء له آية تدل على انه الواحد (منهج القراءة وخصوصياته في الاسلام) ولكن القراءة المحققة لهذه الدرجة من الخشية من الله سبحانه وتعالى والتي يأمل بها رفيع المنزلة الوارد في الآية الكريمة (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة هي القراءة المقترنة باسم الله المستلهمة من سبحانه وتعالى العون والتوفيق والفتح المبين لذلك جاء الأمر الأول بالقراءة قائلا (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم) العلق فالرب الذي يأمر المسلم بأن يقرأ باسمه ابتداء وشروعا هو مصدر العلم فهو العليم سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعلم العبد مهما ازداد قليل ضئيل بالنسبة لعلم الله الذي لو كان البحر مدادا له ولو كانت الأشجار أقلاما لتدوينه لنفذ ماء البحر ولنفذت أعواد الشجر ولبقي وازداد علم الله سبحانه وتعالى ولهذا قال لنا المولى سبحانه وتعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الاسراء ولكن هذا القليل هو بالنسبة لعلم الله فقط الذي لا حد له ولا عد اما بالنسبة لعلوم الناس فالمجال مفتوح في سبيل التسابق والتنافس هذا التنافس الذي يباركه المولى سبحانه وتعالى ويزكيه والساعي في تحصيله يتخذ شعارا له قول الله تبارك وتعالى (وقل رب زدني علما) طه ولا شك ان المولى سبحانه وتعالى معين ومسدد لخطى طالب العلم فاتح له وعليه كل مجهول ألم يقل جل من قائل (اتقوا الله ويعلمكم الله ) البقرة وسلوك سبيل طالب العلم هو سلوك لطريق الجنة وكل ما خلق الله من كائنات في البر والبحر يستغفر لطالب العلم ومداد حبر العلماء يرجح بدماء الشهداء ولا شك انه لا نسبة ولا مناسبة في المنزلة والمكانة بين العالم وغير العالم عند الله وفي دين الاسلام ألم يقل جل من قائل في سياق الاستفهام الاستنكاري (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر والجواب طبعا لا يستوون فأولو العلم هم الذين يشهدون مع الله وملائكته بانه سبحانه وتعالى لا إله إلا هو (شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران وبقية سياق الآية الآمرة بالقراءة تلفت النظر الى دقيق خلق الله وعظيم صنعه وتدعو القارئ الى النظر في نفسه وذاته كيف تطورت وتدرجت من العلق (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق ) العلق وهي الحقيقة العلمية التي توصل اليها الباحثون المخبريون والمؤكدة على طبيعة القرآن المعجزة الدالة على أنه وحي الله الى نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويواصل السياق القرآني بيان الحقائق التي كثيرا ما يتجاهلها الانسان الظلوم حيث يقول جل من قائل (علم الانسان ما لم يعلم) العلق أي انسان فالله هو الذي علم الجميع بما خلق للانسان من عقل به يفكر ولسان به ينطق وعين بها يبصر وأذن بها يسمع وبما هيأ له من الوسائل (علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم) العلق ان المسلم الحكيم العاقل لا يملك إلا أن يسلم بالحقيقة القرآنية الصريحة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) البقرة و لا يخرج عن هذه الحقيقة ولا يتجاوز هذه المنزلة أحد من خلق الله حتى الأنبياء والرسل يقول الله لإمامهم وخاتمهم سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) النساء (العلم بالتعلم) واذا كان علم الأنبياء وهبيا فإن علم بقية خلق الله كسبي واذا كانت الأمية بالنسبة للأنبياء تميزا وخصوصية تنفي عنهم كل شبهة أخذ ما جاؤوا به عن أحد من خلق الله فإن الأمية في حق غير الأنبياء حالة لا ينبغي استصحابها واستمرارها وتتخذ كل أسباب الترغيب والترهيب في سبيل القضاء عليها عملا بالقوانين الإلهية التي بثها الله في الكون وفي جريان الأحداث حيث قال جل من قائل (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد وينطبق هذا القانون الحضاري الإلهي على المسلمين وعلى غيرهم وعلى مستوى المعيشة المادية والاجتماعية وفي هذا السياق يقول رسول الله (إنما العلم بالتعلم) وهو بذلك عليه الصلاة والسلام يسد الباب أمام كل صنوف التعلل الكاذب والتكاسل والتواكل فلا مجال في الإسلام وفي الواقع المعيش الى ان ينام الانسان أميا ثم يستيقظ في الصباح فيجد نفسه قد أصبح يحسن القراءة والكتابة والحساب فمن لا بعلم عليه ان يسأل من يعلم (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الأنبياء وحتى ما قاله رسول الله في الحديث الشريف (نحن أمة أمية) فهو تصوير لحالة وجد عليها الاسلام العرب وعمل كل ماوفي وسعه من اجل تغييرها وحصل ذلك فعلا وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عدد من يحسن القراءة والكتابة قليلا جدا يعد بالأصابع وبين عشية وضحاها وفي سنوات قلائل انقلبت المعادلة وتغيرت الوضعية في اتجاه انتشار العلوم والمعارف ولا يمكن ان ينكر أحد ان وراء النهضة العلمية التي حصلت في الجزيرة العربية وما حولها تعاليم الاسلام وهدي وسيرة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام فهو الذي يقول وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( طلب العلم فريضة على كل مسلم) (لا فرق بين الذكر والأنثى في طلب العلم) لا فرق بين الذكر والأنثى في طلب العلم وتحصيله وقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها من كبار فقهاء الأمة يعود الى رأيها جل الصحابة من المهاجرين والأنصار يأخذون عنها دينهم تقديرا منهم لكفاءتها وذكائها وفطنتها وقربها من صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام وكذلك كن نساء صدر الاسلام يتعلمن ويحرصن على تحصيل حظهن من العلوم والمعارف فهذه امرأة منهن تقف مطالبة بحقهن في نصيب من وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة (غلبنا عليك الرجال اجعل لنا يوما تفقهنا فيه) فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن أقرها على حقها المشروع منوها بجرأتها في الحق فقال (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) وهذه الأجواء من الحرية والمسؤولية الكاملة هي التي جعلت عجوزا تقف معارضة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على مرأى ومسمع ممن في المسجد وذلك عندما أراد رضي الله عنه أن يحدد المهور لما رأى مغالاة فيها لقد استدلت هذه العجوز في رأيها المعارض لما عزم عليه أمير المؤمنين بقوله جل من قائل (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) النساء ما كان من عمر إلا أن تراجع عما عزم على القيام به قائلا أصابت العجوز وأخطأ عمر كل الناس أعلم منك يا عمر ولقد أجاز الاسلام ترغيبا في نشر العلوم والمعارف ومحو الأمية والجهالة أن يكون مهر الزوج لزوجته آيات من القرآن الكريم يحفظها لها ومكن الاسلام الأسرى من حق التحرر ان هم علموا عددا يتفق عليه من المسلمين القراءة والكتابة (لا قيد على العلم في الاسلام) ولم يجعل الاسلام لطلب العلم حدا ولا قيدا فالعلم حكمة والحكمة مطلب المسلم ومبتغاه الذي يسعى الى تحصيله عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها) يأخذها من المسلم ومن غير المسلم ويأخذها من الصغير ومن الكبير يسافر من أجلها الى اقاصي الدنيا حتى لو كان ذلك في بلاد الصين ويطلبها من المهد الى اللحد ان المسلم في سعي دائب لتحصيل العلوم والمعارف يكتسب لغات الأمم الأخرى ولا ينغلق على لغته الأصلية رغم ما لهذه اللغة من خصوصية لا تخفى باعتبار ان الله اختارها لتكون لغة كتابه العزيز (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) يوسف (بلسان عربي مبين) الزخرف ومع ذلك فإن من تعلم لغة قوم أمن شرهم بل ان طبيعة الاسلام الكونية باعتباره دين الناس أجمعين (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) الأنبياء تفرض على المسلمين ان يسعوا الى معرفة لغات كل الأمم والشعوب لإبلاغهم رسالة الاسلام وإقامة الحجة عليهم وللاستفادة منهم ومما عندهم من خيرات (لا بد من القيام بفروض الكفاية) ان المسلم لا يجوز له ان يتوقف عن طلب العلم وصدق الامام علي رضي الله عنه عندما قال (اذا طلعت علي شمس يوم لم أزدد فيه علما فلا بورك لي في طلوع شمسه) والمسلم مدعو الى أن يكون إما عالما أو متعلما وعليه ان يحذر ان يكون الثالث فيهلك واذا كانت العلوم الشرعية او ما يسمى بالمعلوم من الدين بالضرورة هو فرض عين على كل مسلم فإن فروض الكفاية إذا تمالأ المسلمون على تركها بحيث يحتاجون فيها الى غيرهم احتياجا متواصلا فإن الوزر يتحملونه جميعا على ان كل العلوم المحققة لمصالح المسلمين العاجلة والآجلة رخاء وازدهارا وعزا وتمكينا وعلو شأن في مختلف مجالات الحياة لهي من العلوم التي يجب على المسلمين أن يكتسبوها ويحققوا الكافية وزيادة حتى يسودوا وتكون أيديهم هي العليا وقد ساد هذا الفهم العميق البعيد المدى المدرك للمقاصد العيا لدين الاسلام وهدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام لقرون طويلة أصبحت فيها ديار الاسلام وحواضره في المشرق والمغرب قبلة القصاد وطلاب العلم من مختلف الأمصار والأجناس والأديان تعايشت في رحاب المساجد والجوامع وبيوت الحكمة والمكتبات الكبرى مختلف العلوم والمعارف وتمازجت وتفاعلت فيما بينها لتبرز الى حيز الوجود حضارة فريدة متميزة الذي يقرأ مبتدئا باسم الله مستعينا به مستلهما منه سبحانه وتعالى الرشاد والسداد وكانت النتائج من جنس المقدمات السليمة القويمة فلم نشهد صراعا ولا صداما بين العلم والدين وبين الشرعي والحياتي المعيشي دون ان يطغى مجال العلم عن مجال التعليل للحياة علومها (فالدين يعلل والعلم يحلل) يتفاعلان ويتكاملان ولا يتصادمان إلا إذا تمحل او تعسف أحد من المستضلين بهما (العلم يرفع شان طالبه) والعلم في دين الاسلام ومجتمعه حق مشاع للجميع لا يجوز منع أحد من تحصيله بل يحرم كتمانه فقد ورد في الحديث الشريف (من كتم علما الجمه الله بلجام من النار) وهذا المبدأ هو الذي جعل السؤدد والعز والدرجة الرفيعة والتصدر في المجتمع وخلود الذكر لا يكون حكرا على فئة دون فئة فمن انكب على تحصيل العلوم والمعارف ومن اجتهد فيها فأحرز قصب السبق فهو الذي يرجع اليه ويعود اليه الجميع بقطع النظر عن جنسه ونسبه وأصله وفصله ولونه ومستوى عيشه وكثيرا ما تقدم أبناء عامة الأمة على أبناء الخاصة وكثيرا ما تصدر من لا مال ولا جاه ولا نسب رفيع لهم ولكن بوأهم علمهم وتبحرهم فيه الصدارة والريادة وخلد التاريخ بعد ذلك ذكرهم (بقاء الأمية لا تقر عليه تعاليم الاسلام) وان أمة هذا بعض هدي دينها في مجال العلم وطلبه وتحصيله لتعتبر مقصرة في حق دينها وفي حقوق مختلف أجيالها ان هي تقاعست وتكاسلت عن طلب العلوم والمعارف بكل الطرق والأساليب والوسائل لكي لا يبقى بين المسلمين وفي مجتمعهم من لا يعلم ولو قليلا (وكثير العلم قليل دائما) انه لعار على امة اقرأ ان يبقى بينها امي واحد يمضي بإبهامه ويبحث عمن يقرأ له رسالة أو يعلمه بمضمون وثيقة وهذا الواجب الديني يعاضده واجب مدني حضاري اقتصادي تنموي يؤكد ان لا تحقيق للآمال في العيش الكريم وفي الطموحات المادية المشروعة بغير تنمية الموارد البشرية وبعبارة أوضح لا تنمية ولا رقي ولا تحقيق للكفاية والازدهار مع بقاء الأميين في صفوف أفراد مجتمع من المجتمعات ونسب الأمية اليوم لا تزال مرتفعة جدا اذ تبلغ وفق آخر احصائيات المنظمات الدولية المختصة ما يزيد على المليار نسمة منهم مليون أمي في البلدان النامية والبقية في البلدان المصنعة والبلدان النامية هي في أغلبها بلدان عربية واسلامية وافريقية فالحاجة ماسة ومتأكدة لمضاعفة الجهد المبذول بتفاوت كبير في البلدان النامية من أجل الطموح المشروع في تحقيق التنمية والرخاء وليس الأمر بالمستحيل فبلدان مثل اليابان واخرى بجوارها أعطت الأولوية المطلقة لتنمية الموارد البشرية استطاعت في أقل من أربعين سنة ان تصبح في الصدارة والمقدمة وأن تطمح اليوم كما هو الحال في اليابان الى ان تمحو الأمية في الاعلامية وانها لبالغة ذلك مثلما بلغت قبل ذلك ما رسمته من طموحات وأهداف فالنموذج والمثال قائم أمام أعيننا لا يحتاج الى دليل وبرهان للاقتناع به وما علينا الا أن نشمر على السواعد ونحدد الأهداف ونشرع في الانجاز والعمل.